خواطر من جبل البَرَكَة
« إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا » (متى 6: 22)
إنّ تفرّد القصد أو بساطته، والتعبّد لله من كل القلب هو الشرط الذي يشير إليه كلام المُخَلِّص. فليكن العزم مُخلصاً غير متردّد لمعرفة الحق وإطاعته مهما تكن الكلفة وحينئذ ستحصل على الإنارة الإلهية. إنّ التقوى الحقيقية تبدأ عندما ينتهي كل تواطؤ مع الخطية. وحينئذ تصير لغة القلب هي قول بولس الرسول: « أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ، أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ » « إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ » (فيلبي 3: 13، 14، 8). ArMB 44.7
ولكن عندما تُعمي محبة الذات العينَ لا يوجد غير الظلام. « وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ » (متى 6: 23). هذه هي الظلمة المخيفة التي اكتنفت اليهود ولفّتهم في أكفان عدم الإيمان العنيد مما جعل من المستحيل عليهم أن يقدروا صفات ورسالة ذاك الذي قد جاء لكي يخلصهم من خطاياهم. ArMB 45.1
إنّ الاستسلام للتجربة يبدأ بأن تسمح للعقل بأن يتردّد وتكون غير ثابت في ثقتك بالله. فإذا كنّا لا نختار تسليم ذواتنا لله بالتمام فإنّنا نكون حينئذ في الظلمة. فإن عملنا أيّ تحفظ فنحن إنّما نترك بابا مفتوحا يمكن للشيطان أن يدخل منه ليضلّنا بتجاربه. فهو يعرف أنّه إذا كان يظلم أبصارنا بحيث لا تستطيع عين الإيمان أن ترى الله فلن يكون هنالك أيّ حاجز يمنع الخطية. ArMB 45.2
إنّ تفشي الشهوة الخاطئة يبرهن على ضلال النفس. فكل إفراط في تلك الشهوة يقوّي ويزيد كراهية النفس لله ونفورها منه. إنّنا إذ نسير في الطريق الذي قد اختاره الشيطان تكتنفنا أشباح الشرّ وظلامه وفي كل خطوة ننحدر إلى ظلمة أشدّ وأحلك وهذا يزيد من عمى القلب. ArMB 45.3
ونفس القانون يسري في العالم الروحي كما في العالم الطبيعي. فالذي يمكث في الظلمة يفقد أخيرا قوة الإبصار. إنّه يُحبس في ظلمة أشدّ ادلهمـامـاً من ظلـمة نصف الليـل. ونور الظـهيرة الباهر لا يأتيه بأيّ نور، فهو: « فِي الظُّلْمَةِ يَسْلُكُ، وَلاَ يَعْلَمُ أَيْنَ يَمْضِي، لأَنَّ الظُّلْمَةَ أَعْمَتْ عَيْنَيْهِ » (1يوحنا 2: 11). إنّ الخاطئ بسبب إصراره على احتضان الشرّ واستخفافه بتوسّلات المحبة الإلهية في عناد يخسر حب الخير والاشتياق إلى الله ونفس المقدرة على قبول نور السماء. إنّ دعوة الرحمة لا تزال مفعمة بالمحبة. والنور لا يزال يضيء بلمعانه كما عندما بزغ على نفسه أول مّرة. ولكن الصوت يطرق آذانا صمّاء والنور يقع على عيون عمياء. ArMB 45.4
إنّ الله لا يهجر أيّ نفس هجرانا نهائياً ولا يسلم ذلك الإنسان إلى طرقه طالما هنالك أمل في خلاصه. « فالإنسان يرتد عن الله، أمّا الله فلا يرتد عنه أو يتركه ». إنّ أبانا السماوي يتبعنا بتوسّلاته وإنذاراتِه وتأكيدات رحمته إلى أن تصير الفرص والامتيازات التي تُقدّم بعد ذلك عديمة الجدوى. فالمسؤولية تقع على الخاطئ. فهو إذ يقاوم روح الله اليوم إنّما يعدّ الطريق لمقاومة النور مرّة ثانية عندما يأتي بقوة أعظم. وهكذا يتقدّم من طور لآخر من أطوار المقاومة إلى أن يُمسي النور عديم التأثير في النهاية ويكفّ هو عن الاستجابة لروح الله بأيّ قدر. وحينئذ فحتى « النُّورُ الَّذِي فِيكَ » يصير ظلاماً. فنفس الحق الذي نعرفه يصير مفسدا ومحرقا بحيث يزيد من عمى النفس. ArMB 45.5