قِصَّة الفداء

162/229

عقوبة هيرودس

عندما بلغت هذه الأخبار مسامع هيرودس، اهتاج وغضب أشدَّ غضب، واتَّهم حُرَّاس السجن بعدم الأمانة، فحُكِم عليهم بالموت بتهمة النوم أثناء نوبة حراستهم. وفي الوقت عينه، كان هيرودس يعلم بأنَّ يدًا بشرية لم تكن هي التي أنقذت بطرس، لكنَّه أصرَّ على عدم الاعتراف بأنَّ قوَّة إلهيَّة أحبطت أغراضه ومخطَّطاته. فلم يتواضع، بل وقف يتحدَّى الله بكلِّ جرأة. SRAr 298.1

بعد نجاة بطرس مِن السجن بوقت قصير نزل هيرودس مِن اليهوديَّة إلى قيصريَّة وسكن هناك. وأقام احتفالًا عظيمًا قصد منه أنْ يُثير إعجاب الشعب ويظفر باستحسانهم. وقد حضر إلى هذا المهرجان طُلَّاب السرور والملذَّات مِن جميع الأرجاء، وأقيمت الولائم وكان هناك خمر كثير. وقد ظهر هيرودس أمام الشعب في أبَّهة وعظمة وفخامة، وكان مُتسربلًا بِحُلَّة تتألَّق بالذهب والفضَّة، وانعكست بين طيَّاتها اللامعة أشعَّة الشمس فأبهرت الأنظار. فوقف أمام الجماهير بأبَّهة عظيمة وتشريفات، وراح يُلقي عليهم خطابًا بليغًا. SRAr 298.2

إنَّ جلال مظهره وقوَّة لغته المميَّزة هزَّا مشاعر أولئك المحتفلين بقوَّة عظيمة. كانت أحاسيسهم قد تلفت بالفعل نتيجة نهمهم وإفراطهم في الملذَّات وشرب الخمر؛ وقد أبهرتهم حُلَّته المُتلألئة وسحر تصرُّفاته وبلاغة خطابه؛ وإذ أفرطوا في تحمُّسهم له، أمطروه بوابل مِن كلمات التملُّق مُعلنين أنَّه إله وأنَّه لا يمكن لبشر أنْ يظهر بمثل ذلك المظهر أو تكون له مِثل تلك الفصاحة. ثمَّ أعلنوا فوق ذلك أنَّهم وإنْ كانوا قبلًا يكرِّمونه كحاكم فإنَّهم مِن الآن فصاعدًا سيسجدون له باعتباره إلهًا. SRAr 298.3

كان هيرودس يعلم بأنَّه لم يكن يستحقُّ شيئًا مِن ذلك التمجيد والإجلال؛ ومع ذلك لم يوبِّخ وثنيَّة الشعب، بل قَبِلها كأنَّها مِن حقِّه. وتألَّق وجهه إذ أشبع كبرياءه عندما سمع الصرخات ترتفع قائلة: «هذَا صَوْتُ إِلهٍ لا صَوْتُ إِنْسَانٍ!” (أعمال الرسل ١٢: ٢٢). إنَّ الأصوات نفسها التي تُسمع الآن وهي تمجِّد رجلًا خاطئًا، كانت منذ سنوات قليلة ترتفع بصيحات مجنونة للإطاحة بيسوع!، قائلة: «اصلبه! اصلبه!». قَبِلَ هيرودس هذا التملُّق والإجلال بسرور بالغ، وخفق قلبه بفرحة الانتصار؛ لكنْ فجأة طرأ عليه تغيير سريع ومُخيف. لقد شحب وجهه شحوب الموت وتشوَّه مِن الألم؛ ونضحت من جسمه قطرات كبيرة مِن العرَق. وقف للحظة كما لو كان قد طُعِنَ بالألم والرعب؛ ثمَّ التفت بوجهه المحتقن الشاحب إلى أصدقائه المصعوقين مِن هول الرعب، وصرخ صرخات يأس جوفاء: «إنَّ الذي كنتم تمجِّدونه كإله قد طُعِن بحربة الموت!». SRAr 298.4

كان يُقاسي أشدَّ العذابات المُبرحة مِن مشهد العربدة الشرِّيرة الصاخبة والمرح والأبَّهة والمظاهر التي بات يشمئزُّ منها الآن في نفسه. قَبْل ذلك بلحظة كان يقبل بغطرسة التسبيح والعبادة مِن ذلك الجمع الغفير، أمَّا الآن فقد أحسَّ بأنَّه بين يدي حاكم أعظم وأقوى منه. وقد اكتنفته الندامة وتبكيت الضمير؛ إذ تذكَّر أمره القاسي بقتل يعقوب البريء؛ وتذكَّر اضطهاده لأتباع المسيح بلا رحمة أو هوادة، وعزْمه على قتل الرسول بطرس الذي أنقذه الله مِن يده؛ لقد تذكَّر كيف أنَّه في خيبته وسخطه الفاشل صبَّ جامات انتقامه غير المعقول على حُرَّاس السجن وقتلهم دون رحمة. لقد أحسَّ بأنَّ الله الذي أنقذ الرسول مِن الموت يتعامل الآن معه وهو المضطَهِد المُتصلِّب الذي لا يعرف الرحمة. ولم يجد راحة لا مِن آلام الجسد ولا مِن عذاب العقل، ولم يكن ينتظر شيئًا مِن ذلك. لقد كان هيرودس يعرف شريعة الله القائلة: «لا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي” (خروج ٢٠: ٣)، كما كان يعرف أنَّه بقبوله عبادة الشعب كان قد ملأ مكيال إثمه وجلب على نفسه غضب الله العادل. SRAr 299.1

إنَّ الملاك الذي ترك السماء لينقذ بطرس مِن قوَّة مُضطهِده كان هو رسول الغضب والدينونة بالنسبة لهيرودس. لقد ضرب الملاك جنبَ بطرس ليوقظه مِن النوم؛ ولكنَّ الضربة التي وجهها إلى ذلك الملك الشرِّير كانت تختلف إذ جلبت عليه مرضًا مميتًا. لقد صبَّ الله الازدراء على كبرياء هيرودس. أمَّا شخصه الذي عرضه في مظهر مُزيَّنٍ ومتألِّق أمام ذهول المعجبين مِن الشعب، فقد أكله الدود وتحلَّل وهو على قيد الحياة. وهكذا مات هيرودس مُتأثِّرًا بعذابات جسديَّة وعقليَّة هائلة تحت دينونة الله وعقابه. SRAr 299.2

إنَّ عدل الله الذي ظهر بوضوح قد ترك أثره القويُّ الفعَّال على الشعب. فبينما نجا رسول المسيح مِن السجن والموت بطريقة معجزيَّة، صُعِق مُضطهِده بلعنة الله. وقد وصلت هذه الأخبار إلى البلدان كافَّة، وكانت مِن بين الوسائل التي عملت على الإتيان بالكثير مِن الناس إلى الإيمان بالمسيح. SRAr 300.1