المُعلّم الأعظم
٢ - « الزَّارع خَرجَ ليزرَع »
(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في متى ١٣: ١-٩، ١٨-٢٣؛مرقس ٤: ١-٢٠؛ لوقا ٨: ٤-١٥).
إن المسيح يشرح لنا في مثل الزارع الأمور المختصة بملكوت السَّمَاوَات وعمل الفلاح العظيم لأجل شعبه. فكزارع في الحقل أتى هو ليبذر بذار الحق السماوي. وكان نفس تعليمه بالأمثال البذار الذي به زُرعت أثمن حقائق نعمته. إنّ مثل الزارع نظرا لبساطته لم يُقَّدر التقدير اللائق به. يريد المسيح أن يرشد أذهاننا من البذرة الطبيعية التي تُزرع في الأرض إلى بذار الإنجيل، الذي يؤول زرعه إلى رجوع الإنسان إلى حالة الولاء لله. فذاك الذي ضرب مثل البذرة الصغيرة هو ملك السماء، ونفس النواميس التي تسود على البذار الأرضي تتحكم في زرع بذار الحق. COLAr 28.1
فبجانب بحر الجليل اجتمع جماعة ليروا يسوع ويسمعوه — وكانوا جمعا مشتاقا ومنتظرا. كان هناك المرضى منطرحين منتظرين أن يتقدموا إليه بشكاتهم. وكان حق المسيح المعطى له من الله أن يشفي أمراض جنسنا الخاطئ وبلاياه. وها هو الآن قد انتهر المرض ونشر من حوله الحياة والصحة والسلام. COLAr 28.2
وإذ بدأ عدد المتجمهرين يتكاثر، زاد ضغط الشعب على المسيح بحيث لم يعد يوجد متّسع لمزيد. فإذ تكلم المسيح كلمات قليلة مع الرجال الذين في قوارب صيدهم نزل في القارب الذي كان في انتظاره ليأخذه عبر البحيرة، وإذ أمر تلاميذه أن يبعدوا قليلاً عن البرّ جعل يخاطب الجموع الذين على الشاطئ. COLAr 29.1
بجانب البحر امتدّ سهل جَنِيّسَارَت الجميل ومن خلفه ارتفعت التلال، وعلى جانب التلال وفي السهل كان الزارعون والحاصدون مشتغلين، هذا في إلقاء البذار وذاك في جمع الحصاد المبكر. فإذ نظر المسيح إلى هذا المشهد قال: « فَكَلَّمَهُمْ كَثِيرًا بِأَمْثَال قَائِلاً:” هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَرًا، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ » (متى ١٣: ٣-٨). COLAr 29.2
إنَّ الناسَ في عهد المسيح لم يفهموا رسالته. فلم تكن كيفية مجيئه مطابقة لتوقعاتهم. لقد كان الرب يسوع أساس كلّ التدبير اليهودي. كانت خدماتهم المهيبة بموجب تعيين إلهي. وكان القصد منها تعليم الشعب انه في الوقت المعين سيأتي ذاك الذي كانت تلك الطقوس تشير إليه. ولكنّ اليهود مجّدوا الفرائض والطقوس وغاب عن أنظارهم هدفها وغايتها. إنّ التقاليد وقوانين الناس وتشريعاتهم اخفت عنهم الدروس التي قصد الله أن يتعلّموها. فقد صارت هذه القوانين والتقاليد عقبة في طريق فهمهم وممارستهم للدين الحقيقي. وعندما جاءت الحقيقة في شخص المسيح لم يمّيزوا فيه إتمام كل رموزهم وجوهر كل رموزهم وظلالهم. لقد رفضوا المرموز إليه وتعلقوا برموزهم وطقوسهم العديمة النفع. إنّ ابن الله قد أتى ولكنهم ظلوا يسألون آية. والرسالة القائلة: « تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ » أجابوا عليها بأن طلبوا آية (متى ٣: ٢). COLAr 29.3
لقد كان إنجيل المسيح صخرة عثرة لهم لأنهم طلبوا آيات بدلا من أن يطلبوا مخلصاً. كانوا ينتظرون أن يثبت مسّيا صدق ما قاله عن قدرته على كسب انتصارات عظيمة، وتأسيسه إمبراطوريته على أطلال ممالك الأرض. وقد أجاب المسيح على هذا التوقع بما جاء في مثل الزارع. فملكوت الله لم يكن لينتصر بقوّة السلاح أو التدخل العنيف بل بغرس مبدأ جديد في قلوب بني الإنسان. COLAr 30.1
« اَلزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ » (متى ١٣: ٣٧). فالمسيح قد أتى لا كملك بل كزارع، لا ليهدم الممالك بل ليلقي البذار، لا ليوجّه تابعيه إلى نصرات أرضية وعظمة قومية بل إلى حصاد يجب أن يُجمع بعد كدّ صبور في وسط الخسائر والمفشلات. COLAr 30.2
لقد فهم الفريسيون معنى مَثَل المسيح ولكنهم لم يكونوا يرحبون بالدرس المستفاد منه. فقد تظاهروا بأنّهم لم يفهموه. أمّا بالنسبة إلى الجمع فقد اشتمل المثل، في سرّ أعظم، على غرض المعلم الجديد الذي قد حرك كلامه قلوبهم بكيفية غريبة ولكن بمرارةٍ خيّب كلّ طموحهم. أمّا التلاميذ أنفسهم فلم يفهموا المثل، إلاّ أنّ اهتمامهم قد أثير. فجاءوا إلى يسوع على انفراد ليفسره لهم. COLAr 30.3
هذا هو الشوق الذي كان المسيح يرغب في أن يثيره فيهم، لكي يقدّم لهم مزيداً من الإرشادات المعينة. وقد فسر لهم المثل، كما يفسر ويوضح كلمته لكل من يطلبونه بقلوب خالصة. فالذين يدرسون كلمة الله بقلوب مفتوحة لإنارة الرُّوح الْقُدُس لن يفوتهم فهم معنى الكلمة. قال المسيح: « إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَلْ هُوَ مِنَ اللهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي » (يوحنا ٧: ١٧). فكل مَن يأتون إلى المسيح في طلب معرفة أوضح للحق سينالونها. وهو سيكشف لهم عن أسرار ملكوت السَّمَاوَات، والقلب الذي يتوق لمعرفة الحق سيفهم هذه الأسرار. وسيضيئ نور سماوي في هيكل النفس وسيعلن للآخرين كسراج موقد منير في طريق مظلم. COLAr 30.4
« هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ ». كانت الحالة في الشرق غير مستقرة، وكان يوجد خطر عظيم من الغزو والعنف حتى كان أكثر الناس يسكنون في مدن ذات أسوار، وكان الفلاحون يخرجون كل يوم لمباشرة أعمالهم خارج الأسوار. وهكذا المسيح الزارع السماوي خرج ليزرع. لقد ترك وطنه حيث الأمن والسلام، ترك المجد الذي كان له عند الآب قبل كون العالم، وترك مكانه على عرش الكون. ثم خرج إنسانا متألّما مجرّباً، خرج منفردا ليزرع بالدموع وليروي بدمه بذار الحياة للعالم الهالك. COLAr 31.1
وبنفس هذه الكيفية يجب على خدامه أن يخرجوا ليزرعوا. فإِبْرَاهِيم حين دُعي ليصير زارع بذار الحق صدر إليه هذا الأمر قائلاً « اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ » (تكوين ١٢: ١) : « فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي » (عبرانيين ١١: ٨). وكذلك إذ كان بولس الرسول يصلّي في الهيكل في أورشليم جاءته هذه الرسالة من الله: « اذْهَبْ، فَإِنِّي سَأُرْسِلُكَ إِلَى الأُمَمِ بَعِيدًا » (أعمال ٢٢: ٢١). وكذلك من يُدعون COLAr 31.2
ليتحدوا مع المسيح عليهم أن يتركوا كل شيء ليتبعوه. فيجب فصم عرى الصداقة مع العشراء القدامى، ويجب هجر خطط الحياة والتخلي عن الآمال الأرضية. فيجب أن يُزرع الزرع بالتعب والدموع والوحشة والتضحية. COLAr 32.1
« اَلزَّارِعُ يَزْرَعُ الْكَلِمَةَ » (مرقس ٤: ١٤). لقد جاء المسيح ليزرع كلمة الحق في العالم. فمنذ سقوط آدم دأب الشيطان في زرع بذار الضلال. فلقد تسلط على الإنسان في البدء بكذبة وهكذا هو ما زال يعمل ليهدم ملكوت الله في الأرض وليجعل الناس تحت سلطانه. وقد أتى المسيح الذي هو زارع من عالم أسمى ليزرع بذار الحق. فذاك الذي وقف في مجمع الله، والذي سكن في داخل مقدس الإله السرمدي أمكنه أن يأتي إلى الناس بمبادئ الحق النقية. فمنذ سقوط الإنسان كان المسيح هو معلن الحق للعالم. وبواسطته سُلمت للناس البذرة التي لا تفنى « كَلِمَة اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ » (١بطرس ١: ٢٣). ففي ذلك الوعد الأول المقدم لجنسنا الساقط في جنة عدن كان المسيح يزرع بذار الإنجيل. ولكن مثل الزارع ينطبق بكيفية خاصة على خدمة المسيح الشخصية بين الناس وعلى العمل الذي قد ثبته. COLAr 32.2
وكلمة الله هي البذار. إنّ كل بذرة مودع فيها مبدأ الإنبات. ففي داخلها تكمن حياة النبات. وكذلك في كلمة الله توجد الحياة. فالمسيح يقول: « اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ » (يوحنا ٦: ٦٣). « مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ » (يوحنا ٥: ٢٤). ففي كل أمر وكل وعد في كلمة الله توجد قوة الله ونفس حياته التي بواسطتها يمكن للإنسان أن يطيع الأمر وبالتالي يتحقق له الوعد. إنّ من يقبل الكلمة بإيمان إنّما يقبل نفس حياة الله وصفاته. COLAr 33.1
هذا، وان كلّ بذر يثمر ثمرا كجنسه. فازرع البذار بموجب الشروط الصحيحة فتنتقل حياته إلى النبات. وإذا كنت تقبل في نفسك بالإيمان بذرة كلمة الله التي لا تفنى فإنها ستثمر صفات وحياة شبيهة بصفات الله وحياته. COLAr 33.2
إن معلمي اليهود لم يكونوا يزرعون بذار كلمة الله. فقد كان يوجد تباين واضح بين عمل المسيح كمعلم للحق وعمل معاصريه من معلّمي اليهود. لقد حَّولوا جل اهتمامهم إلى التقاليد والنظريات والتخمينات البشرية. وكثيرا ما كانوا يضعون ما قد علم به الناس وكتبوه عن كلمة الله في مكان الكلمة نفسها. ولهذا فلم يكن لتعليمهم قوّة على إحياء النفس. أما المسيح فكان موضوع تعليمه وكرازته كلمة الله. وكان يواجه المتسائلين والمتشككين بالقول: « مَكْتُوب »، « ماذا يقول الكتاب؟ »، « كَيْفَ تَقْرَأُ؟ » وفي كل فرصة عندما يستيقظ اهتمام صديق أو عدوّ كان السيد يزرع بذار الكلمة. فذاك الذي هو الطريق والحق والحياة والذي هو نفسه الكلمة الحية يشير إلى كلمة الله قائلا: « وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي » وإذ « ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ » جعل يفسر لتلميذيه « الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ » (يوحنا ٥: ٣٩؛ لوقا ٢٤: ٢٧). COLAr 33.3
ويجب على خدام المسيح أن يقوموا بنفس العمل. ففي أيامنا هذه كما في أيام القدم نرى أن الحقائق الحية لكلمة الله قد ألقى بها جانبا واستعيض عنها بنظريات البشر وتخميناتهم. إنّ كثيرين ممن يُعرف عنهم أنهم خدام الإنجيل لا يقبلون كل الكتاب على انّه كلمة الله الموحى بها. فهذا رجل حكيم يرفض جزءا من الكتاب، ورجلٌ آخر يشكّ في جزء آخر. يجعلون حكمهم أسمى من حكم الكلمة، والآية التي يعملون بها تستند على سلطانهم. وهكذا يطمس منشأها الإلهي وبهذه الكيفية يبذر بذار الإلحاد على مدى واسع، لأن الناس يرتبكون ولا يعرفون ما الذي يصدقونه. توجد عقائد كثيرة لا حق للعقل أن يقبلها. في أيام المسيح جعل رؤساء اليهود لكثير من أجزاء الكتاب استنتاجا قهريا غامضا. فلكون تعليم كلمة الله الواضحة دان تصرفاتهم وشجبها حاولوا أن يلاشوا قوتها. وهذا ما يحدث في يومنا هذا. فكلمة الله تُصَّور على أنها مبهمة وغامضة لكي يكون ذلك مبررا للناس ليرتكبوا خطية العصيان على شريعته. والمسيح وبخ هذه التصرفات في أيامه، فقد علّم أنّ كلمة الله يجب أن يفهمها الجميع. وأشار إلى الكتاب المُقَدَّس كالحجة غير المشكوك في صدقها أو سلطانها، وهذا نفس ما يجب علينا أن نفعله. فيجب تقديم الكتاب ككلمة الله السرمدي، وكفيصل ينهي كل مشاجرة أو خصام، وأساس كل إيمان. COLAr 34.1
لقد جُرد الكتاب من قوته، وها نحن نرى النتائج في انحطاط الحياة الروحية. فالعظات التي تلقى من على المنابر اليوم ينقصها ذلك الإعلان الإلهي الذي يوقظ الضمير ويمنح النفس حياة. ولا يستطيع السامعون أن يقولوا: « ألم يكن قلبنا ملتهبا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتاب؟ » (لوقا ٢٤: ٣٢). يوجد كثيرون ممن يصرخون إلى الإله الحيّ مشتاقين إلى حضور الله. فالنظريات الفلسفية والرسائل الأدبية مهما تكن باهرة متألقة لا يمكنها أن تشبع القلب. إنّ تصريحات الناس واختراعاتهم لا قيمة لها. فلتتكلم كلمة الله إلى الشعب. وأولئك الذين لم يسمعوا غير التقاليد والآراء والقوانين البشرية، ليسمعوا صوت ذاك الذي تستطيع كلمته أن تجدّد النفس للحياة الأبدية. COLAr 35.1
إنّ الموضوع الذي كان محبّبا إلى قلب المسيح هو رقة الله الأبوية ونعمته المتفاضلة. لقد تكلم كثيرا عن قداسة صفاته وشريعته. وقدم نفسه للناس على أنّه الطريق والحق والحياة. فلتكن هذه هي المواضيع التي يتكلم فيها خدام المسيح. قدموا الحق كما هو في يسوع. وأوضحوا مطاليب الناموس والإنجيل. وأخبروا الناس عن حياة المسيح. حياة إنكار الذات والتضحية. وعن اتضاعه وموته وقيامته وصعوده وشفاعته لأجلهم في محاكم الله، وعن وعده القائل: « آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ » (يوحنا ١٤: ٣). COLAr 35.2
فبدلا من التحدث في نظريات خاطئة مضللة أو محاولة مقارعة خصوم الإنجيل اتبعوا مثال المسيح. لتلمع الحقائق الجديدة المستقاة من كلمة الله وخزانته في الحياة « اكْرِزْ بِالْكَلِمَةِ. اعْكُفْ عَلَى ذلِكَ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ »، « طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الزَّارِعُونَ عَلَى كُلِّ الْمِيَاهِ »، « وَالَّذِي مَعَهُ كَلِمَتِي فَلْيَتَكَلَّمْ بِكَلِمَتِي بِالْحَقِّ. مَا لِلتِّبْنِ مَعَ الْحِنْطَةِ، يَقُولُ الرَّبُّ »، « كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ نَقِيَّةٌ … لاَ تَزِدْ عَلَى كَلِمَاتِهِ لِئَلاَّ يُوَبِّخَكَ فَتُكَذَّبَ » (٢تيموثاوس ٤: ٢؛ إِشَعْيَاء ٣٢: ٢٠؛ إِرْمِيَا ٢٣: ٢٨؛ أمثال ٣٠: ٥، ٦). COLAr 35.3
« اَلزَّارِعُ يَزْرَعُ الْكَلِمَةَ » (مرقس ٤: ١٤) هنا يقدم المبدأ العظيم الذي يجب أن يكون أساس كل عمل تهذيبي. « الزَّرْعُ هُوَ كَلاَمُ اللهِ » (لوقا ٨: ١١). ولكن في مدارس كثيرة جدا في أيامنا هذه نجد أن كلمة الله ملقاة في زوايا النسيان. فتوجد موضوعات أخرى تشغل الذهن. إنّ دراسة مؤلفات الكتَّاب الملحدين أُفسح لها مجال كبير في نظم التعليم. والآراء الإلحادية تُنسج في مادة الدرس في الكتب المدرسية. والبحث العلمي يصير مضللا لأن استكشافاته تحرَّف وتُفسد. وكلمة الله تشبَّه وتقارن بتعاليم العلم المزعومة، ويبدو وكأنها غير يقينية وغير موثوق بها. وهكذا يُزرع بذار الشك في عقول الشباب وفي وقت التجربة ينمو ويكبر ومتى ضاع الإيمان بكلمة الله فالنفس تُمسي بلا مرشد أو حارس. والشباب ينقادون في طرق تبعدهم عن الله والحياة الأبدية. COLAr 36.1
فإلى هذا السبب، إلى حد كبير، يُعزى الإثم المستشري في عالمنا اليوم. فعندما يُلقى بكلمة الله جانباً فإنّ قوتها على كبح أهواء القلب الطبيعي الشريرة تُرفض. الناس يزرعون للجسد ومن الجسد يحصدون فساداً. COLAr 36.2
وهنا أيضا يكمن السبب العظيم لضعف العقل وقصوره. فالعقل إذ يتحوّل بعيدا عن كلمة الله ليقتات على كتابات رجال غير ملهمين فالعقل يمسي قاصراً ورخيصاً تافهاً. فهو لا يلامس مبادئ الحق الإلهي الأبدية العميقة الواسعة الرحاب. والفهم يكيّف نفسه على إدراك واستيعاب الأشياء المألوفة لديه. وفي تكريسه نفسه للأشياء المحدودة يضعف وتتقلّص قدرته. وبعد وقت يصير غير قادر على التمدّد والتوسّع. COLAr 36.3
كل هذا تهذيب كاذب. فعمل كل معلّم يجب أن يهدف إلى تثبيت وتركيز عقول الشباب في الحقائق السامية، حقائق كلمة الوحي. هذا هو التعليم الجوهري لهذه الحياة والحياة الآتية. COLAr 36.4
ولكن لا يظنَّن ظانّ أن هذا سيمنع دراسة العلوم أو يسبّب تخفيضا في المستوى التهذيبي. إنّ معرفة الله عالية وسامية بقدر علو السماء، ومتسعة بقدر اتساع الكون. لا شيء يسمو بالإنسان ويشرّفه وينشطه كدراسة المباحث العظيمة الخاصة بحياتنا الأبدية. فليحاول الشباب فهم هذه الحقائق المعطاة من الله وحينئذ تتسع مداركهم وتتقوى عندما يبذلون هذا الجهد. وهذا سيأتي بكل طالب عامل بالكلمة إلى حقل للفكر أرحب ويضمن له ثروة من المعرفة لا تفنى. COLAr 37.1
والتهذيب الذي يُجتنى من تفتيش الكتب هو معرفة اختبارية لتدبير الخلاص. مثل هذا التهذيب يعيد إلى النفس صورة الله ويقوي العقل ويحصّنه ضد التجربة ويؤهل المتعلم لأن يكون عاملا مع المسيح في رسالة رحمته إلى العالم. ويجعله عضوا في الأسرة السماوية ويؤهله لشركة ميراث القديسين في النور. COLAr 37.2
إلاّ أنّ معلّم الحق المقدس لا يمكنه أن يعطي للغير إلاّ ما قد عرفه هو بالاختبار. « خَرَجَ الزَّارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ » (لوقا ٨: ٥). إنّ المسيح قد علَّم الحق لأنَّه كان هو الحق. ففكرهُ وصفاته واختبار حياته تجسمت في تعليمه. وكذلك الحال مع خدامه، فالذين يريدون أن يعلموا الكلمة يجب أن يجعلوها ملكا لهم بالاختبار الشخصي. عليهم أن يعرفوا معنى أن يصير المسيح لهم حكمة وبراً وقداسة وفداء. فإذ يقدمون كلمة الله للآخرين عليهم ألاّ يجعلوها فرضا أو احتمالا. بل عليهم أن يعلنوا مع بطرس الرسول قائلين: « لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ » (٢بطرس ١: ١٦). فعلى كل خادم من خدام المســيح وعلى كل معلم أن يكون قادراً أن يقول مع يوحنـا الحبيب: « فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا » (١يوحنا ١: ٢). COLAr 38.1