المُعلّم الأعظم

11/61

٥ - « مِـثْل حَـبّة خَـردل »

كان بين الجموع التي استمعت لتعليم المسيح كثيرون من الفريسيين. هؤلاء الناس لاحظوا بازدراء قلة عدد من اعترفوا به كمسيّا من بين سامعيه. وكانوا يسائلون أنفسهم كيف يمكن لهذا المعلّم الساذج أن يرفع شأن إسرائيل إلى ذروة السيادة الشاملة. فبدون غنى أو سلطان أو كرامة كيف يمكنهُ أن يوطّد دعائم الملكوت الجديد؟ وقد قرأ المسيح أفكارهم فأجابهم: COLAr 71.1

« بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ أَوْ بِأَيِّ مَثَل نُمَثِّلُهُ »؟ في حكومات الأرض لا يوجد ما يصلح لأن يكون شبيهاً به. ولا يوجد مجتمع مدني يمكن أن يتخذه السيد رمزاً له، فقال: « مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل، مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ. وَلكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ، وَتَصْنَعُ أَغْصَانًا كَبِيرَةً، حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا» (مرقس ٤: ٣٠-٣٢). COLAr 71.2

إنّ الجرثومة التي في البذرة تنمو بتفتح مبدأ الحياة الذي قد غرسه الله فيها. ونموّها لا يتوقف على أية قوة بشرية. وكذلك الحال مع ملكوت المسيح. إنّه خليقة جديدة. ومبادئ نموه هي على نقيض المبادئ التي تحكم على ممالك هذا العالم. فالممالك الدنيوية تنتصر بالقوة والعنف وتحتفظ بأملاكها بالحروب. ولكن مؤسس الملكوت الجديد هو رئيس السلام. إنّ الرُّوح الْقُدُس يشبِّه ممالك العالم بالوحوش الضارية المفترسة، أما المسيح فهو « هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ » (يوحنا ١: ٢٩). وفي تدبيره للحكم لا يوجد استخدام للقوة الوحشية لإرغام الضمير. كان اليهود ينتظرون أن يتأسس ملكوت الله بنفس وسيلة تثبيت ممالك العالم. فلكي ينشروا البر لجأوا إلى إجراءات خارجية. وابتكروا وسائل وخططاً. ولكن المسيح يغرس مبدأ. فإذ يثبِّت الحق والبر يعرقل عمل الضلال والخطية. COLAr 72.1

فإذ نطق يسوع بهذا المثل كان يمكن رؤية شجرة الخردل من بُعد ومن قرب وقد ارتفعت فوق العشب والحنطة وكانت أغصانها تلوح في الهواء برشاقة. وكانت الطيور تنتقل من فرع إلى آخر وترسل أغاريدها من خلال أوراق الأغصان. ومع ذلك فإن البذرة التي منها نبتت هذه الشجرة العظيمة كانت من أصغر البذور كلها. في بادئ الآمر أخرجت غُصيناً صغيراً رقيقاً، ولكنه كان ذا حيوية قوية فنما وازدهر إلى أن وصل إلى حجمه الحالي العظيم. وكذلك ملكوت المسيح فقد ظهر في بدئه حقيراً لا يُعتد به. فلو قورن بممالك العالم لبدا أصغرهن جميعاً. لقد كان حكام هذا العالم يسخرون من تصريح المسيح بأنّه ملك. ومع ذلك ففي الحقائق العظيمة الجبارة المسلمة لتلاميذه كانت لملكوت الإنجيل قوة حياة إلهية. وما كان أسرع نموه وما كان أوسع مدى تأثيره! عندما نطق المسيح بهذا المثل لم يكن غير عدد قليل من فلاحي الجليل ليمثلوا الملكوت الجديد. COLAr 72.2

إنّ فقرهم وقلة عددهم اعتبرا مرارا كثيرة سببا لأجله لا يليق بالناس أن ينضموا إلى هؤلاء الصيادين السذج الذين تبعوا يسوع. ولكن حبة الخردل كان عليها أن تنمو وتمد أغصانها في كل أنحاء العالم. وعندما تندثر وتزول ممالك الأرض التي ملأ مجدها قلوب الناس حينئذ فإن ملكوت المسيح سيبقى قوة جبارة تملأ الأرجاء. COLAr 73.1

وهكذا عمل النعمة في القلب هو صغير في مبدئه. فإذ تُقال كلمة ينسكب شعاع من النور في النفس وتُبذل قوة وتأثير هما بدء الحياة الجديدة، ومن ذا الذي يستطيع أن يقيس نتائجهما! COLAr 73.2

إنّ مثل حبة الخردل لا يشرح نمو ملكوت المسيح فقط بل في كل طور من أطوار النمو يتكرر الاختبار المشروح في المثْل. لقد أعد الله لكنيسته في كل عصر وكل جيل حقّاً خاصاً وعملا خاصا. فالحق الذي قد أُخفي عن عقلاء هذا العالم وحكمائه أُعلن لمن هم كالأطفال والودعاء. إنّه يتطلب إنكار الذات والتضحية. ولديه معارك يخوضها ونصرات يحرزها. في البدء نجد أن مناصريه قليلون. فعظماء العالم والكنيسة المجارية للعالم يقاومونهم ويزدرونهم. انظروا يوحنا المعمدان سابق المسيح وهو واقف وحده موبخا كبرياء الأمة اليهودية وتمسكها بالرسميات. وانظروا حاملي الإنجيل الأولين إلى أوروبا. وكم كانت رسالة بولس وسيلا، صانعي الخيام، تبدو مغمورة وبائسة حين أبحرا مع رفقائهما من ترواس إلى فيلبي. ثم انظروا « بُولُسَ الشَّيْخِ » السفير في سلاسل وهو يكرز بالمسيح في معقل القياصرة. ثم انظروا إلى الجماعات الصغيرة من العبيد والفلاحين وهم في نضال مع وثنية روما الإمبراطورية. وانظروا كذلك إلى مارتن لوثر وهو يصمد أمام تلك الكنيسة العظيمة التي هي طُرفة الحكمة العالمية. انظروه وهو متشبث بكلمة الله ضد الإمبراطور والبابا وهو يقول « إنّي اتخذ موقفي هنا. ولا يمكنني أن افعل غير ذلك. وليكن الله في عوني ». ثم انظروا جون وسلي وهو يكرز بالمسيح وبرّه في وسط التمسك بالطقوس والشهوانية والإلحاد. انظروا إنساناً مثقلاً بحمل ويلات العالم الوثني متوسلا في طلب امتياز حمل رسالة محبة المسـيح إليهم. ثم اسمـعـوا بماذا أجـابه رجال الإكليروس، فقد قــالوا لـه: « اجلس أيها الشاب. إنّ الله حين يريد أن يهدي الوثنيين فهو سيفعل ذاك بدون مساعدتك أو مساعدتنا. » COLAr 73.3

إنّ قادة الفكر الديني العظام في هذا العصر يشيدون بمديح من قد زرعوا بذار الحق في القرون الماضية ويقيمون لهم الأنصاب. إلا يوجد كثيرون ممن ينحرفون عن هذا العمل ليطأوا بأقدامهم على النبات الطالع مـن نفـس هـذا البـذار اليـوم؟ إنّ الصـرخة القديمـة تتردّد من جديد قائلة: « نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللهُ (أي المسيح في شخص الرسول الذي يرسله) وَأَمَّا هذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ » (يوحنا ٩: ٢٩). وكما في الأجيال القديمة نجد أن الحقائق الخاصة بهذا العصر لا توجد في سلطات رجال الدين بل مع الرجــال والنسـاء الذين ليسـوا أعلم ولا أحكم من أن يؤمنوا بكلمة الله. COLAr 74.1

« فَانْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنْ لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لَيْسَ كَثِيرُونَ أَقْوِيَاءَ، لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءَ، بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ » (١كورنثوس ١: ٢٦-٢٨): « لِكَيْ لاَ يَكُونَ إِيمَانُكُمْ بِحِكْمَةِ النَّاسِ بَلْ بِقُوَّةِ اللهِ » (١كورنثوس ٢: ٥). COLAr 74.2

وفي هذا العصر الأخير سيصل مثل حبة الخردل إلى إتمام ظافر وفريد. فالحبة الصغيرة ستصير شجرة. وآخر رسالة للإنذار والرحمة ستصل إلى « كُلَّ أُمَّةٍ وَقَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ » (رؤيا ١٤: ٦-١٤) : « لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ شَعْبًا عَلَى اسْمِهِ » (أعمال ١٥: ١٤) وستستنير الأَرْضُ مِنْ بَهَائِهِ (رؤيا ١٨: ١). COLAr 74.3