المُعلّم الأعظم

5/61

في الأرض المحجرة

« وَالْمَزْرُوعُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ، وَحَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَحٍ، ٢١ وَلكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ » (متى ١٣: ٢٠، ٢١). COLAr 41.2

إنّ البذرة المزروعة في الأرض المحجرة لا تجد إلاّ عمقاً قليلاً من التربة. فينمو النبات بسرعة. إلاّ أنّ الجذر لا يمكنه اختراق الصخر ليجد غذاءً يساعده على النمو فسرعان ما يذبل ويموت. إنّ كثيرين ممّن يعترفون بالديانة هم سامعون تُشبه قلوبهم الأماكن المحجرة. إنّ أنانية القلب الطبيعي تكمن تحت تربة رغائبهم الصالحة وأشواقهم كالصخر الذي يكمن تحت طبقة التربة. فحبّ الذات لم يخضع. وهم لم يروا شرّ الخطية العظيم. والقلب لم يتذلّل تحت الإحساس بإثمه. هذا النوع من الناس قد يسهل إقناعهم ويبدو أنّهم متجدّدون أذكياء، إلاّ أنّ تدينهم سطحي. COLAr 41.3

إنّ الناس يرتدّون لا لأنّهم يقبلون الكلمة حالا ولأنّهم يفرحون بها. إنّ متَّى العشار حالما سمع دعوة المُخَلِّص قام في الحال وترك كل شيء وتبعه. فحالما تأتي كلمة الله إلى قلوبنا فالله يريدنا أن نقبلها ومن الصواب أننا نقبلها بفرح. « إِنَّهُ هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ » (لوقا ١٥: ٧). ويوجد فرح في النفس التي تؤمن بالمسيح. ولكن الناس المذكورين في المثل الذين يقال عنهم أنّهم يقبلون الكلمة حالا، لا يحسبون النفقة. ولا يتأملون فيما تطلبه كلمة الله منهم. وهم لا يأتون بها وجها لوجه أمام كل عادات حياتهم ولا يخضعون ذواتهم بالتمام لسلطانها. COLAr 41.4

إنّ جذور النبات تتعمّق في التربة. وإذ تكون مخفية عن العيون تُغذّي حياة النبات. وكذلك الحال مع المسيحي، فبواسطة الاتّحَاد غير المنظور بين نفسه والمسيح أي بالإيمان تتغذّى الحياة الروحية. ولكن السامعين ذوي القلوب المُحجرة يعتمدون على الذات بدل اتكالهم على المسيح. إنّهم يثقون بأعمالهم الصالحة وبواعثِهم الطيبة وهم أقوياء ببرّهم. إنّهم ليسوا أقوياء بالرب وفي شدة قوته. إنسان من هذا النوع « لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ » (متى ١٣: ٢١) لأنَّه غير مرتبط بالمسيح. COLAr 42.1

إنّ شمس الصيف الحارّة التي تقوّي الحنطة الناجحة وتنضجها تقتل ما لم تكن جذوره متعمّقة. وهكذا الذي « لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ » « هُوَ إِلَى حِينٍ» لأنه: « فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ » (متى ١٣: ٢١). إنّ كثيرين يقبلون الإنجيل كوسيلة للنجاة من الألم، بدلا من قبوله للخلاص من الخطية. وهم يفرحون إلى حين إذ يظنّون أنّ الدين سيحرّرهم من المشقّات والتجارب. وإذ تسير الحياة معهم هيّنة ليّنة يبدو وكأنّهم مسيحيون ثابتون. ولكنهم يخورون تحت ضغط امتحان التجربة المحرقة. إنّهم لا يستطيعون احتمال العار لأجل المسيح. وعندما تشير كلمة الله إلى خطية محبّبة أو تطلب منهم إنكار الذات أو التضحية يعثرون. إن إجراء تغيير جوهري في حياتهم قد يكلّفهم مجهودا كبيرا. إنّهم ينظرون إلى التعب الحاضر والتجربة ولكنهم ينسون الحقائق الأبدية. فكالتلاميذ الذين تركوا يسوع هم موشكون أن يقولوا: « هَذَا الْكَلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟ » (يوحنا ٦: ٦٠). COLAr 42.2

يوجد أناس كثيرون جدّا ممن يدّعون انّهم يخدمون الله ولكنهم لا يعرفونه معرفة اختبارية. إنّ شوقهم إلى عمل مشيئته مبني على ميلهم لا على إقناع الرُّوح الْقُدُس العميق. وتصرفهم ليس على وفاق مع شريعة الله. إنّهم يقرّون بأنهم قبلوا المسيح مخلصا لهم إلاّ أنّهم لا يؤمنون بأنّه سيمنحهم القوة للانتصار على خطاياهم. فليست لهم صلة شخصية بالمُخَلِّص الحيّ، وصفاتهم تكشف عن نقائصهم الموروثة والتي ربّوها في قلوبهم. COLAr 43.1

إن قبول فاعلية الروح في القلب بوجه عام شيء، أمّا قبول عمله كمبكّت يدعو إلى التوبة فشيء آخر. إنّ كثيرين عندهم إحساس بالتباعد عن الله يدركون عبوديتَهم للذات والخطية ويبذلون جهودا للإصلاح ولكنهم لا يصلبون الذات. إنهم لا يسلمون ذواتهم بالتمام بين يدي المسيح طالبين القوة الإلهية لعمل مشيئته. وهم غير راغبين في أن يُصاغوا حسب صورته الإلهية. إنهم يعترفون بنقائصهم بكيفية عامة إلاّ أنهم لا يقلعون عن خطاياهم الخاصة. وبكلّ عملٍ خاطئ نجد أن طبيعتهم القديمة المحبة لذاتها تزداد قوةً. COLAr 43.2

والرجاء الوحيد لهؤلاء الناس هو أن يتحققوا في نفوسهم صدق كلام المسيح لنيقوديموس إذ قال: « يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ »، « إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ » (يوحنا ٣: ٧، ٣). COLAr 43.3

القداسة الحقيقية هي خدمة الله الكاملة. هذا هو شرط العيشة المسيحية الحقّة. إنّ المسيح يطلب تكريسا في غير تحفظ وخدمة غير منقوصة. إنّه يطلب القلب والعقل والنفس والقدرة. وينبغي عدم تدليل الذات. فالذي يعيش لذاته ليس مسيحياً. COLAr 43.4

وينبغي أن تكون المحبة هي المبدأ الباعث على العمل. فالمحبة هي المبدأ الأساسي في حكم الله في السماء وعلى الأرض، وينبغي أنّها تكون أساس الخلق المسيحي. فهذا وحده يمكنه أن يحفظ المسيحي ثابتاً. وهذا وحده كفيل بان يقدّره على الصمود أمام المحن والتجارب. COLAr 44.1

والمحبة تظهر في التضحية. إنّ تدبير الفداء كان أساسه التضحية — التضحية التي هي واسعة وعميقة وعالية جدّا بحيث لا يمكن أن تقاس أبعادها هذه. لقد بذل المسيح كل شيء لأجلنا والذين يقبلون المسيح لابد أن يكونوا على أتمُ استعداد للتضحية بكلّ شيء في سبيل فاديهم، وانّ التفكير في كرامته ومجده يأتي قبل أيّ شيء آخر. COLAr 44.2

وإذا كنا نحب يسوع فسنرغب في أن نحيا له ونقدم له ذبائح الحمد ونخدمه. ونفس التعب لأجله سيكون هيّنا وخفيفا. فلأجله نتوق إلى الألم والتعب والتضحية. وسنشعر معه في شوقه لأجل خلاص الناس. وسنحس بنفس الشوق الرقيق الذي يحسّ هو به نحو النفوس. COLAr 44.3

هذا هو دين المسيح. وكلّ ما يقصر دون ذلك هو خداع. إنّ مجرّد العلم النظري بالحق والاعتراف بالتلمذة له لا يمكن أن يخلص النفس. إنّنا لا يمكننا أن نكون خاصة المسيح ما لم نكن له بالتمام. لأنَّه بسبب فتور الهمة في الحياة المسيحية تضعف عزائم الناس وتتبدل أشواقهم. إنّ محاولة أيّ إنسان لأن يخدم الذات والمسيح معا تجعله سامعا شبيها بالأرض المحجرة ولن يصمد عندما يجوز في بوتقة الامتحان. COLAr 45.1