الرَجَاء العَظيم

11/11

١١ - نصرة المحبة

وفي ختام الألف سنة سيجيء المسيح إلى الأرض ويصحبه جموع المتفدين وتحف به حاشية من الملائكة. يأمر المسيح الموتى الأشرار بأن يقوموا ليدانوا ويحكم عليهم. فيخرجون وهم جمع كبير جداً بلا عدد كرمل البحر حاملين في أجسادهم آثار المرض والموت, فيا له من فرق شاسع بين هؤلاء وأولئك الذين كان لهم نصيب في القيامة الأولى! GrH 104.1

وكل عين تلتفت لتشاهد مجد ابن الله. وبصوت واحد يصرخ الأشرار قائلين: “مبارك الآتي باسم الرب” (متى 39:23). وليست المحبة هي التي تلهمهم هذا الكلام بل قوة الحق تنتزع الكلام من شفاههم الكارهة انتزاعا. فكلما نزل الاشرار الى قبورهم كذلك خرجوا بالعداوة للمسيح وبروح العصيان نفسيهما. ولن يُعطَوا فرصة اختبار اخرى ليصلحوا نقائص حياتهم الماضية. GrH 104.2

والنبي يقول: “وتقف قدماه في ذلك اليوم على جبل الزيتون... فينشق جبل الزيتون من وسطه” (زكريا 4:41). وإذ تنزل أورشليم الجديدة من السماء ببهائها الذي يخطف الأبصار فهي تستقر في الموضع الذي قد تطهر وأعد لاستقبالها، فيدخل إليها المسيح ومعه شعبه وملائكته ويحلون في تلك المدينة المقدسة. GrH 104.3

ان قائد الشر اذ كان مجردا من سلطانه ومنقطعا عن عمل الخداع كان شقيا ومغموما، ولكن اذ يقام الموتى الاشرار ويرى هو ذلك الجمع العظيم الى جانبه تنتعش آماله ويصمم على عدم التسليم في ذلك الصراع الهائل. وحينئذ يصفّ كل جيوشه من الهالكين تحت رايته منذ رفضوا المسيح وقبلوا حكم ذلك القائد المتمرد وهم على استعداد لقبول مقترحاته وتنفيذ أمره. ولكن تمشيا مع خداعه ومكره القديم فهو لا يعترف بانه الشيطان. ويدعي أنه الملك والمالك الشرعي للعالم الذي أاغتُصب منه ميراثه ظلما. وهو يصور نفسه لرعاياه المخدوعين بانه الفادي ويؤكد لهم ان قوته هي التي اخرجتهم من قبورهم. فيقوّي الضعفاء ويلهم الجميع بروحه ونشاطه وقوته ويقترح ان يتقدمهم لمحاربة معسكر القديسين للاستيلاء على مدينة الله. ويشير الى الملايين التي لا حصر لها الذين قد اقيموا من الاموات ويعلن انه بصفته قائدا لهم هو قادر على قلب المدينة واستعادة سلطانه وملكه. GrH 104.4

وبين ذلك الجمع الغفير توجد جماهير من الجنس الذي يعيش منذ عصور القدم قبل الطوفان، رجال طوال القامة ذوو عقول جبارة. رجال قادت اعمالهم الفنية العجيبة العالم الى ان يعبد عبقريتهم ونبوغهم لكنّ قسوتهم ومخترعاتهم الشريرة التي نجست الارض وشوهت صورة الله جعلته يمحوهم من على وجه الخليقة. يوجد ملوك وقواد وجبابرة بأس لم ينهزموا قط في معركة، والموت لم يُحدث تغييرا في هؤلاء القوم. فاذ يخرجون من قبورهم يستأنفون تفكيرهم السابق نفسه والرغبة نفسها في الغزو والفتح، وستحفزهم هذه الأفكار مثلما كانت تفعل عندما سقطوا. GrH 105.1

المعركة الأخيرة ضد الله — يتشاور الشيطان مع هؤلاء الجبابرة. فيعلنون ان الجيش الذي في داخل أسوار المدينة صغير بالمقابلة مع جيوشهم وانه يمكن الانتصار عليه. ويشرع الرجال المهرة في صنع اسلحة القتال. والقواد الحربيون الذين اشتهروا بنجاحهم يصفون جموع رجال الحرب في جماعات وأقسام. GrH 105.2

وأخيرا يصدر الامر بالانطلاق فيتقدم الى الامام ذلك الجمع الذي لا يحصى عديده، ولا تضارعه كل الجيوش في مختلف العصور مجتمعة معا. والشيطان يتقدم الجيش والملوك والجبابرة هم ضمن حاشيته. وبدقة حربية تتقدم تلك الصفوف المتماسكة إلى الأمام على سطح الأرض المشقق الوعر نحو مدينة الله. وبناء على أمر يسوع تغلق أبواب أورشليم الجديدة فتحاصر جيوش الشيطان المدينة ويستعدون للهجوم. GrH 106.1

والآن يظهر المسيح أمام عيون أعدائه. وفوق المدينة على ارتفاع شاهق يوجد عرش عالٍ ومرتفع على أساس من الذهب المصقول. وعلى هذا العرش يجلس ابن الله وحوله رعايا ملكوته. ان مجد الله السرمدي يحيط بابنه وبهاء حضوره يملأ مدينة الله ويفيض خارج الابواب ويملأ الارض كلها بلألائه. GrH 106.2

واقرب الناس الى العرش هم أولئك الذين كانوا قبلا متحمسين للشيطان. ولكن اذ كانوا كشعلات منتشلة من الحريق فقد اتّبعوا مخلصهم في تكريس عميق قوي. ويّلى هؤلاء أولئك الذين قد كملوا الصفات المسيحية واحتفظوا بها في وسط الكذب والالحاد، أولئك الذين أكرموا شريعة الله في وقت اعتبرها العالم المسيحي باطلة، وملايين من كل الاجيال الذين استشهدوا لأجل ايمانهم. وخلف هؤلاء يوجد “جمع كثير لم يستطع أحد ان يعده من كل الامم والقبائل والشعوب والألسنة ... متسربلين بثياب بيض وفي ايديهم سعف النخل” (رؤيا 9:7). لقد انتهت حربهم وأحرزوا الانتصار. وسعف النخل التي في أيديهم هي رمز الانتصار، والثياب البيض هي رمز لبر المسيح الذي صار لهم الآن. GrH 106.3

وفي كل ذلك الجمع المتألق بالنور لا يوجد احد ينسب الخلاص الى نفسه كما لو انه قد انتصر بقوته وصلاحه. لا يذكر شيء عما قد قاسوه، لكن كل أغنية ومطلع كل انشودة هو الخلاص لإلهنا وللخروف. GrH 107.1

النطق بالحكم ضد المتمردين — وفي محضر سكان الارض والسماء المجتمعين يتوج ابن الله. والآن وقد زُوِّد بالجلال والمجد الفائقين فان ملك الملوك ينطق بحكمه ضد العصاة على سلطانه وينفذ عدله على من قد عصوا عليه وتعدوا شريعته وضايقوا شعبه وظلموهم. “ثم رأيت عرشا عظيما أبيض والجالس عليه الذي من وجهه هربت الارض والسماء ولم يوجد لهما موضع. ورأيت الاموات صغارا وكبارا واقفين أمام الله وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر وهو سفر الحياة ودين الأموات مما هو مكتوب في الاسفار بحسب اعمالهم” (رؤيا 11:20و 12). GrH 107.2

وحالما تقع عين يسوع على الأشرار ويشعرون بكل خطيئة ارتكبوها. ويرون المكان نفسه الذي فيه انحرفت أرجلهم بعيدا عن طريق الطهارة والقداسة. والتجارب الخادعة التي شجعوها على تضليلهم بانغماسهم في الخطيئة، ورسل الله الذين احتقروهم، والانذارات التي رفضوها، وأمواج الرحمة التي صدُّوها بقلوبهم العنيدة القاسية غير التائبة، كل هذه تظهر واضحة كما لو كانت مكتوبة بحروف من نار. GrH 107.3

وفوق العرش يُرى الصليب. وتظهر مشاهد تجربة آدم وسقوطه كما على شاشة بيضاء فسيحة. وتظهر كذلك الخطوات المتتابعة في تدبير الفداء العظيم. فميلاد المخلص الوضيع، وحياته التي قضاها في بساطة، ومعموديته في الاردن، والصوم والتجربة في البرية، وخدمته الجهارية التي كشف فيها للناس عن اثمن بركات السماء، والايام التي ازدحمت بأعمال الرحمة، والليالي التي كان يقضيها مصليا في الجبال، والجزاء الذي ناله من مؤامرات الحسد والكراهية والخبث في مقابل الخير العظيم الذي نالوه على يديه، والعذاب الأليم المخيف الغامض في جثسيماني تحت الثقل العظيم لخطايا العالم كله؛ وتسليمه لأيدي الرعاع المجرمين القتلة، والحوادث المخيفة التي حدثت في ليلة الرعب تلك، الاسير المستسلم وقد تركه تلاميذه، وهو يساق بكل قسوة وعنف ويحاكَم في قصر رئيس الكهنة، وفي دار ولاية بيلاطس وأمام هيرودس الجبان، وقد سخروا به وأهانوه وعذبوه وحكم عليه بالموت، وكل ذلك يصوَّر بكل وضوح. GrH 107.4

والآن تعلن المشاهدة النهائية أمام ذلك الجمع الحاشد: فالمتألم الصبور يسير في الطريق الى جلجثة، ملك السماء يُعلق على الصليب، الكهنة والأحبار يهزأون بآلام احتضاره، الظلمة غير الطبيعية تغشى الارض محددة اللحظة التي فيها أسلم فادي العالم روحه. GrH 108.1

يبدو المنظر المخيف كما كان تماما. فالشيطان وملائكته ورعاياه لا يستطيعون الابتعاد عن الصورة التي تصورعملهم. فكل ممثل يذكر الدور الذي مثَّله: هيرودس الذي قتل أطفال بيت لحم الابرياء. وهيروديا السافلة التي يستقر على نفسها الآثمة دم يوحنا المعمدان، وبيلاطس الضعيف خادم الزمان، والجنود الساخرون والشعب المجنون الذي صرخ قائلاً: “دمه علينا وعلى أولادنا”. الجميع يرون هول جريمتهم. وعبثاً يحاولون الاختباء من جلال وجه الله. بينما المتفدون يطرحون أكاليلهم عند رجلي المخلص صارخين وقائلين: “لقد مات عني!” GrH 108.2

فهناك يوجد نيرون ذلك الوحش الذي اشتهر بالقسوة والرذيلة وهو يرى فرح الذين قد عذبهم وتمجيدهم في ما كان يجد سروره الشيطاني وهو يراهم يقاسون أرهب العذابات. وأمه هناك لتشهد نتيجة عملها ولترى كيف ان الاهواء والشهوات التي تجرأ ابنها على السير فيها وتنميتها بقوة وتأثريها. ومثالها قد آتت ثمارها في الجرائم التي جعلت العالم يرتعد من هولها. GrH 108.3

وهناك يوجد كهنة وأساقفة بابويون ممن ادعوا انهم سفراء المسيح ومع ذلك فقد لجأوا الى آلات التعذيب والسجون والحرق بالنار ليتحكموا في ضمائر شعبه. وهناك الباباوات المتكبرون الذين رفعوا انفسهم فوق الله وتجرأوا على تغيير شريعة العلي. فآباء الكنيسة الادعياء أولئك عليهم حساب عسير يقدمونه الى الله. ويرون في وقت متأخر جدا ان الله العليم بكل شيء يغار على شريعته. وهم يعلمون الآن ان المسيح يقرن مصلحته بمصالح شعبه المتألمين. GrH 109.1

ان العالم الشرير كله يقف متهما امام محكمة الله بتهمة الخيانة العظمى ضد حكم السماء. ولا يجدون من يترافع عنهم في قضيتهم، فهم بلا عذر وقد صدر ضدهم الحكم بالموت الابدي. GrH 109.2

والاشرار يرون ما قد اضاعوه بحياة العصيان التي عاشوها. وتقول النفس الهالكة صارخة: “كان يمكنني امتلاك كل هذا ولكني ابعدت كل هذه الأشياء عني. آه يا له من جنون غريب! لقد استعضت عن السلام والسعادة والكرامة بالشقاء والعار واليأس”. والجميع يرون أن طردهم من السماء عادل. ففي حياتهم أعلنوا قائلين: “لا نريد أن يسوع هذا يملك علينا”. GrH 109.3

هزيمة الشيطان — لقد نظر الاشرار الى تتويج ابن الله وكأنهم ذاهلون. انهم يرون بين يديه لوحي الشريعة الالهية، الوصايا التي قد احتقروها. ويشهدون الدهشة المشبوبة والفرح الغامر والتمجيد الذي يقدمه المخلصون. واذ تكتسح موجة النغمات المطربة الجموع الذين خارج المدينة فالجميع يصرخون قائلين بصوت واحد: “عظيمة وعجيبة هي أعمالك يا ملك القديسين”. ويسقطون على وجوههم يقدمون السجود لرئيس الحياة. (رؤيا 3:15). GrH 109.4

ثم ان الشيطان يبدو كأنه وقد شُلَّت قواه. إن الذي كان أحد السرافيم المتألقين بالنور قد طرد الى الأبد من المجلس الذي كان قبلاً مكرماً فيه. والآن يرى آخر غيره واقفا بالقرب من الآب السماوي. ويرى ملاكاً جليل المنظر. ويعرف ان المركز السامي الذي يشغله هذا الملاك كان يمكن ان يشغله هو. GrH 110.1

ثم تستعيد الذاكرة وطن برارته وطهارته والسلام والقناعة اللذين كانا من صفاته الى ان أقدم على التمرد والعصيان. ثم يستعرض أعماله بين الناس ونتائجها: عداوة الانسان لأخيه الانسان، وهلاك الحياة الرهيب وقيام الممالك وسقوطها وقلب العروش، وتوالي حوادث الشغب الطويلة والحروب والثورات. ثم يستعرض محاولاته المستمرة في مقاومة عمل المسيح. واذ ينظر الشيطان الى مملكته، ثمرة جهوده، لا يرى غير الفشل. ومرارا وتكرارا في سير الصراع الهائل انهزم وأرغم على التسليم. GrH 110.2

لقد كان غرض التمرد الاعظم دائما تبرير نفسه واقامة البرهان على ان سياسة الله هي المسؤولة عن العصيان. جعل جماهير كثيرة من الناس يقبلون تفسيره للصراع الهائل الذي ظل محتدما هذا الامد الطويل. فعلى امتداد آلاف السنين ظل رئيس التآمر هذا يُلبس الباطل ثوب الحق. ولكن ها قد اتى الوقت الذي فيه يُهزم العصيان نهائيا ويكشف الستار عن تاريخ وصفاته. ان المخادع الاعظم في محاولته الاخيرة ان يخلع المسيح عن عرشه ويهلك شعبه ويستولي على مدينة الله انكشف القناع عن وجهه تماما. والذين اتحدوا معه يرون فشل قضيته اخيرا فشلا تاما. GrH 110.3

يرى الشيطان ان تمرده الذي أقدم عليه بمحض اختياره لا يؤهله للسماء. لقد درب قواه على محاربة الله. وطهارة السماء وسلامها وانسجامها ستكون سبب عذاب هائل له. والآن فها الشيطان ينحني معترفا بعدالة الحكم الذي صدر ضده. GrH 111.1

والآن قد اتضح كل شك أو تساؤل في ما يختص بالحق والضلال في الصراع الهائل الطويل الامد. ونتائج العصيان وثمار طرح شريعة الله جانبا اتضحت أمام انظار كل الخلائق العاقلة. ان تاريخ الخطيئة سيظل الى الأبد شاهدا على ان سعادة كل خلائق الله مرتبطة ارتابطا وثيقا بوجود شريعته. فكل المسكونة، المخلصون منهم والعصاة، يعلنون بفم واحد قائلين: “عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين.” GrH 111.2

وقد أتت الساعة التي يتمجد فيها اسم المسيح فوق كل اسم يسمى. إنه من أجل السرور الموضوع أمامه — لكي يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد- احتمل الصليب.انه ينظر الى المفتقدين وقد تجددوا فصاروا في شبه صورته. انه يرى فيهم نتيجة تعب نفسه فتطيب نفسُه (إشعياء 11:53). وبصوت يصل الى اسماع الجماهير المجتمعة من الابرار والاشرار يعلن حينئذ قائلا: “هوذا مقتنى دمي! فلأجل هؤلاء تألمت ولأجلهم مت” GrH 111.3

نهاية الأشرار القاسية — تبقى صفات الشيطان كما هي من دون تغيير. فروح العصيان ترتد عليه كسيل جارف. وصمم على عدم الاستسلام في صراع أخير يائس ضد ملك السماء. ولكن من بين الملايين التي لا تحصى الذين قد أغواهم على العصيان لا يوجد الآن ولا واحد يعترف بسيادته. والأشرار تملأهم ذات الكراهية التي تعتمل في قلب الشيطان تجاه الله. لكنهم يرون أن قضيتهم صارت ميئوساً منها. GrH 111.4

تنزل نار من عند الله من السماء. والارض تتكسر فتخرج من فجواتها نار محرقة ونفص الصخور تشتغل بالنار.والعناصر تذوب بحرارة متوقدة وتحترق أيضا الارض وكل المصنوعات التي فيها (2بطرس 10:3). وسطح الارض يبدو كأنه كتلة واحدة ذائبة : بحيرة واسعة من النار تغلي. إنه “للرب يوم انتقام سنة جزاء من أجل دعوى صهيون” (إشعياء 8:34). GrH 112.1

وسيعاقب الأشرار “حسب أعمالهم”. وسيتألم الشيطان لا لأجل عصيانه فحسب بل لأجل كل الخطايا التي جعل شعب الله يرتكبونها. إن الأشرار يهلكون أصلاً وفرعاً في النار المطهرة؛ فالشيطان هو الأصل وأتباعه هم الفروع. لقد وقع قصاص التعدي على الناموس كاملاً، وقد أجيبت كل مطالب العدل. ان عمل التخريب والهلاك الذي قام به الشيطان قد انتهى الى الابد. أما الآن فان خلائق الله سيتخلصون الى الابد من وجود الشيطان وتجاربه. GrH 112.2

واذ تلتف الارض في رداء من النار يكون الأبرار ساكنين مطمئنين في المدينة المقدسة. وفي حين أن الله هو نار آكلة للأشرار فهو لشعبه شمس ومجن” (انظر رؤيا 6:20؛ مزمور 11:84). GrH 112.3

وطننا النهائي — “ورأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولى قد مضتا” (رؤيا 1:21). إن النار التي تحرق الأشرار تطهر الأرض. وكل أثر من آثار اللعنة يمحى. ولن تكون هنالك نار جحيم أبدية لتذكر الأبرار المفديين بعواقب الخطيئة المخيفة. GrH 112.4

ولكن يبقى مذكر واحد، ذلك ان فادينا سيظل حاملا في جسده سمات صلبه، الآثار الوحيدة للعمل القاسي الذي احدثته الخطيئة. ومدى دهور الابد ستكون جروح جلجثة مبعث الحمد له واعلانا لقدرته. GrH 112.5

لقد اكد المسيح لتلاميذه انه ماض ليعد لهم منازل في بيت الآب. ان لغة البشر قاصرة عن وصف مكافأة الابرار, ولن يغرفها الا من يرونها. ولا يمكن لعقل محدود قاصر ان يدرك مجد فردوس الله! GrH 113.1

يدعى ميراث المخلصين في الكتاب المقدس “وطناً” (عبرانيين 14:11- 16). فهناك يقود الراعي السماوي قطيعه الى ينابيع مياه حية. ويوجد دائما انهار جارية صافية ونقية كالباور وعلى وجوانبها اشجار تلقي ظلالها الوارفة على الطرق المعدة لمفتدي الرب. وهناك ترتفع السهول الفسيحة فتصير تلالا آية في الجمال وجبال الله تعلو بقممها الشامخة. وفي تلك السهول الهادئة التي بجوار الينابيع الحية يجد شعب الله، الذين ظلوا أمدا طويلا غرباء وتائهين وطنا ومستقرا. GrH 113.2

“ويبنون بيوتا ويسكنون فيها ويغرسون كروما ويأكلونا ثمارها. لا يبنون وآخر يسكن ولا يغرسون وآخر يأكل ... يستعمل مختاريَّ عمل أيديهم”. “تفرح البرية والارض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس”. “فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي ... وصبي صغير يسوقها... “لاَ يَسُوؤُونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي” (إشعياء 21:65و 22؛2:35؛6:11و 9). GrH 113.3

ليس للألم وجود في جو السماء. ولن نكون هناك دموع ولا مواكب جنازات ولا شارات حداد. “والموت لا يكون في ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ... لأن الامور الاولى قد مضت”، “ولا يقول ساكن انا مرضت . الشعب الساكن فيها مغفور الاثم” (رؤيا 4:2؛ إشعياء 24:33). GrH 113.4

وهناك أورشليم الجديدة قصبة الارض الجديدة المجيدة: “لها مجد الله ولمعانها شبه أكرم حجر كحجر يشب بلوري”. “وتمشي شعوب المخلصين بنورها وملوك الارض يجيئون بمجدهم وكرامتهم اليها”، “هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعبا والله نفسه يكون معهم إلها لهم” (رؤيا 11:21و 3:24). GrH 114.1

وفي مدينة الله “لا يكون ليل هناك” (رؤيا 5:22). ولن يكون هنا تعب؟ وسنشعر دائما بنضارة الصبح ولن نخشى من انتهائها. ويفوق نورَ الشمس ضياءٌ لا يبهر الابصار أو يؤذيها ومع ذلك فهو يفوق نور منتصف النهار بما لا يقاس. والمفتدون يسيرون في مجد النهار الابدي. GrH 114.2

“لم أر فيها هيكلا لأن الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها” (رؤيا 22:21). ولشعب الله امتياز الشركة المباحة مع الآب والابن. فإننا ننظر الان في مرآة ولكننا سنراه حينئذ وجها لوجه من دون ان يكون هناك حجاب يحجب الرؤية. GrH 114.3

انتصار محبة الله — وستجد المحبة والعطف اللذين غرسهما الله نفسه في القلب أصدق تدريب واعذبه. والشركة الطاهرة مع الخلائق المقدسة ومع الرجال الأمناء في كل العصور. والروابط المقدسة التي توحد بين “كل عشيرة في السموات وعلى الأرض” وستساعد هذه الأمور في تشكيل سعادة المفديين (أفسس 15:3). GrH 114.4

هناك ستتأمل العقول الخالدة، بسرور متواصل، في عجائب القوة الخالقة وفي اسرار المحبة الفادية. وستنمو وتتطور في كل قوى النفس وتزداد مهارتها، وتحصيل المعرفة لن يتعب العقل ولن يرهق القوى. وهناك يمكن تنفيذ أجلَّ المشاريع. وأسمى الرغائب تتحقق وأرفع المطامح تُنال، ومع ذلك تظهر ذرى ليبلغها الإنسان، وعجائب جديدة ليعجب بها، وحقائق جديدة عليه ليدركها، وأغراض جديدة تتطلب بذل قوى العقل والنفس والجسد. GrH 114.5

وكل كنوز المسكونة ستكون مباحة لدراسة مفتدي الله. ولكونهم غير مقيدين بقيود الفناء فسيرتفعون الى أعالي العوالم البعيدة، فبفرح لا ينطق به يدخل ابناء الارض فرحَ الخلائق غير الساقطين وحكمتهم. وهم يتقاسمون معهم كنوز المعرفة والعلم التي حصلوا عليها مدى أجيال في التأمل في صنع الله. وبعيون صافية ينظرون الى مجد الخليقة: الشموس والكواكب والانظمة الكونية كل منها في مسارها المحيط بعرش الله. GrH 115.1

واذ تمر سنو الابدية فستأتي بإعلانات أغنى وأمجد عن الله والمسيح. وكما تتجدد المعرفة فكذلك ستتجدد المحبة والوقار والسعادة وتزيد كذلك. وكلما عرف الناس أشياء أكثر عن الله زاد اعجابهم بصفاته. واذ يكشف يسوع أمامهم غنى الفداء والاعمال العظيمة المدهشة في الصراع العائل مع الشيطان فإن قلوب المفتدين تختلج بتعبد حار عميق، فتتحد ربوات بروات وألوف ألوف من الاصوات في انشاد اغنية الحمد العظيمة. GrH 115.2

“وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وما على البحر كل ما فيها سمعتها قائلة: الجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان الى أبد الآبدين” (رؤيا 13:5). GrH 115.3

لقد انتهى الصراع العظيم. وما عاد للخطيئة أو للخطاة وجود. وقد صارت المسكونة كلها طاهرة. وفي عاطفة واحدة من الوفاق والفرح يشترك كل الخلائق. ومن ذاك الذي قد خلق الجميع تفيض الحياة والنور والبهجة في كل الاقاليم في الفضاء الذي لا حدود له. فمن أصغر ذرة الى أعظم كوكب، من حي الى جماد، بجمالها وكمالها كلها تشهد شهادة واحدة قائلة: الله محبة. GrH 115.4