الرَجَاء العَظيم

6/11

٦ - السلام الحقيقي

أينما يكرز بكلمة الله بأمانة تتبع ذلك نتائج مباركة تشهد لمصدرها الالهي. وقد أحس الخطاة بأن ضمائرهم قد استيقظت وأن عقولهم وقلوبهم قد تبكّضت تبكيتا عميقا. لقد كان عندهم إحساس ببر الرب. وقد صرخوا قائلين: “من يقنذني من جسد هذا الموت؟” (رومية 24:7). فإذ أُعلِن لهم صليب جلجثة رأوا أنه لا يوجد سوى استحقاقات المسيح تكفي للتكفير عن معاصيهم. وبدم المسيح حصلوا على “غفران خطاياهم الماضية” (رومية 25:3). GrH 54.1

لقد آمنت هذه النفوس واعتمدت وقامت لتسلك في جدة الحياة فصاروا خليقة جديدة بإيمان ابن الله ليسيروا في خطواته وليعسكوا صفاته وليطهروا أنفسهم كما هو طاهر. لقد صاروا الآن يبغضون ما كانوا قبلا يحبون ويحبون ما كانوا قبلا يبغضون. فالمتكبرون والمتغطرسون صاروا ودعاء ومتواضعي القلوب. والسكيرون صاروا صاحين والخلعاء طاهرين. ولم يطلب المسيحيون “الزِّينَةَ الْخَارِجِيَّةَ، مِنْ ضَفْرِ الشَّعْرِ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبْسِ الثِّيَابِ، بَلْ إِنْسَانَ الْقَلْبِ الْخَفِيَّ فِي الْعَدِيمَةِ الْفَسَادِ، زِينَةَ الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ، الَّذِي هُوَ قُدَّامَ اللهِ كَثِيرُ الثَّمَنِ. (1 بطرس 3: 3و4). GrH 54.2

وقد تميزت النهضات أو الانتعاشات بتوسلات حارة إلى الخطاة. وقد شوهدت ثمار مثل هذه الانتعاشات في كثيرين ممن لم يتراجعوا أمام انكار الذات والتضحية بل كانوا فرحين لانهم حُبسوا مستأهلين لان يحتملوا التعيير والتجارب لأجل المسيح. وقد رأى الناس تبدلا في حياة من قد اعترفوا باسم يسوع. مثل هذه الآثار تبعت أوقات النهضات الدينية في السنين السالفة. GrH 55.1

ولكن كثيراً من الانتعاشات التي حدثت في العصور الحديثة تختلف اختلافاً بيِّناً عن تلك التي ظهرت في الأيام القديمة. نعم، كثيرون يعترفون أنهم قد تجددوا وان الاقبال عظيم على الكنائس. ومع كل ذلك فالنتائج لا تبرر الاعتقاد أن هذا الاهتمام رافقته زيادة ملائمة في مستوى الحياة الروحية الحقيقية. ان النور الذي يرتفع لهيبه الى حين سرعان ما ينطفئ. GrH 55.2

ان الانتعاشات المألوفة كثيرا ما تحدث واثارة الانفعالات وإشباع شوق الناس الى كل ما هو جديد ومفزع. والمتجددون بهذه الوسائل لا يرغبون كثيراً في الاصغاء الى حق الانجيل، وما لم تكن الخدمة الدينية من النوع العاطفي فهي لا تجذبهم. GrH 55.3

وبالنسبة الى كل نفس مهتدية حقا ستكون الصلة بينها وبين الله والأمور الابدية هي مدار الحياة كلها وموضوعه. ولكن في أيّ كنيسة من الكنائس المشهورة في هذه الايام نجد روح تكريس الذات لله؟ فالمتجددون لا ينبذون كبرياءهم ولا حبهم للعالم، ولا عادوا راغبين في انكار الذات واتباع يسوع الوديع المتواضع أكثر مما كانوا قبل تجديدهم. فقوة التقوى تكاد تهجر كثيرا من الكنائس. GrH 55.4

أتباع حقيقيون للمسيح — ولكن على رغم انحطاط الايمان الشائع يوجد في هذه الكنائس أتباع أمناء للمسيح. فقبلما يفتقد الله الارض بضرباته الاخيرة سيحدث بين شعب الرب انتعاش في التقوى والقداسة على غرار ما حدث في عصر الرسل. فسينكسب روح الله وسينسحب كثيرون من تلك الكنائس التي فيها اتحلت محبة العالم مكان محبة الله وكلمته. وكثيرون من الخدام والشعب سيقبلون بكل سرور تلك الحقائق العظيمة التي أمر الله بأن ينادى بها في هذا الوقت لإعداد شعب لمجيء الرب ثانية. GrH 56.1

ان عدو النفوس يرغب في تعطيل هذا العمل. وقبل مجيء الوقت لمثل هذه النهضة سيحاول الشيطان أن يمنعها بتقديم شيء زائف بدلا منها. وفي تلك الكنائس التي يستطيع أن يجعلها تحت سلطانه الخادع سيجعل الامر يبدو للناس وكأن بركة الله الخاصة قد فاضت، وسيفرح جماهير من الناس لان الله “يعمل عملا عجيبا” في حين أن ذلك العمل هو عمل روح آخر. فتحت ثوب الدين سيحاول الشيطان أن يمد تأثيره على العالم المسيحي. وفي كثير من هذه الانتعاشات يكون ثمة اهتياج عاطفي هو مزيج من الحقيقي والزائف يساعد على التضليل. GrH 56.2

ففي نور كلمة الله ليس من الصعب على الانسان أن يحكم على طبيعة هذه الحركات. فعندما يهمل الناس شهادة الكتاب مبتعدين عن تلك الحقائق الواضحة الفاحصة للنفس والتي تتطلب إنكار الذات ونبذ العالم تُحجب عنهم بالتأكيد بركة الله. وبموجب القانون الذي وضعه المسيح نفسه والقائل: “من ثمارهم تعرفونهم” (متى 16:7) فمن الواضح أن هذه الحركات ليست من عمل روح الله. GrH 56.3

إن حقائق كلمة الله هي ترس لكل مَن يقبلونها يقيهم أضاليل الشيطان. واهمال هذه الحقائق هو ما فتح الباب لكل الشرور التي تفاقمت وانتشرت في كل العالم. لقد غابت عن انظار الناس طبيعة شريعة الله وأهميتها الى حد كبير. وساق الفهمُ الخاطئ لطبيعة شريعة الله الناسَ الى الاخطاء الخاصة بالهداية والتقديس، ونتج من ذلك خفض مقياس التقوى في الكنيسة. هنا نجد السر في افتقارنا الى روح الله في الانتعاشات التي تحصل في عصرنا الحاضر. GrH 56.4

ناموس الحرية — يؤكد كثيرون من معلمي الدين ان المسيح ابطل بموته الناموس. وبعض الناس يصورونه نيرا مكدرا محزنا، وعلى نقيض “عبودية” الناموس يقدمون الحرية التي يمتعهم بها الانجيل. لكنّ هذه لم تكن النظرة التي كان الانبياء والرسل ينظرون بها الى شريعة الله المقدسة. فلقد قال داود: “أتمشى في رحب لأني طلبت وصاياك” (مزمور 45:119). ويشير الرسول يعقوب إلى الوصايا العشر على أنها “الناموس الكامل ناموس الحرية” (يعقوب 25:1). وينطق الرائي بالبركة والطوبي على “الذين يصنعون وصاياه لكي يكون سلطانهم على شجرة الحياة ويدخلوا من الأبواب إلى المدينة” (رؤيا 14:22). GrH 57.1

فلو كان من الممكن تغيير الشريعة أو طرحها جانبا لما كان من حاجة الى ان يموت المسيح لينقذ الانسان من قصاص الخطيئة. وابن الله قد أتى لكي “يعظم الشريعة ويكرمها” (إشعياء 21:42). وهو الذي قال: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس”. “إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس” (متى 17:5 و18). أما عن نفسه فيعلن قائلاً: “أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت وشريعتك في وسط أحشائي” (مزمور 8:40). GrH 57.2

لا تتغير شريعة الله بطبيعتها. إنها إعلان إرادة وصفات مبدعها. الله محبة، وشريعته محبة. “المحبة هي تكميل الناموس” (رومية 10:13). يقول صاحب المزامير: “شريعتك حق” “كل وصاياك عدل” (مزمور 142:119 و172). وبولس الرسول يعلن قائلاً: “الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة” (رومية 12:7) مثل هذه الشريعة ينبغي أن تكون ثابتة وباقية كمبدعها. GrH 57.3

إن عمل التجديد والتقديس هو إصلاح ذات البين بين الناس والله يجعلهم في حالة وفاق مع مبادئ شريعته. في البدء كان الإنسان في حالة وفاق كامل مع شريعة الله. لكن الخطية فصلت بينه وبين خالقه ونشبت حرب في قلبه ضد مبادئ شريعة الله. “لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله إذ ليس هو خاضعاً لناموس الله لأنه أيضاً لا يستطيع” (رومية 7:8). ولكن “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد” لكي يتاح للإنسان أن يتصالح مع الله وأن يعود إلى حالة الوفاق مع جابله. هذا التغيير هو الولادة الجديدة التي من دونها “لا يقدر أن يرى ملكوت الله. (يوحنا 16:3 و3). GrH 58.1

إدانه الخطية — أولى خطوات المصالحة مع الله هي إقرار الخاطئ بخطيئته وإدانته لها. “الخطيئة هي التعدي” على شريعة الله. “بالناموس معرفة الخطيئة” (يوحنا 1: 3: 4؛ رومية 3: 20). فلكي يرى الخاطئ خطيئته عليه أن يقيس أخلاقه ويمتحنها بمقياس البر العظيم (الشريعة). إنه مرآة يُرى الإنسان كمال الصفات البارة ويقدره على اكتشاف النقص في أخلاقه. GrH 58.2

يكشف الناموس للإنسان عن خطاياه لكنه لا يقدم علاجاً لذلك. وهو يعلن أن الموت هو نصيب العصاة. صليب المسيح وحده هو الذي يستطيع أن يحرر الإنسان من دينونة الخطيئة ونجاستها. لذا ينبغي له أن يتوب إلى الله الذي قد تعدى على شريعته ويؤمن بالمسيح الذي هو ذبيحته الكفارية. وهكذا ينال “غفراناً” لخطاياه السالفة” (رومية 25:3) ويغدو ابناً لله. GrH 58.3

لوثر يوضح إيجاد الغفران والخلاص — هذا وإن رغبة لوثر الحارة في التحرر من الخطيئة والحصول على السلام مع الله قادته إلى تكريس نفسه لحياة الرهبنة. وقد طُلب منه ممارسة أحط ألوان الكدح المذل فكان يذهب من بيت إلى بيت مستجدياً أهل الإحسان. وتحمل الإذلال بصبر إذ كان يعتقد أنه ضروري له بسبب خطاياه. GrH 59.1

وعاش عيشة غاية في الصرامة، محاولا بواسطة الصوم والصلوات أن يقهر شر طبيعته. وقال فيما بعد: “لقد كنت في الحق راهباً تقياً واتبعت قوانين رهبانيتي بدقة أعجز عن التعبير عنها. ولو أُعطي لراهب أن يرث السماء بأعمال النسك التي يمارسها لكان لي الحق في امتلاكها... ولول استمريت على ذلك مدة أطول لأودى بي قمع الجسد وإذلال النفس إلى الموت؟” ولكن مع كل تلك الجهود لم تجد نفسه المثقلة راحة. وأخيراً انساق إلى حافة اليأس. GrH 59.2

عندما بد الموثر أن كل أمله قد ضاع دبر له الله صديقاً ومعيناً. ذلك أن ستوبِتز فتح ذهن لوثر أمام كلمة الله وأمره بأن يحول نظره بعيداً عن نفسه وينظر إلى يسوع. ثم قال له: “بدلاً من تعذيب نفسك لأجل خطاياك ألق بنفسك بين ذراعي الفادي. ثق به، في بر حياته وكفارته وموته... أصغ إلى ابن الله... الذي صار إنساناً ليمنحك يقين الرضى الإلهي”. “أحب ذاك الذي أحبك قبلاً” . فأثر كلامه في عقل لوثر تأثيراً عميقاً، فحل السلام في نفسه المضطربة. GrH 59.3

وبعد ذلك سُمع صوته في المنبر وهو يوجه الى سامعيه إنذاراً حاراً مقدسا. وقد شرح للشعب ان الخطيئة كريهة جدا، وعلمهم انه يستحيل على الانسان بأعماله ان يقلل من جرمها أو يفلت من قصاصها. ولا شيء يخلص الخاطئ غير التوبة الى الله والايمان بالمسيح. ونعمة المسيح لا يمكن شراؤها فهي هبة مجانية. ثم نصح الشعب بألا يشتروا صكوك الغفران بل ان ينظروا بالإيمان الى الفادي المصلوب. واخبرهم عن اختباره المؤلم المرير واكد لسامعيه انه قد حصل على السلام والفرح لكونه صرف نظره عن نفسه وآمن بالمسيح. GrH 59.4

هل يجعلنا الغفران في حِلٍ من الطاعة؟ - فهل هو حر الآن ليتعدى شريعة الله. يقول بولس “أفنبطل الناموس بالإيمان؟ حاشا بل نثبت الناموس”. “نحن الذين متنا عن الخطيئة كيف نعيش بعد فيها؟” : ويوحنا يعلن قائلاً: “هذه هي محبة الله أن نحفظ وصاياه ووصاياه ليست ثقيلة”. وعندما يولد الإنسان ثانية يصير القلب في حالة وفاق مع الله ومع شريعته. فعندما يحدث هذا التبدل في الخاطئ ينتقل من الموت إلى الحياة ومن التعدي والعصيان إلى الطاعة والولاء. لقد انتهت حياته القديمة وبدأت الحياة الجديدة، حياة المصالحة والإيمان والمحبة. حينئذ “يتم حكم (بر) الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح”. حينئذ ستكون لغة النفس هي هذه: “كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ! الْيَوْمَ كُلَّهُ هِيَ لَهَجِي” (رومية 31:3؛ 2:6؛ 1يوحنا 3:5؛ مزمور 97:119). GrH 60.1

من دون ناموس الله لا يدرك الناس خطاياهم ولا يحسون بحاجتهم إلى التوبة. والإنسان يقبل رجاء الخلاص من دون تغيير جوهري في القلب أو إصلاح للحياة. وهكذا تكثر هدايات سطحية وتنضم جماهير غفيرة ممن لم يرتبطوا بالمسيح أبداً إلى الكنيسة. GrH 60.2

ما هو التقديس؟ - تنشأ النظريات الخاطئة عن التقديس أيضاً من إهمال أو نبذ شريعة الله. وتلقى هذه النظريات، الزائفة والكاذبة في العقيدة والخطرة في العواقب العملية، استحساناً بصفة عامة. GrH 60.3

يعلن الرسول بولس: “لأن هذه هي إرادة الله قداستكم”. ويعلمنا الكتاب تعليماً واضحاً ماهية التقديس وكيفية الوصول إليه. لقد صلى المخلص لأجل تلاميذه قائلاً: “قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌ”. وبولس يعلمنا قائلاً أن على المؤمن أن يكون مقدساً بالروح القدس” (1 تسالونيكي 3:4؛ يوحنا 17:17؛ رومية 16:15). GrH 61.1

وما هو عمل الروح القدس؟ لقد أخبر يسوع تلاميذه قائلاً: “ومتى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق” (يوحنا 13:16). وصاحب المزامير يقول: “شريعتك حق”. وبما أن شريعة الله”مقدسة وعادلة وصالحة” فإن الأخلاق التي تتكون بالطاعة لتلك الشريعة لا بد أن تكون أيضاً مقدسة. والمسيح هو المثال الكامل لتلك الأخلاق فهو يقول: “إني قد حفظت وصايا أبي”. “في كل حين أفعل ما يرضيه” (يوحنا 10:15؛ 29:8). وعلى أتابع المسيح أن يكونوا مثله. وبنعمة الله عليهم أن تكون لهم صفات متفقة مع مبادئ شريعته المقدسة. وهذا هو التقديس حسب تعليم الكتاب المقدس. GrH 61.2

بالإيمان فقط — ويمكن انجاز هذا العمل بواسطة الايمان بالمسيح فقط وبواسطة قوة روح الله الساكن في القلب. سيحس المسيحي بنوازع الخطيئة لكنه سيثير عليها حربا دائمة لاهوادة فيها. هذا هو الوقت الذي فيه يحتاج المؤمن الى معونة المسيح، فيتحد الضعف البشري بالقوة الالهية ويهتف الايمان قائلاً:” شكرا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح” (1كورنتوس 57:15). GrH 61.3

إن عمل التقديس مرحلي. فإذ يجد الخاطئ في التجديد سلاماً مع الله تكون الحياة المسيحية قد بدأت. وعليه الآن أن يتقدم “إلى الكمال” وينمو “إلى قياس قامة ملء المسيح”، “أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع” “عبرانيين 1:6؛ أفسس 13:4؛ 14:3). GrH 62.1

إن الذين يختبرون التقديس الكتابي سيظهرون الكتابي سيظهرون روح الوداعة. فهم قد رأوا عظمة جلال القداسة ويرون عدم استحقاقهم على نقيض طهارة الاله السرمدي وكماله السامي. كان النبي دانيال مثالا للتقديس الحقيقي فبدلا من أن يدعي لنفسه الطهارة والقداسة اعتبر نفسه واحدا من بني اسرائيل الخطأة عندما كان يتوسل لأجل شعبه. (دانيال 11:10؛ 15:9 و18و 20؛ 8:10و 11). GrH 62.2

لا يمكن للذين يسيرون في ظل الصليب أن يمجدوا أنفسهم أو يدعوا أنهم قد تحرروا من الخطيئة. فهم يحسون بأن خطيئتهم هي التي تسببت في الآلام والعذابات التي سحقت قلب ابن الله، وهذا الفكر يقودهم الي التذلل والانسحاق. والذين هم أقرب الناس الى يسوع يدركون كل الادراك ضعف البشرية وشرها، وان رجاءهم الوحيد هو في استحقاق مخلصهم المصاوب والمقام. GrH 62.3

ان التقديس الذي ينال شهرة الآن في عالم الدين يحمل معه روح تمجيد الذات والاستخفاف بشريعة الله مما يجعله يختلف عن ديانة الكتاب. والذين يدافعون عنه يعلِّمون الناس قائلين ان التقديس هو عمل لحظة بواسطته يحصلون على القداسة الكاملة بالإيمان وحده. وهم يقولون: “آمن فقط فتحصل على البركة”. ويظنون أنه لا يُطلب ممن ينال هذه البركة أن يبذل أي مجهود بعد ذلك، وهم في الوقت نفسه ينكرون سلطان شريعة الله ويحتجون قائلين انهم قد تحرروا من التزام حفظ الوصايا. ولكن أيمكن للناس أن يكونوا قديسين طبقا لمشيئة الله وصفاته من دون أن يكونوا في حالة وفاق مع المبادئ التي هي تعبير عن طبيعته ومشيئته؟ GrH 62.4

إن شهادة كلمة الله هي ضد هذا التعليم المعرقل تعليم الايمان من دون أعمال. فليس الايمان هو الذي يطالب برضى السماء من دون الامتثال للشروط التي على أساسها تُمنح الرحمة، بل هي الغطرسة. انظر يعقوب 14:2- 24. GrH 63.1

لا يخدعنَّ أحد نفسه بالاعتقاد أنه يمكنه أن يكون قديسا في حين أنه يتعمد التعدي على مطلب واحد من مطالب الله. فارتكاب خطيئة معروفة يسكت صوت الروح الشاهد ويفصل النفس عن الله. ان يوحنا مع أنه يتكلم كثيرا عن المحبة في رسائله فإنه لا يتردد في الكشف عن الصفة الحقيقية لتلك الفئة من الناس الذين يدعون أنهم قد تقدسوا في حين أنهم عائشون في حال التعدي على شريعة الله فيقول: “من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحق فيه. وأما من حفظ كلمته فحقا في هذا قد تكملت محبة الله” (1يوحنا 4:2و 5). هذا هو اختبار إعلان الإيمان لكل فرد. فاذا استخف الناس بالشريعة الابدية وحقروا من شأن وصايا الله ونقضوا احدى هذه الوصايا الصغرى “وعلموا الناس هكذا” (متى 18:5و 19). فلن يكون لهم أي اعتبار في نظر السماء. ونعرف نحن أن ادعاءاتهم كانت على غير أساس. GrH 63.2

وادعاء الانسان انه بلا خطيئة هو في حد ذاته برهان على أن مَن يقدم هذا الادعاء بعيد كل البعد من القداسة. وذلك لأنه لا يدرك ادراكا حقيقا طهارة الله وقداسته غير المحدودة، ولأنه يدرك خبث الخطيئة وشرها. وكلما زاد ابتعاده عن المسيح كلما بدا باراً جداً في عيني نفسه. GrH 63.3

التقديس وفقاً للكتاب المقدس — يتناول التقديس المقدم إلينا في الكتاب المقدس كيان الإنسان كله، في الروح والنفس والجسد (انظر 1تسالونيكي 23:5). يُطلب من المسيحيين أن يقدموا أجسادهم “ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله” (رومية 1:12). فكل عمل من شأنه أن يضعف قوى الجسد أو العقل يجعل الإنسان غير أهل لخدمة الله خالقه. فالذين يحبون الله من كل القلب سيكونون على الدوام راغبين في أن يجعلوا كل قوى كيانهم في حالة وفاق مع القوانين التي تزيد من قدرتهم على عمل إرادته. أنهم لن يجعلوا الانغماس في الشاهية أو الشهوات وسيلة إضعاف أو تدنيس للقربان الذي يريدون تقديمه إلى أبيهم السماوي. GrH 64.1

فكل تمتُّع خاطئ يعمل على تخدير القوي وإماتة الاحاسيس الذهنية والروحية، فلا تستطيع كلمة الله أو روحه أن تؤِثر في القلب الا بقدر ضئيل جدا. وبولس كتب يقول لأهل كونتوس: ” لنطهِّر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح مكملين القداسة في خوف الله” (2كورنثوس 7:1). GrH 64.2

ما أكثر المعترفين بالمسيحية والذين يحطون مِن قدر انسانيتهم الجليلة المجيدة بالانغماس في النهم والشراهة وشرب الخمر أو التمتع بالمسرات المحرمة. والكنيسة في غالب الأحيان تشجع الشر لكي تملأ بالمال خزانتها، لأن محبتها للمسيح هي أضعف من أن تملأها. ولو قُيِّض ليسوع أن يدخل كنائي اليوم ويرى الولائم والتجارة النجسة التي تدار باسم الدين أما كان يطرد اولئك المنجسين كما قد طرد الصيارفة من الهيكل؟ GrH 64.3

“أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله. وإنكم لستم لأنفسكم. لأنكم قد اشتريتم بثمن. فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله” (1كورنثوس 19:6و 20). إن ذاك الذي جسده هيكل للروح القدس لن تستعبده عادة وبيلة. فكل قواه هي للمسيح. واملاكه هي للرب. وكيف يكون مبَّررا وهو يبذر رأس المال هذا المودَع امانة بين يديه؟ GrH 64.4

إن المعترفين بالمسيح ينفقون كل عام مبلغاً ضخماً على الملاذ العديمة النفع والوبيلة. لقد سلَبْنا الله في العشور والتقدمة بينما نحن نحرق على مذبح الشهوة المهلِكة أكثر مما نقدم لإسعاف المساكين أو لنشر رسالة الانجيل. لو كان كل المعترفين بأنهم أتابع المسيح مقدَّسين بالحق لكانت أموالهم، بدلا من أن تصرف في تمتعات باطلة لا داعي لها بل وضارة، تتحول الى خزانة الرب، ولكان المسيحيون يضربون أروع الامثلة على التعفف وانكار الذات والتضحية. وحينئذ يصبحون نورا للعالم. GrH 65.1

إن “شهوة الجسد وشهوة العيون تعظم المعيشة” (1يوحنا 16:2) تتحكم في جماهير الناس وتسيطر عليهم. أما أتباع المسيح فلهم دعوة أقدس: “اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجساً”. ولكل مَن ينصاعون يقدم الرب إليهم خذا الوعد: “”وَأَكُونَ لَكُمْ أَبًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ” (2كورنثوس 17:6و 18). GrH 65.2

دخول مباشر إلى محضر الله — ان كل خطوة من خطوات الايمان والطاعة تُدخل النفس الى ارتباط أقرب وأوثق بنور العالم. أشعة شمس البر المتألقة تشرق على عبيد الله، وعليهم هم أن يعكسوا أشعة نوره. فكلما تخبرنا النجوم أن هنالك في السماء نورا عظيما تستنير هي وتنير بنوره، كذلك يجب على المسيحيين أن يجعلوا الامر واضحا وجليا انه يوجد اله على عرش الكون تستحق صفاته أن يمجدها الناس ويتمثَّلوا بها. ان قداسة صفاته ستبدو جلية واضحة في حياة شهوده. GrH 65.3

ان لنا في استحقاقات المسيح دخولا الي عرش القدرة الازلي. فذاك “الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء”. يقول يسوع”إن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألون”، “إذا سألتم شيئاً بأسمي فإني أفعله”، “أطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً” (رومية 32:8؛ لوقا 13:11؛ يوحنا 14:14؛ 24:16). GrH 66.1

انه لامتياز ان يحيا كل انسان بحيث يرضى الله عنه ويباركه. فالآب السماوي لا يريد أن نقع تحت الدينونة والظلمة. وليس من دلائل الوداعة الحقة أنْ يسير الانسان مطأطئ الرأس وقلبه ممتلئ بأفكار ذاتية. يمكننا أن نذهب الى يسوع ونتطهر ونقف أمام الشريعة بلا عار أو حزن. GrH 66.2

في المسيح يمكن لأبناء آدم الساقطين أن يصيروا أبناء الله. وهو “لا يستحي أن يدءوهم أخوة” (عبرانيين 11:2). ينبغي أن تكون حياة المسيحي حياة الإيمان والنصرة والفرح في الرب. GrH 66.3

“فرح الرب هو قوتكم” “افرحوا كل حين. صلوا بلا انقطاع. اشكروا في كل شيء لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم” (عبرانيين 11:2؛ نحميا 10:8؛ 1تسالونيكي 16:5-8). GrH 66.4

هذه هي ثمار التجديد والتقديس كما هي واردة في الكتاب المقدس، ولكن نادراً ما تُشاهَد ثمارها لأن مبادئ البر العظيمة المقدمة في شريعة الله تقابل من العالم المسيحي بعدم اكتراث وبإهمال معيب. وهذا هو السبب الذي لأجله لا يظهر إلا القليل جداً من ذلك العمل العميق الباقي، عمل روح الله الذي كان طابع الانتعاشات التي حدثت في السنين السالفة. GrH 66.5

اننا نتغير بالنظر والمشاهدة. وبما ان تلك الوصايا المقدسة التي فيها كشف الله للناس عن كمال صفاته وقداستها قد أُهملت، بينما التعاليم والنظريات البشرية اجتذبت عقول الناس، فلا غرابة أن يتبع ذلك تدهور في التقوى الحيوية في الكنيسة. اننا عندما نعيد لشريعة الله كرامتها ونضعها في مركزها الشرعي اللائق بها ينتعش الايمان القديم والتقوى القديمة بين المعترفين بأنهم شعب الله. GrH 67.1