أعما لالرُّسل

45/59

الفصل الر ابع والاربعون

بيت قيصر

لقد احرز الانجيل اعظم انتصاراته ووصل الى اوج نجاحه بين الطبقات الفقيرة . وهاهو بلوس يقول: «ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون اقوياء ، ليس كثيرون شرفاء» (1 كورنثوس 1 :26). ولهذا لم يكن ينتظر ان يولس الذي كان أسيرا لاصديق له يستطيع انيظفر باهتمام وانتباه المواطنين الرومان الاثرياء وطبقة الاشراف . فلمثل هؤلاء قدمت الرذيلة اغراءاتها الخلابة وجعلتهم اسرى لها بمحض اختيارهم . ولكن من بين ضحايا ظلمهم ، الذين أضناهم التعب وأذلتهم الحاجة والعوز ، بل حتى من بين البعيد التعساء الفقراء ، اصغى كثيرون بفرح الى اقوال بولس، وبالايمان بالمسيح وجدوا رجاء وسلاما اسنداهم وعزياهم في ظل الظلم والمشقات التي كانت من نصيبهم . AR 417.1

.ومع ذلك ففي حين ان عمل الرسول بدأ بالوضعاء والادنياء ن فقد امتد تأثيره الى ان وصل الى قصر الامبراطور نفسه AR 417.2

كانت روما في ذلك الوقت قصبة الدنيا . وكان القياصرة المتعجرفون يضعون الشرائع والقوانين لأغلب امم الارض . وكان الملك وندماؤه اما يجهلون كل شيئ عن الناصري الوضيع ، او ينبذونه ويسخرون منه . ومع ذلك ففي فترة اقل من سنتين شق الانجيل طريقه من بيت الاسير المتواضع الى ابهاء قصر الامبراطور كان بولس مقيدا كفاعل شر . «لكن كلمة اللهلاتقيد» ( 2 تيموثاوس 2 : 9 ). AR 417.3

في السنين الماضية جاهر الرسول بايمان المسيح بقوة آسرة . وبالآيات والمعجزات قدم برهانالايخطئ على الصفة الالهية لهذا الايمان . وبثبات ونبل وشجاعة وقف امام حكماء اليونان ، وبعمله العزير وفصاحته النادرة ابكم حجج الفلسفة المتعجرفة. وبشجاعة لاتعرف الخوف وقف أمام ملوك وولاة وتحدث معهم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة ، حتى اتعب الحكام المتكبرون كما لو انهم كانوا يرون أهوال يوم الله. AR 418.1

اما حيئنذ فلم تعد لدى الرسول مثل هذه الفرص التي حرم منها ، اذ كان عليه ان يلازم مسكنهلايبرحه ، فكانت كرازته بالحقمقصورةعلى الذين كان يمكنهم المجيئ اليه دون غيرهم . ولم يمنح له تفويض كالذي منح لموسى وهارون وفق امر الهي ، بالذهاب الى الملك الخليع ، وباسم اللهه العظيم يوبخه على قسوته وظلمه. ومع ذلك ففي نفس ذلك الوقت الذي بدأ وكأن أعظم مدافع عن الحق قد انقطع عن العمل العلني . احرز الانجيل نصرة عظيمة ، لأن من نفس بيت الملك انضم اعضاء الى الكنيسة. AR 418.2

لم يك هناك قط جو غير متجانس مع المسيحيةمثلما كان في البلاط الروماني . فقد بدأ ان نيرون قد محا عن نفسه آخر اثار الصفات الالهية وحتى الصفات الانسانية ، وانه صار يحمل طابع الشيطان . واكن اتباعه وندماؤه في الغالب يتصفون بصفاته — فكانوا شرسين ومنحطين وفاسدين . وكان يبدو ان المسيحية يستحيلان تثبت قدمها في بلاط نيرون وقصره . AR 418.3

ومع ذلك ففي هذه الحالة كما في حالات اخرى كثيرة تبين صدق التصريح الذي نطق به بولس حين قال اناسحلة محاربته «قادرة بالله على هدم حصون» ( 2 كورنثوس 10 : 4). فحتى في بيت نيرون احرز الصليب انتصارات باهرة . فمن بين حاشية شريرة وفاسدة لملك اكثر شرا وفسادا ، ربح ابعض المهتدين الذي صاروا أولادا لله . ولم يكن هؤلاء مسيحيين في الخفاء ولكنهم جاهروا بمسييحيتهم ولم يستحوا بإيمانهم. ولكن بأية وسيلة امكن للمسيحية التغلغل وتثبيت قدمها حيث بدا أ دخولها او السماح بها امر مستحيل؟ ان بولس في رسالته الى اهل فيلبي ، نسب نجاحه ربح مهتدين الى الايمان من بين نيرون الى سجنه. فلخوفه من ان يظن ان آلامه قد عطلت تقدم الانجيل ، اكد لجماعة القيليبين قائلا : «اريد ان تعلموا ايهاالاخوة ان أموري قد آلت اكثر الى تقدم الانجيل» ( فيلبي 1 : 12). AR 419.1

لما عملت الكنائس المسيحية في بادئ الامر ان بولسمزمع ان يزور روما ، كانو ينتظرون انه سيحرزنصرا فذا للانجيل في تلك المدينة. لقد حمل بولس الحق الى بلدان كثيرة وكرز به في المدن العظيمة. افلا يمكن لبطل الايمان ان يفلح في ربح نفسوا للمسيح حتى في قصبة العالم ؟ الا ان آمالهم تحطمت حين علمواان بولس قد ذهب الى روما اسيرا . كانوا يؤملون بكل ثقة ان يروا الانجيل وقد ثبت ورسخت قدمه في هذا المركز العظيم، ومن ثم يمتد بسرعو الى كل الامم ويصير هو القوة الغالبة في الارض . فما كان امر خيبة آمالهم لقد فشلت التوقعات البشرية ، اما قصد الله فلم يفشل . AR 419.2

ان ماكان مزمعا ان يسترعي انتباه البلاط الى المسيحية لم يكن هو عظات بولس بل وثقه وقيوده. فكأسير أمكنه ان يحكم قيود نفوس كثيرة قيدتها عبودية الخطية . ولم يكن هذا كل شيئ . فلقد اعلن قائلا : «واكثر الاخوة . وقهم واثقون في الرب بوثقي ، يجترئون اكثر على التكلم بالكلمة بلا خوف» ( فيلبي1 : 14). AR 419.3

ان صبر بولس وفرحه في اثناء مدة سجنه الطويلة بغير حق ، وشجاعته وايمانه ، كله كان بمثابة عظة دائمة. وروحه التي كانت على نقيض روح العالم شهدت بأن قوة اسمى من قوة الارض كانت تلازمه . وقد حرك مثاله المسييحين ودفعهم لبذل نشاط أعظمكمدافعيين عن القضيةالتي كان قد انسحب بولس من العمل فيها جهارا . فبهذه الوسائل كان لوثق الرسول تأثيرا بحثانع عندما بدا ان قوة كرازته وتأثيرها قد بطلا وانقطعا ، وكانت كل الظواهر تدل على انه لن يعمل الا اقل القليل ، حينئذ جمع حزما للمسيح من حقول بدا كأنه قد نفي منها . AR 420.1

وقبل انقضاء السنتين اللتين قضاهما بولس سجينا امكنه ان يقول : «ان وثقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية وفي باقي الاماكن اجمع» وبين الذين ارسلو سلامهم الى اهل فيلبي يذكر على الخصوص «الذين من بيت قيصر» ( فيلبي 1: 13، 4 : 22). AR 420.2

ان الصبر والشجاعة لهما نصراتهما . فبواسطة الاحتمال والوداعة تحت التجربة يمكن ان تربح نفوس للمسيحكما في ابداء الجرأة في تنفيذ المشاريع سواء بسواء . ان المسيحي الذي يظهر الصبر والفرح تحت آلام التكل والحرمان والعذاب ، والذي يواجه حتى الموت نفسه بسلام وهدوء الايمان الذي لا يتزعزع ، يمكنه ان يعمل للانجيلاكثر مما كان يمكنه ان يعمل بحياة طويلة يقضيهافي الخدمة الامينة. في أحيان كثيرة عندما يسحب خادم الله من غمرة واجباته النشطة ، إن عناية اللهالعجيبة التي نندبها نحن لقصرنظرنا ، يقصد الله بها ان ينجز عملا ما يمكن انجازه بغير ذلك. AR 420.3

لايظنن تباع المسيح انه عندما لايعود قادرا على القيام بعمل لله نشط وعلني اعلاء لحقه فإنه لاتعود توجد خدمة يؤديها ولا مكافأة يحصل عليها . ان خدام المسيح وشهوده الامناءلايمكن ان يلقى بهم جانبا. ففي الصحة والمرض ، في الحياة والموت ، لايزال الله يستخدمهم . فعندما يضطهد خدام المسيحبسبب خبث الشيطان ، وتتعطل خدماتهم النشطة ، وعندما يلقى بهم في الجس ناو يساقون ليشنقوا او ليحترقوا ، فإن القصد من ذلك ان يحرز الحق انتصارا اعظم . فإذ ختم هؤلاء الامناء شهادتهم بدمهم ، فإن النفوس التي كانتمن قبلفريسة للشكوك وعدم اليقين آمنت بالمسيح ووقفت في صفه بكل شجاعة , فمن رماد الشهداء جمع حصاد وفير الله . AR 421.1

ان غيرة بولسوشركائه في الخدمة وولاءهم، مثلها في ذلم المثل ايمان المهتدين الى المسيحية وطاعتهم في ظروف صعبة جدا ، هي توبيخ صارم لكسل خادم المسيح وافتقاره الى الايمان . كان يمكن لبولس وشركائه في الخدمة ان يحتجوا قائلين انهم عبثا ينادون بالتوبة والايمان بالمسيح لعبيد نيرون الذين كانوا معرضين لتجارب عنيفة ومحاطين بمعطلات هائلة وعرضة لمقاومة مرة , وحتى لو اقتنعوا بالحق فكيف يمكنهم ان يقدمو الطاعة ؟ ولكن بولس لم يفكر هكذا . انما بالايمان قدمالانجيل لهذه النفوس وكان بين سامعيه جماعة عقدوا العزم على الطاعة مهما كانت الكلفة . وبالرغم من المعطلات والمخاطر ، سيقبلون النور ويثقون ان الله سيعينهم حتى يضيئ نورهم على من حولهم. AR 421.2

ولم يربح المهتدون الى الحق فيبيت قيصر وحسب ن ولكنهم بعد اهتدائهم ظوا في ذلك البيت . لم يكونو يحسون ان لهم الحرية في ترك مراكزهم وواجباتهم لأن البيئة التي كانوا يعيشون فيها ماعدات مؤاتية لهم او متجانسة مع اخلاقهم. لقد وجدهم الحقهناك فلبثوا هناك حيث شهدو بحياتهم وصفاتهم المتجددة لقوة الايمان الجديد المغيرة . AR 421.3

هل هناك من يجرون لأن يجعلوا ظروفهم حجة وعذرا لاخفاقهم في الشهادة للمسيح؟ ليفكر امثال هؤلاء في موقف التلاميذ الذين كانوا في بيت قيصر — في وجود فساد الامبراطور وخلاعة الحاشية والبلاط كله . اننا لانكاد نتصور وجود ظروف اكثر معاكسة للحياة الدينية وينتج عنها تضحيات او مقاومات اعظم من تلك التي وجد أولئك المهتدون انفسهم فيها . ومع ذلك ففي وسط الصعوبات والمخطار ظلو ثابتين على ولائهم. ان المسيحي قد يحاول اعفاء نفسه من طاعة الحق كما هو في يسوع بسبب العوائقالتي يبدو انه يصعب التغلب عليها ، ولكنه لايستطيع تقديم عذر يحتمل الامتحان . فلو أمكنه ذلك لكان برهن علىانه الله ظالم (حاشا لله). في كونه اوجد اولاده فيظروف اوشروط للخلاص لايمكنهم الامتثال لها . AR 422.1

ان من ثبت قلبه ووطد عزمه على خدمة الله سيجد فرصة مؤاتية للشهادة له والصعوبات لن يكون لها تأثير في تعطيل من قد عقد العزم ان يطلب أولا ملكوت الله وبره . فبالقوة التي ينالهابالصلاة ودرس الكلمة سيطلب الفضيلة ويهجر الرذيلة . واذ ينظر الى يسوع رئيس الايمان ومكمله ، الذي احتمل لنفسه مقاومة الخطاة، فإن ذلك المؤمن سيصمد امام الاحتقار والسخرية عن طيبخاطر . وذاك الذي كلامه حق يعده بالعون والنعمة لكل حالة . والاذرع الابديةتحيط بالنفس التي تلتفت الى الرب في طلب العون . ويمكننا ان نستند علىرعايته مطمئنين وقائلين : «في يوم خوفي ، انا عليك أتكل» ( مزمور56 : 3 ). والله سيتمم وعده لكل من يتوكلون عليه. AR 422.2

ان المخلص قد برهن بمثاله ان تابعيه يمكنهم ان يكونوا في العالم ومع ذلك لا يكونون من العالم. انه لم يأت ليشارك العالم في مسراته الخادعة او لينساق مع تيار عاداته او ليتمثل به في ممارساته ، بل ليفعل ارادة ابيه ويطلب ويخلص ما قد هلك . فالمسييحي اذ يجعل هذا الهدف نصب عينيه، يمكنه ان يقف طاهرا غير ملوث في اية بيئة يوجد . ومهمايكن مركزه او طورفه ، سواء في حال الرفعة او الاتضاع ، فسيظهرقوة الديانة الحقة في قيامة بواجبه بكل امانه . AR 423.1

ان الخلق المسيحي يتكون وينمو لا في تحررهمن التجربة بل في وسطها . ان تعرض تابع المسيح للخيبةوالصدمات والمقاومات يقوده الى مزيد من السهروالصلاة الحارة للمعينالقدير . فالمؤمن اذ يحتمل التجربة القاسية بنعمة الله فإن ذلك ينمي فيه الصبر والسهر واليقظة والجلد والثبات ، والثقةالعميقة الثابتة في الله. ان نصرة الايمان المسيحي هي التي تعين معتنقها على ان يحتمل ويتقوى ، وان يخضع ، وهكذا ينتصر ، او يموت كل يوم ومع ذلك يحيا ، وان يحمل الصليب ، وهكذا ينال اكليل المجد. AR 423.2