أعما لالرُّسل

42/59

الفصل الحادي والاربعون

«بقليل تقنعني»

(يعتمد هذا الفصلعلى ماورد في أعمال25 : 13 — 27 وإصحاح 26 ).

كان بولس قد رفع دعواه الى قيصر فلم يسع فستوس إلا ان يرسله إلى روما . ولكن مرة بعض الوقت قبل العثور على سفينة ملائمة، وحيث ان أسرى آخرين كانوا مزمعين ان يرسلوا إلىروما مع بولس ، فإن النظر في قضاياهم أعاقتهم أيضا عن السفر . وهذا أتاح لبولس فرصة عرض فيها أمام كبار القوم في قيصرية اسباب ايمانه ، كما عرضها أيضا أمام الملك أغريباس الثاني آخر سلالة هيرودس. AR 391.1

«وبعدما مضت أيام أقبل أغريباس الملك وبرنيكي إلى قيصرية ليسلما على فستوس . ولما كانا يصرفان هناك أياما كثيرة، عرض فستوسعلى الملك أمر بولس ، قائلا يوجد رجل تركه فيلكسأسيرا ، وعرض لي عنه رؤساء الكهنة ومشايخ اليهود لما كنت في أورشليمطالبين حكما عليه» ( أعمال25 : 13 — 15). وقد حدد الظروف التي جعلت الاسير يرفع دعواه الى قيصروتحدث عن محاكمة بولس أمامه منذ عهد قريب وقال ان اليهود لم يقدموا ضد بولس اية شكوى مما كان يظن ، بل : «مسائل من جهة ديانتهم ، وعندواحد اسمهيسوع قد مات ، وكان بولس يقول انه حي» ( أعمال25 : 19 ). AR 391.2

فإذا اخبر فستوس عن قصته أبدى أغريباس اهتماما وقال : «كنت أريد انا ايضا ان اسمع الرجال» فوفقا لرغبته اعد ترتيب بأن يعقد اجتماع في اليوم التالي : «ففي الغد جاء اغريباس وبرنيكي في احتفال عظيم، ودخلا الى دار الاستماع مع الامراء ورجال المدينةالمقدمين ، امر فستوس فأتي ببولس» ( أعمال 25 : 23 ). AR 392.1

حاول فستوس ان يجعل من تلك الفرصة عرضا مهيبا لكي يبالغ في اكرام ضيوفه . فالحلل الغالية الثمنالتي كان يلبسها الوالي وضيوفه ، وسيوف الجند، واسلحة قادتهم اللامعة اضفت على ذلك المشهد بهاء وهيبة . AR 392.2

والان فها هو بولس الذي كان لايزال مقيدا ، يقف امام ذلك الجمع . فما كان أعظم الفارق بينه وبين أولئك العظماء . كان أغريباس وبرنيكييتمتعان بسلطان ومكانة عظيمين ولهذا نالا رضى العالم. ولكنهما كانا مجردين من مسحة الخق الذي يقدر الله . كانا متعديين على شريعته وفاسدين في قلبهما وحياتهما وكان تصرفهمافي نر السماء . AR 392.3

لم يكن في منظر ذلك الأسير الشيخ الذي قيدت يده بيد حارسه، مايسوق الناس لاكرامهاو تقديم الولاء له . ومع ذلك فإن كل السماء كانت مهتمة بهذا الرجال الذي كان يبدو أنهبلا صديق او ثروة او مركز ، وكان سجينا لأنه كان يؤمن بابن الله . كانت حاشيته من الملائكة . فلو ان احد أولئك الملائكة ظهرببهاء مجده المتألق لكان يكسف أبهة الملك وكبرياءه، ولكن الملك وندماؤه يسقطون على الأرض مصعوقين كما حدث للحراس الذين كانوا يحرسون قبر المسيح . AR 392.4

وقد قدم فستوس بنفسه بولس الى ذلك الجمع قائلا: «ايها الملك اغريباس والرجال الحاضرون معنا أجمعون ، انتم تنظرون هذا الذي توسل الى من جهته كل جمهور اليهود في اورشليم وهنا ، صارخين أنه لاينبغ ان يعيش بعد. واما انا فلما وجدت انه لم يفعل شيئا يستحقالموت ، وهو قد رفع دعواه الى أوغسطس ، عزت ان ارسله وليس لي شيئ يقين من جهته لأكت الى الشيد . لذلك اتيت به لديكم ، ولا سيمالديك ايها الملكاغريباس ، حتى اذا صار الفحص يكون لي شيئ لأكتب . لأني أرى حماقة ان ارسل اسيرا ولا أشير الى الدعاوي التي عليه»( أعمال25 : 24 -27). AR 392.5

والآن فها هو الملك أغريباس يأذن لبولس ان يتكلم عن نفسه . ولم يرتبك الرسول ولا بهرته الأبهة والمناظر المتلألئة التي كاننت أمماه او المراكز الرفيعة التي كانت لأولئك السامعين ، لأنه عرف تفاهة قيمة غنى العالم والمراكز الدنيوية السامية. لم يكن ممكنا للأبهة والسلطان الأرضيين ان يرعبا شجاعته او يسلباه قوة ضبط النفس ولو للحظة واحدة . AR 393.1

فهتف قائلا: «إني احسب نفسي سعيدا ايها الملك أغريباس ، اذ انا مزمع ان احتاج اليوم لديك عن كل مايحاكمني به اليهود . لاسيما وانت عالم بجميع العوائد والمسائل التي بين اليهود . لذلك التمس منك ان تسمعني بطول الأناة» ( أعمال 26 : 2 ، 3). AR 393.2

وقد أخبرهم بولس بقصة اهتدائه من عناده وتششده في عدم الايمان ، الى الايمان بيسوع الناصري كفادي العالم . وقد وصف لهم الرؤيا السماوية التي ملأت قلبه رعبا لايعبرعنه في بادئ الامر ، ولكنها برهنت بعد ذلك على انها نبع لأعظم عزاء ، إعلان مجد الله الذي رأى في وسطه عرشا يجلس عليه ذاك الذي كان قبللا يحتقره ويبغضه ، والذي كان يقصد ان يهلك تلاميذه وتابعيه . ومن تلك الساعة صار بولس انسانا جيددا ومؤمنا مخلصا وغيورا بيسوع وقد صار كذلك بفضل الرحمةالمغيرة المجددة . AR 393.3

فبوضوح وقوة لخص بولس أمام اغريباس الحوادث الهامة المتعلقة بحياة المسيح على الارض . وقد شهد بأنمسيح النبوة قد ظهر في شخصيسوع الناصري . وابان كيف اعلنت اسفار العهد القديم ان المسيا مزمع ان يظهر كانسان بين الناس ، وكيف تمت في حياة يسوع كل الشروط التي اشار اليها موسى والانبياء . فلأجل فداء العالم الهالك ، احتمل ابن الله الصليب مستهينا بالخزي وصعد الى السماء ظافرا على الموت والهاوية . AR 394.1

وقد جعل يحتج قائلالماذا يعتبر أمرا لايصدق ان يقوم المسيح من الاموات ؟ لقد كان ذلك يبدو له امرا مستحيلا فيما مضى ، ولكن كيف له ان يشك الآن فيما قد رآه وسمعه ؟ انه رأى عند باب دمشقبكل يقين المسيح المصلوب والمقام، نفس الشخص الذي كان يذرع شوارع أورشليم ومات على صليب الجلجثة وحطم ربط الموت وصعد الى السماء . لقد رآه وتحدث معه باليقين نفسه الذي رآه وتحدث معه صفا ويعقوب ويوحنا أو أي واحد من التلاميذ الآخرين . لقد أمره ذلك الصوت ان يذيع انجيل المخلص المقام فكيف يمكنه ان يعصي ذلك الأمر ؟ وقد أذاع في دمشق وفي اورشليم وكل اليهودية وفي الاقاليم البعيدة الشهادة عن يسوع المصلوب مبرهنا لكل الطبقات «ان يتوبوا ويرجعوا الى الله عاملين اعمالاتليق بالتوبة». AR 394.2

ثم اعلن الرسولقائلا : «من اجل ذلك امسكني اليهود في الهيكل وشرعوا في قتلي . فإذ حصلت على معونة من الله ، بقيت الى هذا اليوم ، شاهدا للصغير والكبير . وانا لاااقول شيئا غير ماتكلم الانبياء وموسى انه عتيدان يكونيؤلم المسيح ، يكن هو اول فيامة الاموات ، مزمعا ان ينادي بنور للشعب وللامم» ( أعمال 26 : 21 -23). AR 394.3

وبذهول كبير اصغى الجمع كله الى هذا الحديث الذي شرح فيه بولس اختباره العجيب . لقد اسهب الرسول في الكلام عن موضوعه المحببالى نفسه . ولم يشك في اخلاصه أي واحد من سامعيه. ولكن فيما كان محمولامن تيار فصاحته المقنعة ، قاطعه فستوس اذ صرح بصوتعظيم قائلا : «انت تهذي يابولس الكتب الكثيرة تحولك الى الهذيان» . AR 395.1

فأجابه الرسولقائلا : «لست أهذيأيها العزيز فستوس، بل انطق بكلمات الصدق والصحو . لأنه من جهة هذه الامور ن عالم الملك الذي اكلمه جهارا ، اذ انا لست اصدقان يخفى عليه شيئ من ذلك، لأن هذا لم يفعل في زاوية».وبعد ذلك التفت الى اغريباس وخاطبه بكلام مباشر قائلا : «أتؤمن ايها الملك اغريباس بالانبياء ؟ انا العلم انك تؤمن». AR 395.2

فاذا تاثر اغريباس تأثرا عميقا غاب عن ناظريه الى لحظة كل ماكان يحيط به ونسي عظمة مركزه. واذا كان شاعرا فقط بالحقائقالتي سمعها ، واذ لم يرى سوى ذلك الاسير الوضيع ماثلا امامه كسفير الله ، اجابه بانفعال لا ارادي قائلا: «بقليل تقنعني ان اصير مسيحيا» ( عدد24 — 28). AR 395.3

فاجابهالرسول بكل غيرة واخلاص : «كنت اصلي الى الله انه بقليل وبكثير ، ليس انت فقط ، بل ايضا جميع الذين يسمعونني اليوم يصيرون هكذا كما اناماخلا هذه القيود» ( عدد29). AR 395.4

كان يمكن لفستوس واغريباس وبرنيكي ان يفكوا القيود عن يدي الرسول ورجليه بموجب العدل . كان الجميع مذنبين اذا ارتكبوا جرائم هائلة . وقد سمع أولئك المذنبون هبة الخلاص تقدم لهم في ذاك اليوم باسم المسيح.وقد وجد الاقل واحد كان يقتنع بقبول النعمة ورحمة الغفران المقدمين له . ولكن اغريباس القى جانبا الرحمة المقدمة ورفض قبول صليب الفادي المصلوب . لقد اشبع الملك فضوله ثم اذا نهضمن كرسيه دل بذلك على انفضاضالاجتماع . واذ تفرق ذلك الجمع جعلوا يتداولون قائلين : «ان هذا الانسان ليس يفعل شيئا يستحقالموت او القيود». AR 395.5

ومع ان اغريباس كان يهوديا فإنه لم يشارك الفريسيين في غيرتهم وتعصبهم الأعمى . فقال لفستوس . «كان يمكن ان يطلق هذا الانسان لو لم يكن قد رفع دعواه الى قيصر» ( عدد31 ، 32). ولكن القضية قد رفعت الى تلك المحكمة العليا فصارت الآن خارجة عن دائرة اختصاص كل من فستوس واغريباس . AR 396.1