أعما لالرُّسل
الفصل الثاني والاربعون
السفر وانكسار السفينة
(يعتمد هذا الفصل على ماورد في اعمال27 ، 28 / 1 - 10)
هاهو بولس اخيرافي طريقه الى روما . فقد كتب لوقا يقول : «فلما استقر الرأي ان نسافر في البحر الى ايطاليا ، سلموا بولس واسرى آخرين الى قائد مائة من كتيبة اوغسطس اسمه يوليوس . فصعدنا الى سفينة ادراميتينة ، وأقلعنا مزمعين ان نسافر مارين بالمواضع التي في اسيا . وكان معنا ارستخرس ، رجل مكدوني من تسالونيكي» ( أعمال27 : 1 ، 2 ). AR 397.1
في القرن الاول للتاريخ المسيحي ، كان السفر بحرا مكتنابصعاب ومخاطر خاصة ، كان الملاحون الذي يمخرون عباب البحريعتمدون بالاكثر على موقع الشمي والنجوم كي يحددوا وجهتهم ويعرفوا طريقهم. فمتى احتجبت هذه وكانت الدلائل تدل على ان عاصفة ستهت ، كان اصحاب السفن يخشون من المخاطرة بالنزول بسفنهم في عرض البحر. وفي خلال بعض شهور السنة كان السفر في البحر يبدو مستحيلا. AR 397.2
كان بولس الرسول قد دعي لاحتمال تلك الاختبارات الصعبة التي كانت مزمعة ان تواجهه كثيرا في سلاسل اثناء الرحلة الطويلة الشاقة الى ايطاليا . ولكن حادثة واحدة خففت من هول شدتها ن وهي السماح للوقا وارستخس بمرافقته . وفي رسالته التي ارسلها الى اهل كولوسي اشار بعد ذلك الى ا ارستخرخس على انه «المأسور معي» ( كولوسي4: 10 ). ولكن مشاركة ارستخرس لبولس في اسره كانت بمحض اختياره لكي يخدمه في ضيقته وبلواه . AR 397.3
وقد بدأ الرحلة بنجاح . ففي اليوم التالي القوا مراسيهم في ميناء صيدا وفي هذا الميناء «عامل يوليوس بولس بالرفق ، وأذن ان يذهب الى أصدقائه ليحصل على عناية منهم» ( أعمال 27 : 3 ). وقد قدر الرسول الذي كان معتل الصحة هذا الاذن تقديرا عظيما . AR 398.1
فلما غادرت السفينة صيدا ، دهمتها رياح مضادة ، واذا ساقتها الريح بعيدا عن طريقها المستقيم صار تقدمها بطيئا . وفي ميرالكيية في اقليم كيليكية ، وجد قائد المئة سفينة اسكندرية كبيرة مسافرة الى ايطاليا ، ففي الحال انزل اسراه فيها. ولكن الرياح كانت لاتزال مضادة فصار تقدم السفينة صعبا . وكتب لوقا يقول : «ولما كنا نسافر رويدا ايام كثيرة ، وبالجهد صرنا بقرب كنيدس ، ولم تمكنا الريح اكثر ن سافرنا من تحت كريت بقرب سلمونين ولما تجاوزناهابالجهد جئنا الى مكان يقال له الموانئالحسنة» ( أعمال27 : 7 ، 80). AR 398.2
وفي الموانئ لحسنة اضطروا للبقاء بعض الوقت منتظرين ان تعتدل الرياح وتكون مواتية لهم. وكان الشتاء يقترب بسرعة : «وصار السفر في البحر خطرا» ، وكان المسؤولون عن السفينة ملتزمين ان يتخلوا عن كل رجاء في الوصول الى وجهتهم قبل انقضاءفضل السفر بحرافي تلك السنة . والسؤال الذي كان عليهم ان يبتوا فيه حينئذ كان ماذا كان يجب عليهم البقاء في المواني الحسنة ا وان يحاولو الوصول الى مكان اصلح يقضون فيه شهور الشتاء . AR 398.3
فتداولو في هذ السؤال بكل اهتمام ، وقد توجه قائد المئة الى بولس الذي ظفر باحترام الملاحين والجنود . فبدون تردد نصحهم بالبقاء حيث كانوا ، قائلا : «انا ارى ان هذا السفر عتيد ان يكون بضرر وخسارة كثيرة ، ليس للشخن والسفنية فقط ، بل لأنفسنا ايضا» ولكن «ربان السفينة ..وصاحبها» وغالبية المسافرين والملاحيين لم يميلوالقبولهذه المشورة . ولأن الميناء الذي رسوا يه «لم يكن موقعها صالحا للمشتى ، استقر رأي اكثرهم ان يقلعوا من هناك ايضا ، عسى ان يمكنهم الاقبال الى فينكس ليشتوا فيها . وهي مينا في كريت تنظر نحو الجنوب والشمال الغربيين» ( عدد 10- 12). AR 399.1
وقد استقر رأي قائد المئة على النزول على حكم الاكثرية . ولذلك : «فلما نسمت ريح جنوب»، أقلعوامن الموانيئ الحسنة على امل انهم يصلون الى الميناء التي يغبون في الوصول اليها : «ولكن بعد قليل هاجت..ريح زوبيعة... خطفت السفينة ولم يمكنها ان تقابل الريح» ( عدد 13 — 15). AR 399.2
فإذا كانت الريح العاصفة تسوق السفينة اقتربت من جزيرةصغيرة تدعى كلودي . واذ كانوا محتمين فيها استعد الملاحون لمواجهة اسوأ الاحتمالات . ثم ان قارب النجاةالذي كان وسليتهم الوحيدة للنجاة لو غرقت السفينة ، كان مقطورا الى السفينة وكان معرضا لأن يتحطم في اية لحظة . فأول مهمة امامهم كانت رفع القارب الى ظهر السفينة. وقد اعدت بعد ذلك الاحتياطات لتقوية السفينة واعدادها للصود للعاصفة . والحماية الطفيفة التي وفرتها لهم الجزيرة الصغيرة لم تجدهم وقتاطويلا ، فسرعان ماتعرضوا من جديدللعاصفة في أعنق حالاتها . AR 399.3
وقد ظلت العاصفة تثور طوالالليل ، وبالرغم من الاحتياطات التي اتخذت فقد ثقبت السفينة ، لذلك «جعلوا يفرغون ( السفينة) في العد». ثم اقبل الليل . ثانيةولكن الرياح لم تخف وطأتها . فتلكالسفينة التي كانت تضربها الرياح ، بساريتهاالمهمشة وقلوعها الممزقة.، كانت تندفع الى هنا وهناك بفعل الرياح الثائرة وقد تقاذفها ذلك النوءالهائج.وفي كل لحظة كان يبدو كأن اخشاب السفينة المتداعيةلابد ان تتهاوي اذ كانت السفيينة تترنج وترتجبشدة امام صدمات العاصفة. وقد زاد الثقب اتساعا بسرعة ،فجعل المسافرون الونتيةيعملون بلا انقطاع في تشغيل المضخات . ولم يكن احد ممن على ظهر السفينة ليستريح لحظة واحدة. وقد كتب لوقايقول : «وفي اليوم الثالث رمينا بأيدينااثاث السفينة ,. واذ لم تكن الشمس ولا النجوم تظهر اياما كثيرة ، واشتد علينا نوء ليس بقليل، انتزع اخيرا كل رجاء في نجاتنا» ( عدد 19، 20). AR 399.4
ولمدى اربعة عش يوما كانوا ينجرفون بلا هدى تحت سماء لم تظهر فييها الشمس ولا النجوم. ومع ان الرسولكان يتألم جسمانيا ، فقد نطق باقوالالرجاء في احلك الساعات ، وكانت له ليد معينة في اوقات الطوارئ المحرجة . فبالايمان تمسك بذراع الاله السرمدي واكن قلبه متكلا على الله . لم يكن خائفاعلى فنسه ، فقد كان يعلم ان الله يسحفظه ليشهد في روماا لحق المسيح . ولكن قلبه كان يخفقبالعطف والحنان على النفوس المسكينة التي حوله ، تلك النفوس الخاطئة المنحظة غير المستعدة لمواجهة الموت . فاذ توسل الى اللهبكل غيرة وحرارة كي يبقى على حياتهم ، اعلن له ان طلبته قد اجيبت. AR 400.1
واذ انتهز بولس الفرصة التي هدأت فيها العاصفة قليلا ، وقف على ظهر السفينة ورفع صوته قائلا: «كان ينبغي ايها الرجال ان تذعنوا لي . ولا تقلعوا من كريت ، فتسلموا من هذا الضرر والخسارة . والآن انذركم ان تسروا ، لأنه لاتكون خسارة نفس واحدة منكم ، الا السفينة . لأنه وقف بي هذه الليلة ملاك الاله الذي انا له والذي اعبده .، قائلا : لاتخف يابولس. ينبغي ل كان تقف امام قيصر . وهوذا قد وهبكالله جميع المسافرين معك . لذلك سرو ايهاالرجال ، لأني اومن بالله انه يكون هكذا كما قيل لي . ولكن لابد ان نقع على جزيرة» ( عدد21 — 26). AR 400.2
انتعشت الامال لدى سماع هذه الاقوال واستيقظ الركاب والنوتية من جمودهم وذهولهم . فقد بقي عليهم عمل كثيراليعملوه ، فلا بد من ان يبذلو كل مافي وسعهم من جهد لينجوا من الهلاك. AR 401.1
وفي الليلة الرابعة عشرة وهم يتخبطون في ذلك البحر بأمواجه الثائرة السوداء ، حدث ان الملاحين سمعوا «نحو نصف الليل»صوت امواج كبيرة كأنها تضرب على اليابسة. ظنوا «انهم اقتربواالى بر . فقاسوا ووجدوا عشرين قامة. ولما مضو قليلا قاسوا ايضا فوجدو خمسة عشرة قامة». ثم كتب لوقا يقول : «واذ كانوا يخافون ان يقعوا على مواضع صعبة ، رموا من المؤخر اربع مراس ، وكانوا يطلبون ان يصير النهار» ( عدد 27 -29). AR 401.2
وعند الفجر كانت ترى معالم الشاطئ الذي تضربه العواصف غير واضحة ولكنهم لم يستطيعوا رؤيةأية علامات مألوفة. كان المنظر كئيباجدا بحيث ان النوتية الوثنيين خارت عزيمتهم وسجاهتهم وكانوا«يطلبون ان يهربوا من السفينة ، وانزلوا القاربالى البحر بعلة انهم مزمعون ان يمدو مراسيمن المقدم .». فاذا اكتشف بولس نيتهم الدنميئة ، قال لقائد المئة والعسكر : «ان لم يبق هؤلاء في السفينة فانتم لاتقدورن ان تنجوا» «ففي الحال «قطع العسكرحبال القارب وتركوهيسقط»في البحر ( عدد 30 — 32). AR 401.3
الا ان احرج ساعة كانت لاتزال تنتظرهم . ومرة اخرى خاطبهم الرسول بكلمات التشجيع .، فتوسل النوتيةوالمسافرون ان يتانولو طعاما قائلا لهم: «هذا هو اليوم الرابع عشر ، وانتم منتظرون لاتزالون صائمين ، ولم تأخذوا شيئا . لذلك التمس منكم ان تتناولو طعاما ، لأن هذا يكون مفيدا لنجاتكم ، لأنه لاتسقط شعرة من رأس واحد منكم». AR 401.4
«ولما قال هذا اخذ خبزا وشكر الله امام الجميع ، وكسر ، وابتدأ يأكل» وحينئذ فتلك الجماعة المتعبة والخائرة التي قوامها مئتان وخمس وسبعون نفسا والذين لولا وجود بولس لغمرهم اليأس ، اشتركوا مع الرسول في تناولالطعام : «ولما شبعوا من الطعام طفقوا يخففون السفينة طارحين الحنطة في البحر» ( عدد 35 ، 3638). AR 402.1
اشرق بعد ذلك نور النهار في ملء قوته ، ولكنهم لم يرو شيئا يساعدهم على معرفة مكانهم في البحر . ومع هذا فقد «ابصروا خليجا له شاطئ ، فأجمعوا ان يدفعوا اليه السفينة ان اممكنهم. فلما نزعوا المراسي تاركين اياها في البحر ، ولحوا ربط الدفة ايضا ، رفعوا قلعا للريح الهاابة ، واقبلوا الى الشاطئ . اذ وقعوا على موضعبين بحرين ، شططواالسفينة ،فارتكز المقدم ولبث لايتحرك . واما المؤخر فكان ينحل من عنف الامواج» ( عدد 39 — 41). AR 402.2
كان بولس والاسرى الآخرين مهددين الآن بمصيرأرهبمن انكسارالسفينة . فقد رأىالعسكرانهم وهم يحاولون الوصول الى اليابسةسيغدوا من المستحيل عليهم مراقبة الاسرى الذين تحت حراستهم والحفاظ عليهم. فكل رجل سيحاول بكل قوته ان ينجو بنفسه . ومع ذلك فانه لو فقد احد الاسرى فان حياة الجنود المسؤولين عنهم ستهلك. ولهذا كان العسكر يرغبون في قتلجميع الاسرى. واكن القانون الرومانييبيح هذه السياسة القاسية، وكان يمكن تنفيذ هذه الخطةفي الحاللو لا ذاك الذي كان الجيمع السواء مدينين له بالكثير . لقد عرف يوليوس قائد المئة ان بولس كان واسطة في انقاذ حياة كل من كانوا على ظهر السفينة ، وفضلا عن ذلك فإن كان مقتنعا ان الرب معه ، خاف من ان يمسه بسوء . ولذلك امر : ان القادرين على السباحة يرمون انفسهماولا فيخرجون الى البر ، والباقين بعضهم على الواح وبعضهمعلى قطع من السفينة , فهكذا حدث ان الجميع نجوا الى البر (عدد 43ـ 44). ولما نوديت الاسماء لم يكن واحدا منهم مفقودا . AR 402.3
فتلك الجماعة التي تحطمت بهم السفينة استقبلهم اهل مليطة البرابرة بكل رفقومحبة. وقد كتب لوقايقول : اوقدوا نارا وقبلوا جميعنا من اجل المطر الذي اصابنا ومن اجل البرد) . وقد كان بولس ضمن من نشطوا لخدمة الاخرين وراحتهم. فاذ جمع«كثيرا من القضبان ووضعهاا على النار ، فخرجت منالحرارة افعى وتشبث في يده». فأصاب الرعب الناظرين ، واذا رأوا منالسلاسل التي في يديه انه اسير ، قالو بعضهم لبعض«لابد ان هذا الانسان قاتل ، لم يدعه العدل يحيا ولو نجا من البحر» . ولكن بولس نفض الوحش الى النار ولم يتضرر بشيئ رديئ . واذ كان أولئك القوم يعرفون الطبيعةالسامة لتلك الافعىكانوا ينتظرون انه مزمع ان يسقطفي اية لحظة وهو يتلوى منهول الالام: «فباذ انتظروا كثيراورأو انه لم يعرض له شيئ مضر ، تغيروا وقالو هوا اله» ( اعمال28 : 2 -6). AR 403.1
وفي غضون الشهور الثلاثة التي قضاها من كانوا فوق ظهر السفينة في مليطة ، احسن بولس وفيقاه استخادم فرص كثيرة في الكرازة بالانجيل . وقد عمل الله بواسطتهم بطريقة عجيبة . فاكرامالبولس، عوملاولئك القوم الذين نجو من حطام السفينةبشفقة عظيمة ، وتمت تلبية كل احتياجاتهم. وعند مغادرتهم مليطة زودوا بكل مايحتاجونهه اليه في سفرتهم . وقد اوجز لوقا اهم الحوادثالتي جرت في مدة بقائهم هناك فقال : AR 403.2
«وكان في ماحول ذلك الموضع ضياع لمقدم الجزيرة الذي اسمه بوبليوس . فهذا قبلنا واضافنا بملاطفة ثلاث ايام . فحدث ان ابا بوبليوسكان مضطجعا معترىى بحمى وسحج. فدخل اليه بولس وصلى ، ووضع يديه عليه بشفاه . لما صار هذا كان الباقون الذين بهم امراضفي الجزيرة يأتون ويشفونن. فأكرمنا هؤلاء اكرامات كثيرة. ولما اقلعنا زودونا بما يحتاج اليه» ( عدد 7 — 10). AR 404.1