أعما لالرُّسل
الفصل التاسع والثلاثون
المحاكمة في قيصرية
(يعتمد هذا الفصل على ماورد في الاصحاح الرابع والعشرين من سفر الاعمال ).
بعد وصول بولس الى قيصرية بخمسة ايام ، جاء المشتكون عليه من اورشليم وكان يصحبهم خطيب استخدموه ليكون مشيرا لهم واسمه ترتلس. وقد سمح بسماع القضية حالا . وأتى ببولس ليمثل امام ذلك الجمع. ثم «ابتدأ ترتلس في الشكاية» . واذ حسب ذلك الخطيب المحتالان الاطراء والتملق يكون لهما تأثير افعل في الحاكم الروماني من ايراد بيانات الحق والعدالة بدأ خطابه بامتداخ فيكلس فقال : «اننا حاصلون بواستط على سلام جزيل ، وقد صارت لهذه الامة مصالح بتدبيرك . فنقبل ذلك ايها العزيز فيلكس بكل شكر في كل زمان وكل مكان» ( عدد 2، 3). AR 379.1
نرى ترتلس هنا ينحدر الى الكذب الوقح لأن اخلاق فيكلس كانت منحطة وحقيرة . لقد قيل عنه انه : «في ممارسة كل انواع الشهوات والقوسة كانت له قوة ملك وطبع عبد» «تاريخ تاسيتوس ، الفصل الخامس والفقرة التاسعة». والذين استمعوا لخطاب ترتلس عرفوا ان كلمات المداهنة التي نطق بها كانت كاذبة ن ولكن رغبتهم في ادانة بولس كانت اقوى من حبهم للحق . AR 379.2
وقد اتهم ترتلس بولس في خطابة بجرائم لو ثبت صدقها لنتج عن ذلك ادانته بالخيانةالعظمى ضد الحكومة . فقد اعلن الخطيب قائلا: «وجدنا هذا الرجال مفسدا ومهيج فتنة جميع اليهود الذين في المسكنونة ، ومقدام شيعةالناصين ، وقد شرع ان ينجس الهيكل ايضا» ( عدد 5، 6). وحينئذ ابان ترتل سان ليسياس ، امير الكتيبة التي في اورشليم ، اخذ بولسبعنف شديد من أيدياليهود عندما كانوا مزمعين ان يحكموا عليه بموجب شريعتهم الروحية ، وبذلك ارغمهم على رفع القضية لفيكلس. وقد ادلى بهذه البيناات لحمل الواليعلى تسلمي بولس الى المحكمة اليهودية. وقد وافق اليهود الحاضروون في دار القضاء على هذه التهم كلها بحماس شديد، وبذلوا جهدا كبيرا لاخفاء عداوتهم للاسير . AR 380.1
كان فيلكس يتمتع بقدر كبير من الذكاء لمعرفة ميول المشتكين على بولس واخلاقهم. لقد عرف الباعث الذي جعلهم يتزلفون اليه ويتملقونه ، كما رأىايضا انهم اعجواز عن اظهار صدق التهمالتي قدموها ضد بولس . واذ التفت في المتهم أومأ اليه ان يجاوب عن نفسه . ولم يضيع بولس وقته في كلام الميد ، انما ابنافقط بأنه يمكنه ان يحتج ويدافع عن نفسه بسرور اشد اما فيكلس مادام انه كان لسنين كثيرة فاض للامة ، وصار يدرك ادراكاصحيحا كنه قوانين اليهود وعاداتهم. واذ اشارو بولس الى التهم الموجهةضده، برهن بكل جلاء على انه ولا واحدة منها صادقة . وقد صرح بأنه لم يحدث أي اضطراب ولا صنع تجمعا في أي قسم من اورشليم ولا نجس الهكيل : «ولم يجدوني في الهكيل احاج احدااو اصنع تجمعا من الشعب ، ولا في المجامعولا في المدينة. ولايستطيعون ان يثبتوا مايشتكون به الان علي» ( عدد 12، 13). AR 380.2
وفي حين انه اعترف انه حسب الطريق الذي يقولو له شيعة ) هكذا عبد اله آبائه ، فقد اكد انه كان دائمايؤمن :- «بكل ماهو مكتوب في الناموس والانبياء» وانه وفقا ملا جاء في تعليم الكتب المقدسة الواضحة ، كان يؤمن بقيامة الاموات . وبعد ذلك اعلن ان القصد الاوحد في حياته هو ان «يكون لي دائما ضمير بلا عثرة من نحو الله و الناس» ( عدد 1416 ) AR 380.3
وبطريقة صريحة صادقة مستقيمة اعلن الغرض من زيارته لأورشليم ، وظروف القبض عليه ومحاكمته فقال : «وبعد سنين كثيرة جئت اصنع صدقات لأمتي وقرابين . وفي ذلك وجدني متطهرا في الهيكل ، ليس مع جمع ولا مع شغب ، ثوم هم يهود من أسيا ، كان ينبغي ان يحضروا لديك ويشتكوا ، ان كان لهم على شي. او ليقل هؤلاء انفسهم ماذا وجدو في من الذنب وانا قائم اما المجمع ، الا امن جهة هذا القول الواحد الذي صرخت به واقفا بينهم : اني من اجل قيامة الاموت احاكم منكم اليوم»( عدد 17 — 21). AR 381.1
كان الرسول يتكلم بغيرة واخلاص ظاهرين وكان لكلامه قوة اقناع عظيمة. هذا وان كلوديوس ليسياس قدم في رسالته الى فيكلس شهادة مشابهة لهذه عن تصرفات بولس . فضلا عن هذا فإن فيلكسنفسه كانت له دراية بالديانة اليهودية اكثر مما ظن كثيرونز ثم ان طريقة بولس الواضحة في تبيانه لحقائق القضية اعانت فيكلي لكي يدرك بوضوح اشد البواعث التي كانت مسيطرة على اليهود في محاولتهم اثبات التهمةعلى الرسول بأنه مثير فتنة وخائن للوطن. ولم ينصع الوالي اليهم او ياحول ارضائهم بالحكم ظلما على مواطن روماني ، ولااسلمه الى ايدهم لينفذوا فيه حكم الموت بدون محاكمة عادلة. ومع ذلك فان فيلكس لم يعرف باعثاث امسى من مصلحته الشخصية ، واكن يسيطر عليه حب المديح ورغبته في الترقي . ثم ان خوفهمن اغضاب اليهود منه من انصاف انسان ، علم انه بريئ ، انصافا كاملا ولذلك . قرر ارجاء المحاكمة حتى يأتي ليسياس : «متى انحدر ليسياس الامر افحض عن اموركم» ( عدد 22). AR 381.2
وقد ظل الرسول سجينا ، الا ان فيلك سامر قائد المئة المكلف بحراسة بولس : «وتكون له رخصة ( حرية ) وان لايمنع احدا من اصحابه ان يخدمه او يأتي اليه» ( عدد 23). AR 382.1
وبعد ذلك بقليلارسل فيكلس ودروسلا امرأته يستدعيان بولس، حتى يسمعان مه في مقابلة خاصة «عن الايمان بالمسيح» كانا يرغبان ويتوقان لسماع هذه الحقائق الجديدة- الحقائق التي قد لايسمعانها مرة اخرى ، والتي رفضاها ستكون شاهدا عليهما في يوم الله. AR 382.2
وقد اعتبر بولس هذه المناسبةفرصة مقدمة له من الله ، فأحسن استخدامها بكل أمانة. لقد عرف انه ماثل في حضرة انسان له السلطان كي يقضي عليه بالموت او طلقه حرا . ومع ذلك فهو لم يخاطب فيلكسودروسلا بألفاظ الميح او التملق . فقد علم ان كلامه يكون بالنسبة لهما اما راحئة حياة او موت ، فاذ نسى كل الاعتبارات الذاتية ـ حاول ايقاظهما للشعور بخطرهما . AR 382.3
ايقن الرسول ان الانجيل واجب عل ىكل من يصغي الى اقواله . وان الناس سيقفون يوما اما حول العرش العظيم الابيض مع القديسينالاطهار ، او مع أولئك الذين سيقول المسيح لهم : «اذهوبا عني يافاعلي الاثم» (ممتى 7 : 23 ). وقد عرف انه لابد انيلتقي مع كل واحد من سامعيه امام محكمة السماء ، وان عليه ان يقدم هناك حسابا ، ليس فقط عن كل ماقال وفعل ، بل ايضا عن الدافع والروح الذي كان وراء اقوالهوافعاله . AR 382.4
كان مسلك فيكلس عنيفا وقاسياجدا لحي ثان قليلين جدا تجرأوا من قبل حتى على الاعياز له بأن أخلاقه وتصرفاته لم تكن معصومة من الخطأ . ولكن بولس لم يكن يخئى بأس انسان. فبكل صراحة جاهر بايمانه بالمسيح، واسباب ذلك الايمان، وهكذا ارشده الله لأن يتحدثبنوع خاص عن تلك الفضائل الجوهرية في الخلق المسيحي ، والتي كان ذانك الزوجان المتغطرسان اللذان وقف أمامهما ، مجردين منها ومحرومين من امتلاكها الى حد مخجل جدا . AR 383.1
وقد أوضح بولس لفيلكس ودروسلا صفات الله — البر والعدل والانصافوطبيعة شريعته. وقد أبان بكل جلاء انه يجب على الانسان ان يحيا حياة الصحو و التعقلوالتعفف ضابطا شهواته بضابط العقل امتثالا لشريعة الله وحاظفا قوى جسمه وعقل ه في حالة الصحة. ثم اعلن انه لابد من مجئ يوم الدينونة ، مافي ذلك شك، وفيه يدان الناس بحسب ماصنعو في الجسد ،وحيث سيعلن بكل وضوح ان الثروة والمركز او الالقاب القوة لها لتكسب الانسان رضى الله ، ا وان تنقذ من قصاص خطيته وعواقبها الوخيمة. وقال ايضا ان هذه الحياةان هي الا الفرصة المقدمة للانسان ليتأهب للحياة العتيدة . لو اهمل الفرص والامتيازات الحاضرة، فسيخسر خسارة ابدية ولن تعطى له فرصى امهال جديدة AR 383.2
وقد اسهب بولسفي كاللام بوجه خاص عن مطاليب شريعة الله البعيدة المدى , ةقد ابان كيف انها تمتد الى اغوار خفاياطبيعة الانسان الادبية وتلقى فيضا من النور على ماقد اخلفي عن عيون الناس وعلمهم. فما تفعله اليدان او ينطق به اللسان- وماتكشف عنه الحياة الخارجية- انما يكشف بكيفية ناقصة صفات الانسان الادبية. ان الشريعة تفحص افكاره وبواعثه ومقاصده. فالانفعالات المظلمة التي يتكم في الداخل بعيدا عن عيون الناس ، والحسد والغيرة والبغضة والشهوة والطمع والطموح الدنيوي والاعامل الشريرة التي يفكر فيها الانسان في مخادع النفس الخقية المظلمة والتي لت تخرج الى حيز التنفيذ لعدم وجود فرصة — كل هذا تدينه شريعة الله. AR 383.3
وقد حاول بولس ان يوجه تكفير ذينك السامعين الى الذبيحة الوحيدة العظيمة المقدمة عن الخطية. لقد اشار الى الذبائح التي كانت رمزا لاشياء عتيدة افضل ، وحينئذ قدم لهام المسيح بوصفه الشخص الذي كانت ترمزاليخ طل تلك الطقوس / الهدف الذي كانت تشير اليه بوصفهه نبع الحياة والرجاء الوحيد للانسان الساقط. لقد خلص القديسون قديما بالايمان بدم المسيح . فإذ كانوا يشاهدون آلام النزع التي كانت تقاسيها تلك الذبائح الكفارية ، تطلعوا عبرة هوة الاجيال الى ححمل الله الذي كان مزعا ان يرفع خطية العالم. AR 384.1
ان لله الحق ان يطلب من خلائقه ان يحبوه ويطيعون . لقد قدم لهم في شريعته مثالا كاملا للحق والصواب. ولكن كثيرين ينسون صانعهم ويفضلون اتباعطريقتهم في مقاومة مشيئته. انه ميقابولن بالعداء محبته التي هي عالية علو السماء ومتسعة كااتساع المسكونة . ان اللهلايمكن ان يخفضمن مطاليب شريعته لكي تتساوى مع مقياس الناس الاشرار ، ولايستطيع االانسان بقوته ان يتمم مطاليب الشريعة. انما فقط بالايمان بالمسيح يستطيع الخاطئ ان يتطهر من اثمه ويستطيع ان يقدم الطاعة لشريعة خالقه . AR 384.2
وهكذا قدم بولس ، السجين ، مطاليب شريعة الله لليهود والام، وقدم يسوع الناصري المحتقر كابن الله وفادي العالم. AR 384.3
لقد فهمت تلك الاميرة اليهودية جيدا الصفة المقدسة لتلك الشريعة التي قد تعدت عليها بغير استحياء ، ولكن تعصبها ضد رجال الجلجلثة قسى قلبها حتى لا AR 384.4
يتأثر بكلمة الحياة. اما فيلكس فلم يكن قد سمع الحق من قبل ، فإذ صوب روح الله سهام التبكيت الى قلبه، تاثر تأثرا عميقا واهتاجت نفسه.. فإذ استيقظ الضمير عنئد ، احس فيلك سان كلام بولس صادق. وقد عادت به الذكرىالى ماضيه وجرائمه التي ارتكبها فيه . وبوضوح مرعب اصطفت امامه خافايا حياته الماضية حياة الخلاقعة وسفك الدماء، وسجل حياته الاسود الذي دونته حياته في نسه اللاحقة . وقد رأى نفسه ان امتلأت بمثل ذلك الرعب . ان الفكر بأنكل خفايا حياته ، حياة الشر والاجرام كانت مكشوفة اما عيني الله ، وانه لادبان يدان بحسب أعماله ، كل ذلك جعله يرتجف من هول الرعب. AR 385.1
ولكن بدلا من ان يسمح لقناعاته ان تسوقه الى التوبة ، حاولة ان يطرد عنه هذه الافكار المزعجة. لقد انهى تلك المقابلة مع بولس بقولهله : «أما الان فاذهب ، ومتى حصلت على وقت استدعيك» ( عدد 25). AR 385.2
ماابعد الفرق بين تصرف فيكلس هذا وبين تصرف سجان فيلبي ، لقد اتي بخادمي الرب مقيدين الى السجان كما أتي ببولس الى فيكلس . ان البرهان الذي قدامه على أنهما كانا مسنودين بقوة الهية، وتهليلهما وتسبيحهما وهما يقاسيان الآلام والعار، وشجاعتهما عندما كانت الارض تترنح بتأثيرهزة الزلزلة ، وروح الغفرن الشبيه بروح المسيح الذي أظهراه ، كل ذلك ادخلالتبكيت الى قلب السجان ، وفيما كان مرتعبا اعترف بخطاياه فوجد غفرانا . اما فيكلسفمع كونه ارتعب فإنه لم يتب . لقد رحبالسجان بروح الله بفرح ليدخل الى قلبه وبيته ،اما فيكلس بأمر الرسول الالهي بالانصراف .واحد منهما اختار يصير ابنا لله ووارثا للسماء ، واما الاخر فـألقى نصيبه مع فعلة الاثم. AR 385.3
ولمدى سنتين لم يتخذ أي اجراء ضد بولس ومع ذلك فقد ظل سجينا . وقد زاره فيكلس مرار واصغى الى اقواله بكل انتباه ولكن الدافع الحقيقي لتودده الظاهر للأسير كان حبه للمال ، وقد قال انه لو دفع بولس مبلغا كبيرا من المال فيمكن ان يطلق سراحه . ومع ذلك فإن طبيعة الرسول كان ت من النبل بحيث رفض ان يطلق سراحه في مقابل رشوة. ان لم يركتب أي جرم ولم يرد ان ينحدر ليرتكب اثما حتى يخرج حرا . وفضلا عن ذلكفقد كان هو نفسه فقيرا لا يمكل الفدية المطلوبة لو انه اراد دفع الفدي ة، ولم يرد ان يلجأ الىعطف اخوتهالمهتدين وسخائهم لاجل نفسه . ثم انه كان يحس بأنه بين يدي الله ولذلك لم يرد ان يتدخل في مقاصد الله لأجله. AR 386.1
اخيرا استدعي فيلكس الى روما بسبب مظالم كثيرة ارتكبها ضد اليهود. فقبلما ترك قيصرية ليجيب على امر استدعائه كمتهم ، فكر في «ان يودع اليهود منة» ( عدد27). بأن يترك بولس سجينا . ولكن فيلكس لم يفلح في محاولته ان يستعيد ثقة اليهود . وقد عزل من وظيفته مجللا بالعار وعين بورك كيوس فستسو ليخلفه واكن مركز ادارته في قيصرية . AR 386.2
لقد نزلت شعاع من نور السماء لتنير طريق فيلكسعندما كان بولس يحاجه عن البر والتعفف والدينونة العتيدة. تلك كانت الفرصة المقدمة له من السماء ليرى خطاياه ويتركها . ولكننه قال لرسول الله : ( انا الان فاذهب ، ومتى حصلت على وقت استدعيتك ). لقد استهان بآخر هبة رحمة قدمت له. ولم تقدم له دعوة أخرى من الله بعد ذلك . AR 386.3