أعما لالرُّسل
الفصل الثامن والثلاثون
بولس يؤخذ اسيرا
(يعتمد هذا الفصل على ماورد في أعمال21 : 17 -23: 35)
«ولما وصلنا الى اورشليم قبلنا الاخوة بفرح . وفي الغد دخل بولس معنا الى يعقوب ، وحضر جميع المشايخ» ( أعمال21 : 17 ، 18). AR 361.1
في هذه المرة قدم بولس ورفاقه رسميا الى المشايخ المناظرين على العمل في اورشليم العطايا التي ارسلتها كنائس الامم لإعالة الفقراء بين الاخوة في اليهودية . ان جمع هذه التبرعات قد كلفالرسول وزملاءه وقتا طويلا وتفكيرا جزعا وجهدا وتعبا جسمانيا . ان هذا المبلغمن المالالذي فاق كل انتظارات المشايخ في اورشليم كان رمزا لتضحيات كثيرة وحتى لحرمان شديد وقاس من جانب المؤمنين من الامم . AR 361.2
فهذه العطايا التطوعية انبأت عن ولاء المهتدين من الامم لعمل الله المنظم في ارجاء العالم. وكان ينبغي ان يقبله الجميع معبرن عن شكرهم وامتنانهم. ومع ذلك فقد ظهر لبولس ورفاقه أنه حتى بين هؤلاء الذين كانواواقفين امامهم وجد قوما كانو عاجزين عن تقدير روح المحبة الاخوية التي دفعت أولئك الناس لتقديم تلك العطايا . AR 361.3
في اثناء السنوات الاولى لعمل الانجيل بين الامم وجد بين الاخوة المتقديم في اورشليم جماعة كانوا متعلقين بالتعصب القديم والعدات الموروثة، هؤلاء لم يتعاونو تعاونا قلبيا مع بولس ورفاقه. ففي اهتمامهم الدقيق بحفظ فرائض وطقوس لامعنى لها غابت عن أنظارهم البركة التي كان يمكن ان تأتيهم وتأتي الى عمل الانجيل الذي قد احبوه وذلك عن طريق توحيد كل اجزاء عمل الرب معا . ومع رغبتهم في حراسة افضل لصالح الكنيسة المسيحة فقد اخفقوا في مسيارة عناية الله التقدمية . وفي حكمتهم البشرية حاولوا ان يفرضوا على الخدام كثيرا من الفيود التي لالزوم لها . وهكذا قامت جماعة من الناس الذين لم يكونوا يعرفون ، معرفة شخصية ، شيئاعن تطورات الظروف والحاجات الخاصة التي كان يواجهها الخدام في الحقول البعيد ة، ومع ذلك اصروا على ان لهم السلطان لتوجيه اخوتهم في هذه القحول ليتبعوا وسائلمحددة للعمل . فقد احسوا كما لو انه عمل الكرازة بالانجيل يبنغي القيام به بحيث يكون متققا مع ارائهم . AR 362.1
كانت قد مرت بضعسنوات منذ تأمل الاخوة في اورشليم مع ممثليهم من الكنائيس الرئئيسة الاخرى ، تأملا جديافي المشكلة المحيرة التي ظهرت عن الوسائل التي كان يتبعها من كانوا يخدمون بين الامم . كان من نتائج ذلك المجمع ان الاخوة اتحدوا معا في وضع توصيات محددة للكنائس عن بعض الطقوس والعادات بما فيها الختان. وفي ذل المجمع العام اتحد الاخوة ايضا في مدح برنابا وبلوس لدى الكنائس المسيحية على انهما خادمات يستحقان ثقة كل مؤمن كاملة . AR 362.2
وكان بين الحاضرين في ذلك الاجتماع قوم كانوا ينتقدون بكل مرارة وسائل العمل التي كان يتبعها الرسل الذين اضطلعو بالعبء الاكبر للكرازة بالانجيل في العالم الاممي . ولكن في اثناءالمجمع اتعتب افاق تفكيرهم عن مقاصد الله واتحدوا مع اخوتهم في وضع قرارات حكيمة كفلت امكانية توحيد هيئة المؤمنين جميعا . AR 362.3
وبعد ذلك ، عندما ظهر جليا ان المهتدين من الامم قد تكاثر عددهم بسرعة ، كان يوجد قليلون من اكابر الاخوة في اورشليم الذين عادو من جديد يتشبثون بتعصبهم السابق ضد وسائل بولس ورفاقه . وقد ازدادت شدة هذه التعصبات بمرور السنين الى ان قرر بعض القادة ان عمل الكرازة بالانجيل يجب ان يسير منذ الان بما يتفق مع آرائهم. فذ جعل بولس وسائله تتفق مع بعض الخطط التي كانوا يدافعون عنها فسيعترفون بعمله ويعضدونه ، والا فإنهم لن يعودوا ينظرون الى ذلك العمل نظرة الرضى او يعضدونه. AR 363.1
لقد غابت عن انظار هؤلاء الناس حقيقة كون اللههو معلم شعبه ،وان على كل خدام في عمله ان يحصل على اختبار فردي في اتباع القائد الالهي ، والا ينظر الى البشر للحصول على التوجيه المباشر ، اون خدامه يجب ان يصاغوا ويشكلوالا في قالب آراء الانسان بل في القالب الالهي. AR 363.2
ان الرسول بولس في خدمته علم الناس لا «بكلام الحكمة الانسانية المقنع ، بل ببرهان الروح والقوة» ان الحقائق التي كرز بها اعلنت له بالروح القدس : «لأن الروح يفحص كل شيئ حتى اعماق الله . لأن من من الناس يعرف امور الانسان الا روح اللانسان الي فيه ؟هكذا ايضا امور الله لايعرفها احد الا روح الله» ثم يعلن الرسول قائلا : «التي نتكلم بها ايضا ، لا بأقوال تعلمها حكمة انسانية ، بل بما يعلمه الروح القدس ، قارنين الروحيات بالروحيات » ( 1 كورنثوس 2 : 4 ، 10 — 13). AR 363.3
ان بولس في مدى سنيى خدمته كان يتطلع الى الله في انتظار الارشاد المباشر . وفي الوقت نفسه كان حريضا جدا على ان يخدم في وفاقمع قرارات مجمعوارشليم العام . وكان من نتائج ذلك ان الكنائس كانت «تتشدد في الايمان وتزداد في العدد كل يوم» ( اعمال 16 : 5). والان فبرغم كون البعض لم يظهروا له عطفا ، فقد وجد عزاء في الشعور بأنه قد ادرى واجبه في كونه قد عزز في نفوس المهتدين على يديه روح الولاء والكرام والمحبة الاخوية ، كما تجلت هذه الفرصة في العطايا السخية التي استطاع ان يضعها اما مشايخ اليهود . AR 363.4
وبعد تقديم العطايا : «طفق(بولس) يحدثهم شيئا فشيئا بكل مافعله الله بين كل الامم بواسطةخدمته» ( اعمال 21 : 19). فهذا السرد للحقائق ادخل الى اقلوب الجميع حتى من كانو متشككين ومرتابين ، الاقتاع بأن بركة السماء رافقت خدماته : «فلما سمعوا كانو يمجدون الرب» ( أعمال 21: 20). لقد احسوا بأن النظم التي استخدمها الرسول في العمل كانت تحمل ختم السماء . فالعطايا الخسية الموضوعة أمامهم زادت من قوة شهادة الرسول على امانة الكنائس الجديدة المقامة بين الامم. فالرجال الذين اذ كانوا محسوبين ضمن المسؤولين عن العمل في اورشليم وألحوابوجوب اتخاذ اجراءات تعسفية للسيطرة، رأوا خدمة بولس في نورجديد ، واقتنعوا بخطأ تصرفهم وعلموا انهم كانوا مستعبدين للعادات والتقاليد اليهودية ، وان عمل الانجيل قدتعطل كثيرا لاخفاقهم في الاعتراف بأن حائط السياج بين اليهود والامم قد نقض بموت المسيح . AR 364.1
كان هذه هي الفرصة الذهبية لكل الاخوةالمتقديم ليعترفوا صراحة بأن قد عمل بواسطة بولس وأنهم هم في بعض الاوقات قد أخطأوا في السماح للأخبار التي أذاعها أعداءه ان تثير حسهم وتعصبهم ولكن بدلا من ان يبذلوامجهودا جماعيا لانصاف ذلك الذي قد تضرر ، قدموا له مشورة برهنت على انهم لايزالون يضمرون لبولس شعوربأنه يجب ان يكون هو المسئولاكثر من غيره عن التعصب السائد حينئذ . انهم لم يقفوا منه موقفانبيلا دفاعا عنه محاولين ان بيينوا لجماعة الساخطين عليه اوجه خطئهم ، بل حاولوا ان يعقدوا صلحا بأن اشارو عليه باتباع خطة كانوا يرون انها كفيلة بازالة كل اسباب سوء التفاهم . AR 364.2
وجو ابا على شهادته قالو له : «انت ترى ايها الاخ كم يوجد ربوة من اليهود الذي آمنوا ، وهم جميعا غيرويون للناموس . وقد اخبرو عنك انك تعلم جميع اليهود الذين بين الامم الارتداد ع موسى ، قائلام ان لايختنوا اولادهم لا يسلكوا حسب العوائد. فاذاماذا يكو ن؟ لابد على كل حال ان يجتمع الجمهور ، لأنهم يسيمعون انك قد جئت. فافعل هذا الذي نقول لك عندنا اربعة رجال عليهم نذر ز خذ هؤلاء تظهر معهم وانفق عليهم يحلقوا رؤسهم ، فيعلم الجميع ان ليس شيئ مما اخبروا عنك ، بل تسلك انت ايضا حافظا للناموس . واما من جهة الذين آمنوا من الامم ، فأرسلنا نحن اليهم وحكمنا ان لايحفظوا شيئا مثل ذلك ، سوى ان يحافظوا على انفسهم مما ذبح للاصنام ، ومن الدم والمخنوق، والزا» ( اعمال21”20 -25) AR 365.1
كان الاخوة يرجون ان يولس اذ يعمل بموجب تلك الخطة المقترحة يقدم تكذيبا حاسما للاخبار الكاذبةالتي أشيعت عنه . وقد أكدوا له بأن حكم المجمع الاول بخصوص المهتدين من الامم ، والناموس الطقسي لايزال ساريال . ولكن هذه المشورة التي قدموها له لم تكن متفقة مع ذلك القرار . ان روح الله لم يلهمهم بتقيدم تلك النصيحة لبولسولكنها كانت من ثمار الجبن . لقد علم قادة الكنيسة في وارشليم ان عدم امتثال المسيحيين للناموس الطقسيسيعرضهم لعداء اليهود الذين قد يوقعون عليهم الاضطهاد . لقد كان مجمع السنهدريم يبذل قصاراه لتعطيل تقدم الانجيل وانتشاره . وقد اختار هذا المجمع رجالا ليتعقبوا الرسل ن سيما بولس ، وبكل وسيلة ممكنة يقاومون عملهم . فلو حكم على المؤمنين بالمسيح امام السنهدريم على انهم كاسروا الناموس ، فلا بد من ان يحلبهم قصاص سريع وصارم كمرتدين عن الايماناليهودي . AR 365.2
ان كثيرين من اليهود الذين كانوا قد قبلوا الانجيلظلوا يوقرون الناموس الطقسي كانوا يرغبون اشد الرغبة في الادلاءبتصرحيات طائشة محاولينبهذه الوسيلة ان يكسبوا ثقة مواطنيهم ويلاشوا تعصبهم ويبحوهم للايمان بالمسيح كفادي العالم. وقد تحقق بولس من انه طالما ظل المتقدمون بين اعضاء كنية ورشليم يضمرون التعصب ضده فسيعملون دائما لاطال تأثيره . وقد احس انه لو امكنه بأي اذعان مقعول ان يربحهم الى جانب الحق لكان يستطيع ازاحة عقبة عظية من طريق تقدم الانجيل ونجاحه في اماكن اخرى . ولكن الله لم يخول له ان يذعن بقدر ما أرادوا . AR 366.1
اننا عندما نفكر في رغبة بولس العظيمة في ان يكون في حالة وفاق مع اخوته ، فان عطفة تحو الضعفاء في الايمان ، واحترامه للسل الذين كانو مع المسيح ، وليعقوب اخي الرب، وغرضه في ان يكون كل شيئ لجميع الناس على قدراستطاعته دون ان يضحي بمبادئه- عندما نفكر في هذا كله ، فإنه لم يكن امرا مستغربا جدا ان امكن الزامه بالانحراف عن الطريق الثابت الحاسم الذي ابتعه الى ذلك الحي ن. ولكن بدلا من تحقيق الغرض المشتهى ، فان محاولاته لأجل التوفيق عجلت بالكارثة ، وبوقع الآلام التي قد أنبئ بها والتي عملت بالنتيجة على التفريق بنيه وبين اخوته ،وحرمت الكنيسة من احد اقوى اعمتدها ، وملأت قلوبكثيرين من المسيحينن بالحزن في كل البلدان. AR 366.2
وفي اليوم التالي بدأ بولس في العمل بمشورة الشيوخ . فالرجال اربعة كان عليهم نذر كانت قد انهت مدته تقريبا ، اخذهم بولس ودخل فيهم الهكيل AR 366.3
«مخبرا بكمال ايام التطهير ن الى ان يقرب عن كل واحد منهم القربان» ( اعمال 21: 26). وكان لابدمن تقديم ذبائح غالية عنهم ( انظر سفر العدد 6). AR 367.1
ان الذين نصحوا لبولس باتخاذ هذه الخطوة لم يقدروا تماما الخطر العظيم الطي سيعترض له نتيجة لذلك. ففي ذلك العيد امتلأت اورشليم بالعابدين من بلدان كثيرة . فإذ حمل بولس الانجيل الى الامم اتماما للتفويض المعطى لهم الله فقد زار كثيرا من اعظم مدن العالم وكان معروفا لدى آلاف ممكن قد أتوا من بلاد اجنية لاحياء العيد في اورشليم . وبين هؤلاء وجد رجال امتلأت قلوبهم بالعداوة المرة ضد بولس. فكونه يدخل الهيكل في ذلك العيد العالم يعني انه كان يخاطر بحياته . ولمدى عدة ايام جعل يدخل ويخرج بين العابدين ، وكان يبدوا كأن احدا لم يلاحظه. ولكن قبل انتهاء فترة النذر المحددة ، اذ كان يتحدث مع الكاهن عن الذبائح المطلوب تقديمها ، عرفه بعض اليهود القادمين من آسيا . AR 367.2
فباهتياج كاهتياج الشياطين هجوا عليه صارخين : «أيها الرجال الاسرائليون ، اعينوا هذا هو الرجال الذي يعلم الجميع في كل مكان ضدا للشعب والناموس وهذا الموضع» ( أغمال21:28). واذ استجاب الشعب للدعوة في طلب المعونة اضيفت تهمة اخرى مؤداها : «حتى ادخليونانييون ايضا الى الهيكل ودنس هذاالموضع المقدس» ( عدد28). AR 367.3
وكان الشريعة اليهودية تعتبر دخول أي شخص اغلف الى اروقة الهيكل الداخلية المقدسة، جريمة قصاصها الموت. واكن بولس قد رئي من قبل اورشليم في حصبة تروفيمس الافسسي فظنوا ان قد ادخله الى الهكيل . ولكنه لم يفعل هذا ، واذا كان هو نفسه يهوديا فان دخوله الهكيل لم يكن معتبرا انتهاكا للشريعة . ولكن مع ان التهمة كلها كانت كاذبة فقد كانت كفية بإثارة تصعب الشعب . واذا انتشرت تلك الصرحة وتناقلتها الافواه في اروقة الهيكل ثارت ثائرةتلك الجماهير . المجتمعة هناك. وبسرعة عظيمة انتشر البخر في كل اورشليم: «فهاجت المدينة كلها ، وتراكض الشعب» ( اعمال21: 30) AR 367.4
ان الاشاعة القائلة بأن انسان مرتدا عن اسرائيل تجرأ على تنجيس الهيكل في الوقت نفسه الذي فيه احتشدت هناك آلاف من كل انحاف العالم لتسجد ، اثارت اعنف احاسيسالغضب في قلوبالرعاع : «وامسكوا بولس وجروه خارجالهيكل. وللوقت اغلقت الابواب» AR 368.1
«وبينما هم يطلبون ان يقتلوه ، نما خبر الى امير الكتيبة ان اورشليم كلها قد اضطربت». لقد عرف كلوديوس ليسياس جديا عناصر الاضطراب و الاهتياج التي كان عليه ان يتعامل معها : «فللوقت اخذ عسكرا وقواد مئاي وركض اليهم . فملا رأوا الاميروالعسكركفوا عن ضرب بولس» ( اعمال 21 : 30 — 32). فإذ كانالقائد الروماني يجهل اسباب ذلك الشغب ،واذ رأى غضب الشعب موجها كله ضد بولس ، استنتج انه لابد ان يكون ثائرامصريا كان قد سمع بخبره ولم يتمكناد من القبض عليه بعد. ولذلك : «امر ان يقيد بسلسلتين ، وطفق يستخبر : ترى من يكون ؟ وماذا فعل ؟» ففي الحال ارتفعت اصوات الاتهام العالية الغاضببة : «وكان البعض يصرخونبشيئ والبعض بشيئ آخر في الجمع .ولما لم يقدر ان يعلم اليقين لسبب الشغب ، امر ان يذهب به الى المعسكر . ولما صار على الدرج اتفق انالعسكر حملة بسبب عنق الجمع ، لأنجمهور الشعب كانوا يتبعونه صارخين خذه» ( أعمال21 : 33 -36). AR 368.2
ففي وسط ذلك الشغب كان الرسول هادئا وضابطا لنفسه . كان عقله مثبتافي الله وعرفان ملائكة السماء يعسكرون حوله . وقد احس ان ه لاريد ان يترك الهكيل دون ان يبذل مجهوداليكرز بالحق امام مواطنيه . واذ كان موشكا ان يؤخذ الى المعسكر قال للأمير : «ايجوز لي ان اقول لك شيئا ؟» فأجابه ليسياس : «اتعرف اليونانية ؟ افلست انت المصري الذي صنع قبل هذه الايام فتنة ، واخرج الى البرية اربعة الالاف الرجل من القتلة ؟» فأجابة بولس بقوله ك«انا رجل يهودي طرسوسي ، من اهل مدينة غير دنية من كيليليكة ، والتمس منك ان تأذي لي ان اكلم الشعب» (عدد 37 -39). AR 368.3
وقد اجيب الى طلبه حيئنذ : «وقف بولس على الدرج واشار بيده الى الشعب» ان اشارهيده استرعت انتباههم بينما هيئته أوجبت علليهم الاحترام : «فصار سكو تعظيم . فنادى باللغة العبرانية قائلا اهيا الرجال الاخوة والاباء ، اسمعوا احتجاي الان لديكم»فإذ سمعوه يخاطبهم لبغتهم العربانية المألوفة : «اعطوا سكوتا أحرى» ففي وسط طلك السكون الشامل راح يقول : «انا رجل يهودي ولدت في طرسوس كيليكية ، ولكن ربيت في هذه المدينة مؤدبا عند رجلي غمالائيل على تحقيق الناموي الابوي . وكنت غيورا لله كما انتم جميعكم اليوم» ( أعمال 21 : 40 ، 22 ،: 1 -3). ولم يكن لأحد ان ينكر بيانات الرسول حيث ان الحقائق التي اشار اليها كانت معرفوة لدىكثيرين ممن كانوا لايزالون احياء في اورشليم . ثم تحدث عن غيرته الاولىفي اضطهاد تلاميذ المسيح حتى الموت وقص عليهم ظروف اهتدائه مخبرا اياهم كيف خضع قلبه المتكبر للناصري المصلوب . فلو انه حاول الاشتباك في جدال مع خصومع ارفضوا بكل عناد الاصغاءالى اقواله ولكن القصة أوردهامن واقع اختباره كانت مصحوبة بوقة اقناع بدا انها قد ألانت وأخضغت قلوبهم في ذلك الحين . AR 369.1
وقد حاول بعد ذلك ان يبرهن ان خدمته بين الامم لم يسرع فيها باختياره. فقد كان يرغب ان يخدم بين امته ولكن في نفس اذلك الهيكل كلمه الله بصوته في رؤيا مقدمسة موجها ومحدددا الطريق الذي يسكله : «الى الامم بعيدا». AR 369.2
إلى هنا اصغى الشعب بانتباه عظيم، ولكن عندما وصل بولس الى ذلك الحد من تاريخه خيث اقيم سفيراللمسيح بين الامم ، ثار ثائرهم من جديد. فإذ كان اليهود قد اصطلحوا على ان ينظروا الى انفسهم بوصفهم الشعب الوجيد المنعم عليه من الله ، لم يرغبوا في السماح للأمم المحتقرين بمقاسمتهم في الامتسازات التي كانت الى ذلك الحين تعتبر مقتصرة عليهم . فإذ رفعوا اصوالتهم فوق صوت ذلك الحطيب صاحول قائلين: «خذ مثل هذ من الارض ، لأنه كان لايجوز ان يعيش». AR 370.1
«واذ كانوا يصيحون ويطرخون ثيباهم ويرمون غبارا الى الو ، امر الامير ان يذهب بهالى المعسكر ، قائلا ان يفحص بضربات ليعلم لأي سببكانوا يصرخون عليه هكذا». AR 370.2
«فلما مدوه للسياط ، قال بولس للقياد المئة الواقف ايجوز لكم ان تجلدوا انسان رومانيا غير مقضي عليه ؟ فاذا سمع قائد المئة ذهب الى الامر ، واخبره قائلا انظر ماذا انت مزمع ان تفعل لأن هذا الرجال رومانيي فجاء الامر وقال له قل لي أنت روماني ؟ فقال نعم. فأجاب الأميرأما انا فبمبلغ كبير اقتنيت هذه الرعية . فقال بولس اما انا فقد ولدت فيها . وللوقت تنحى عنه الذين كانوا مزمعين ان يفحصوه. واختشى الامير لما علم انه روماني ولأنه قد قيده». AR 370.3
«وفي الغد اذ كان يريد ان يعلم اليقين : لماذا يشتكي اليهود عليه ؟ حله من الرباط ، وامر ان يحضر رؤساء الكهنة وكل مجمعهم . فأحضر بولس وأقامه لديهم» ( أعمال22 : 21 -30). AR 370.4
كان الرسول مزمعا ان يحاكم الآن أمام المحكمة نفسها التي كان هو أحد أعضائها قبل اهتدائه . فإذ وقف أمام رؤساء اليهود كانت هيئته هيئة الهدوء وتجلى على وجهه سلام المسيح : «فتفرس .. في المجمع وقال ايها الرجال الاخوى، انيبكل مضير صالح قد عشب لله الى هذا اليوم ) . فذا سمعوا هذا القول اشتعلت في قلوبهم نار العداوة من جديد : «فأمر حنانيا رئيس الكهنة ، الواقفين عنده ان يضربوه علىفمه). فأمام هذا الامر القاسي صاح بولس قائلا: «يضربك الله أهيا الحائط المبيض أفأنت جالس تحكم على حسب الناموس، وانت تامر بضربي مخالف للناموس ؟ فقال والقفون : ( اتشتم رئيس كهنة الله ؟ ) فببشاسته المعتادة اجاب بولس قائلا: «لم اكن اعرف ايها لاخوة انه رئيس كهنة ، لانه مكتوب : رئيس شعبك لاتقبل فيه سوءا à . AR 370.5
«ولما علم بولس ان قسما منهم صدوقيون والاخر فريسيون ، صرخ في المجمع ايها الرجال الاخوة ، انا فريسي ابن فريسي ، على رجاء قيامة الاموت انا احاكم» AR 371.1
«ولما قال هذا حديث منازعة بين الفريسيين والصدويقيي، وانشقت الجماعة لأن الصدوقيين يقولون انه ليس قيامةولا ملاك ولا روح ، اما الفريسون فيقرون بكل ذلك» . فبتدأ الحزبان يخاصم اخدهما الآخر وهكذا خفت حدة مقاومتهم لبولس «ونهص كتبة قسم الفريسيين وطفقوا يخاصمون قائلين : «لسنانجد شيئا رديا في هذا الانسان ، واان كان روح او ملاك قد كلمهفلانحاربنالله» ( اعمال23 :1 — 9). AR 371.2
ففي التشويش الذي حدث عقب ذلك ، حاول الصدوقيون بكل شوق وهلفة ان يقبضوا على الرسول حتى يقتلون ن اما الفريسيون فتاقوا بهلفة مماثلة الى حمياته . فإذ «اختشى الامير ان يفسخو بولس ، فأمر العسكر ان ينزلواويختطفوامن وسطهم ويأتو به الى المعسكر» ( أعمال23 : 10). وبعد ذلك اذ كان يتأمل في تلك الاختبارات القاسية التي وقعت له في ذلك اليوم ، ابتدا بولس يخشى لئلا يكون تصرفه غير مرضي امام الله . ايمكن ان يكون قد أخطا أخيرا اذ زار أورشليم ؟ فهل رغبته الحارة في الانضمام الى اخوته هي التي ادت الى هذه النتيجة المشؤومة ؟ AR 371.3
ان ذلك الدور الذي لعبه اليهود المدعين انهم شعب الله المختار امام العالم العديم الايمان ، سبب لنفس الرسول حزناوالما شديدين . فكيف ينظر اليهم اولئك الضباط الوثنيون ؟اذ يدعون بأنهم يعبدو الله ويشغلون وظيفة مقدسة ومع ذليسمولن انهم لتحكم الغضب الاعمى غير المعقول فيهم وفي تصرفاتهم ويحاولن اهلاك حتى اخوتهم الذي نيتجرأون على مخالفتهمفي العقيدة الدينية ، ويحولون مجلسهم المقدس الوقور الةى مشهد من مشاهد النزاع والتشويش الجنوي . لقد احس بولس ان اسم الهه قد لحقه العار في نظر أولئك الوثنيين . AR 372.1
اما الآن فقد القى به في السجن وقد عرف نا أعداءه في خبثهم وحقدهم المتهور سيلجأونالى أية وسيلة ليقضوا عليه . فهل حقا انهت خدمته للكنائس، وهل يتدخلها الآن الذئاب الخطافة ؟ كان عمل المسيح محبوبوا جدا لقلب بولس، وكان يفكرفي المخاطر المحدقة بالكنائس المبغثرة هنا وهناك بجزع عميق ، تلك الكنائس التي كانت محرضة لاضطهاد انس كالذين اصطدم بهم في مجمع السنهدريم . ففي ضيقه وخوفه بكى وصلى . AR 372.2
ولكن في ساعة الظلمة تلك لم يكن الرب غافلا عن خادمه. لقد حرسه من ذلك الجمع سفاك الدماء في اروقة الهيكل ، واكن معه وهو ماثل أمام جمع السنهدريم ، واكن معه في القلعة ، وقد اعلن نفسه لشهاده الأمين اجابة لصوات الرسول الجادة في طلب الارشاد: «وفي اللية التالية وقف به الرب وقال : ثق يابولس لأنك كما شهدت بما يلي في اورشليم ، هكذا ينبغي ان تشهد فيرومية ايضا» ( أعمال23 ، 11). AR 372.3
كان بولس يتطلع طويلاالى الامام مشتاقا لزيارة روما . وكان يرغب جدا في ان يشهد للمسيح هناك ، ولكنه احس بأن مقاصده احبطا عداوة اليهود. ولم يكن يتوقع حتى ذلك الحين بأنه سيذهب الى هناك اسيرا . AR 373.1
وفيما كان الرب يشجع خادمه ، فإن أعداء بولس كانوا يتأمرون عليه متلهفين على اهلاكه . «ولما صار النهار صنع بعض اليهود اتفاقا ، وحرموا انفسهم قائلين : انهم لايألكون ولاشربون حتى يقتلوا بولس . وكان الذين صنعوا هذا التحالف اكثر من اربعين» ( أعمال23 : 12 ،13). هنا نجد صوما شبيها بذالك الذي قد دانه الله بفم اشعياء — صوما «للخصومة والنزاع تصومون ، ولتضربوا بلكمة الشر» ( أشعياء57 : 4). AR 373.2
فأولئك المتآمرون : «فتقدموا الى رؤساء الكهنة والشيوخ وقالو قد حرمنا انفسنا حرما ان لانذوق شيئا حتى نقبل بولس . والآن اعلماو الامر انتم مع المجمع لكي ينزله اليكم غدا ، كأنكم مزمعون ان تفحصوابأكثر تدقيق عما له ونحن ، قبل ان يقترب ، مستعدون لقتله» ( أعمال23 : 14 ، 15 ). AR 373.3
ان الكهنة والشيوخ بدلامن ان يوبخوا اولئك الرجال على هذ ه المكيدة القاسية وافقوا عليها بلهفة. انبولس قال الصدق عندما شبه حنانيا بالقبر المبيض . AR 373.4
الا ان الله تدخل لانقاذ حياة خادمه . ذلكا ابن اخت بولس اذ سمع «بالكمين» الذي نصبه أولئك السفاحون«جاء ودخل المعسكر وأخبر بولس فاستعدى بولس واحدامن قواد المئاب وقال اذهب بهذا الشابالى الامير ، لأن عنده شيئا يخبره به . فـأخذه وأحضره الى الامير وقال استدعاني الاسير بولس وطلب ان احضر هذا الشاب اليك ، وهو عنده شيئ ليقوله لك» ( اعمال23 : 16 — 18). AR 373.5
وقد استقبل كلوديون ليسياس الشاببكل رفق ، واذ تنحى به سأله : «ماهو الذي عندك لتخبرني به ؟» فأجابه الشاب قائلا : «ان اليهود تعاهدو ان يطلبو منك ان تنزل بولس غدا الى المجمع ، كأنهم مزمعون ان يستخبرونا عنه بأكثر تدقيق . فلا تنقد اليهم ، لان اكثر من اربعين رجلا منهم كامنون له ، قد حرموا انفسهم ان لايألكوا ولا يشربوا حتى يقتلوه .وهم الآن مستعدون منتظرون الوعد منك». «فأطلق الامير الشاب موصيا اياه ان لاتقل لأحد انك اعلمتني بهذا» ( أعمال23 : 19 -22). AR 374.1
ففي احال قرر ليسياس ان ينقل بولسمن دائرة اختصاصه الى دائرة اختصاص فيكلس الوالي . كان اليهود كشعب في حالةاهتياج وانفعال وكانوا كثيرا ميحدثون الشغب .ووجود الرسول في اورشليم بشكل دائما قد يؤدي الى نتائج خطرة على المدين ةروبما للوالينفسه ولذلك: «دعا اثنين من قواد المئاب وقال أعدا مئتي عسكري ليذهبوا الى قيثرية ، وسبعين فارسا ومئتي رامح ، من الساعة الثالةث من الليل . ان يقدما دواب ليركبا بولس ويوصلاه سالما الى فيكلس الوالي» ( أعمال23 : 23 ، 24). AR 374.2
لم يكن هنالك وقت يضيعونه في ترحيل بولس : «فالعسكر أخذوا بولس كم امروا ، وذهبوا به ليلا الى انتيباتريس» ( عدد31). ومن هناك سار الفرسان بالاسير الى قيصيرية ، بينما عاد الاربعمائة عسكري الى اورشليم . AR 374.3
وقد سلم قائد الكتيبة المسؤال أسيرة الى فيكلس كما سلمه ايضا رسالةاعطاه اياها الامير وفيها يقول : «كلوديوس ليسياس ، يهدى سلاما الى العزيز فيكلس الوالي. هذا الرجللما امسكه اليهود وكانوا مزمعين ان يقتلوه ، اقلبت مع العسكر وأنقذته ، اذ اخبرت انه روماني . زكنت اريد ان اعلم العلة التي لأجلها كانو يشتكون عليه ، فأنزلته الى مجمعهم، فوجدته مشكوا عليه من جهة مسائل ناموسهم. ولكن شكوى تستحق الموت او القيود لم تكن عليه. ثم لما اعلمت بمكيدة عتيدة ان تصير على الرجال من اليهود ، ارسلته للوقت اليك ، آمرا المشتكين ايضا نا يقولون لديك ماعليه . كن معافى» ( أعمال23: 26 -30). AR 374.4
ولما قرأ فيلكس الرسالة سألالى اية ولاية ينتهمي الاسير وعندما قبل له ان ه من كيكلية قال : «ساسمعك متى حضر المشتكون عليك ايضا . وأمر ان يحرس في قصر هيرودس» ( عدد35 ). AR 375.1
ان قضية بولس لم تكن هي الاولى التي وجد فيها خادمالله ملجأ وملاذا عند الوثنيين يحميه من خبث من يقولونانهم شعب الله المختار . ان اليهود اهتاجهم ضد بولساضاوفا جريمة جديدةالى تلك القائمة السوداء التي اشتهت ربها تاريخ ذلك الشعب . لقد ظلوا يقسون قلوبهم ضد الحق وبذلك صارت دينوتهم أكيدة وهلاكهم محتوما . AR 375.2
قليلون هم الذين يتحققون من المعنى الكامل اللكلام الذي نطق به المسيحالذي اذا كانفي مجمع الناصرة اعلن عن نفسه ان المسيا. وقد اعلن ان ارسل ليعزي ويبارك الويخلص المحزونين والخطاة ، وحينئذ اذ رأى الكبرياء وعدم الايمان قد سيطرا على قلوب سامعيه ، ذكرهم ان الله في العصور القديمة تحول عن شعبه المختار بسبب عدم ايمانهم وتمردهم ، واعلن نفسه لبعضمن كانوا من البلدان الوثنية ممن لم يكونواقد رفضوا نور السماء . افارملة صرفة ونعمان السرياني عاشا بموجب كل النور المعطى لهماولهذا فقد حسبا اكثر برا من شعب الله المختار الذين قد ارتدوا عنه وضحوا بالمبادئ طلبا للراحة والكرامة الدنيوية . AR 375.3
وقد نطق المسيحفي مسامع اليهود في الناصرة بحق مخيفعندما اعلن لهم ان رسول الله الامين لايجد لنفسه امانا في ربع اسرائيل المرتد . لم يريدوا ن يعرفوا قدره ا وان يقدرو خدماته . وفي حين كا رؤساء اليهود يتشدقون بغيرتهم العظيمة على كرامة الله وخيراسرائيل ، كانوا اعداء لكليهما . فأبقواالهم ومثالهم كاناو يبعدون الشعب عن الطاعة الله شيئا فشيئا- كانوا يبعدونهم الى المكان الذي لم يكن لله ان يكون ملجأ لهم في يوم الضيق . AR 376.1
إن كلام التوبيخ الذي وجهه المخلص الى شعب الناصرة كان ، في قضية بولس ، منطبقا لا على اليهود غير المؤمنين وحدهم ،بل على اخوته في الايمان انفسهم. فلو ان قادة الكنيسة تنازلو كليا عن احساسهم بالمرارة نحو الرسول ، وقبلوه باعتباره قد دعي دعوة خاصة من ليحمل الانجيل الى الامم ، لكن الرب قد ابقاه لهم. ولم يكن الله قد قرر ان تنتهي خدمات بولس هكذا سريعا ، ولكنه لم يجر معجزة ليبطل ويوقف تتابع الاحداث والظروف التي أوجدها مسلك قادة كنيسة أورشليم AR 376.2
ونفس هذه الروح لاتزال تؤدي الى نفس انتائج . فاعمال تقدير معونة النعمة الالهية واهما ل استخدما حسنا ، جرد الكنيسة ورحمها من بركات كثيرة. كم من المرات كان الله يريد ان يطيل خدمات احد الخدام الامنياء لو ان الناس قدروها حق قدرها . ولكناذا كانت الكنيسة تسيمح لأعداء النفوسبأن يفسدوا الاذهان بحيث يشوهون ويحرفون اقواال خادم المسيح وافعاله، واذا سمحوا لأنفهسم بأن يعرتضوا طريقه ويعطلوا نفعه، فالرب أحيانايحرمهم من البركة التي منحهم اياها . AR 376.3
ان الشيطان دائب على العمل بواسطة اعوانه في تثبيط عزائهم أولئك قد اصطفاهم الله لانجاز عمل عظيم صالح ، واهلاكهم ان امكن . قد يكونون مستعيدن للتحضية حتى بالحياة نفسها في سبيل نجاح وتقدم ملكوت الله وعمل المسيح، ومع ذلك فإن المحتال الاعظم يقترح على اخوتهم ان يشكوا فيهم،تلك الشكوك التي لو ابقوا عيها فستقوض الثقة في نزاهتهم واستقامة اخلاقهم، وهكذا يعرقلون نفسهم. وكثيرا ماينجح في ان يجلب عليهم ، عن طريق اخوتهم ، احزانا قلبية عظيمة بحيث يتدخل الله في رحمته ليعطي راحة لخدامه المضطهدين . وعندما تطةى يدا خادم الله المحتضر على صدره العديم الحياة ، ويصمت صوت الانذار والتشجيع حينئذ يستيقظ المتجرو القولب ليروا ويقدرو البكرات التي طرحوها بعيدا عنهم . فدق يكون موت خدما الله أولئك متمما لما عجزت حياتهم عن تحقيقه. AR 377.1