الاباء والانبياء
الفصل الخامس والستون—شهامة داود وصفحه
بعدما ارتكب شاول جريمته الشنيعة إذ قتل كهنة الرب ( نجا ولد واحد لأخيمالك بن أخيطوب اسمه أبياثار وهرب إلى داود . وأخبر أبياثار داود بأن شاول قد قتل كهنة الرب . فقال داود لأبياثار : علمت في ذلك اليوم الذي فيه كان دواغ الأدومي هناك ، أنه يخبر شاول . أنا سببت لجميع أنفس بيت أبيك . أقم معي . لا تخف ، لأن الذي يطلب نفسي يطلب نفسك ، ولكنك عندي محفوظ ) (انظر 1 صموئيل 22 : 20 — 23 والأصحاحات 23 : 27) . AA 595.1
وإذ كان الملك لم يزل جادا في مطارد ة داود فإن هذا الأخير لم يكن يجد موضع راحة أو أمان . وفي قعيلة تمكنت فرقته الباسلة أن تمنع الفلسطينيين من احتلالها ، ومع ذلك فلم يكن هو ولا رجاله في أمان حتى بين الشعب الذي قــــد أنقذوه . فارتحلوا من قعلية وأتوا إلى برية زيف . AA 595.2
وفي هذا الوقث حين لم يكن داود يرى كثيرا من أسباب البهجة والفرح ، فرح فرحا عظيما حين أتى إليه يوناثان في زيارة غير منتظرة إذ كان قــــد عرف مكان مخبأه . وقــد كانت اللحظات التي قضاها ذانك الصديقان معا لحظاث ثمينة حقا ، حيث أخبر كل منهما صديقه باختباراته المختلفة ، ثم شدد يوناثان قلب داود قـائــلاً له : ( لا تخف لأن يد شاول أبي لا تجدك ، وأنت تملك على إسرائيل ، وأنا أكون لك ثانياً . وشاول أبي أيضاً يعلم ذلك . فقطعا كلاهما عهدا أمام الرب . وأقام داود في الغاب ، وأما يوناثان فمضى إلى بيته ) . AA 595.3
بعد زيارة يوناثان جعل داود يعزي نفسه ويشجعها بتسابيح الحمد . فكان يضرب على العود وهو يترنم قـائــلاً : ( على الرب توكلت . كيف تقولون لنفسي : اهربوا إلى جبالكم كعصفور ؟ لأنه هوذا الأشرار يمدون القوس . فوقوا السهم في الوتر ليرموا في الدجى مستقيمي القلوب . إذا انقلبت الأعمدة ، فالصديق ماذا يفعل ؟ الرب في هيكل قدسه . الرب في السماء كرسيه . عيناه تنظران . أجفانه تمتحن بني آدم . الرب يمتحن الصديق ، أما الشرير ومحب الظلم فتبغضه نفسه ) (مزامير 11 : 1 — 5) . AA 595.4
أما سكان زيف الذين انتقل داود من قعيلة إلى أثقليمهم الوعرة ، فقد أرسلوا إلى شاول في جبعة يقولون له إنهم يعرفون مخبأ داود ، وأنهم مستعدون لإرشاد الملك إلى حيث هو مختبئ . وإذ أنذر داود بنوايا أولـئــك الناس انتقل من هناك ليلجأ إلى الجبال الواثقة بين معون والبحر الميت . AA 596.1
ومرة أخرى جاء إلى شاول من يقولون له : ( هوذا داود في برية عين جدي . فأخذ شاول ثلاثة آلاف رجل منتخبين من جميع إسرائيل وذهب يطلب داود ورجاله على صخور الوعول ) (1 صموئيل 23 : 1 ، 2) لم يكن مع داود غير ست مئة رجل ، بينما تقدم شاول ضده بجيش مؤلف من ثلاثة آلاف رجل . وإذ كان ابن يسى ورجاله مختبئين فى مغارة بعيدة كانوا ينتظرون إرشادا من الـلــه ليعرفوا ماذا يفعلون . وإذ كان شاول يتقدم صاعدا فوق الجبال مال وحده ودخل إلى نــفـــس الكهف الذي كان داود ورجاله مختبئين فيه . وحين رأى رجال داود ذلك ألحوا على قائدهم أن يقتل شاول . لقد فسر أولـئــك الرجال حقيقة كون شاول قــــد دفع ليدهم على أنها برهان أكيد على أن الـلــه قــــد أسلم إلى أيديهم ذلك العدو ليهلكوه . وقــد جرب داود لأن يعتقد الفكرة نفسها ، إلا أن ضميره همس فى أذنه قـائــلاً له : ( لا تمد يدك إلى مسيح الرب ) . AA 596.2
لم يكن رجال داود يشاءون أن يتركوا شاول في سلام . فذكروا قائدهم بكلام الـلــه القائل : ( هأنذا أدفع عدوك ليدك فتفعل به ما يحسن في عينيك . فقام داود وقطع طرف جبة شاول سراً ) ولكن بعد ذلك ضربه قلبه ، لأنه شوه جبة الملك . AA 596.3
قام شاول وخرج من الكهف ليواصل بحثه عن داود ، وإذا بصوت يقع على مسمعه المرتعب قـائــلاً : ( يا سيدي الملك ) فلما التفت ليرى من المتكلم رأى ابن يسى ، الرجل الذي ظل تلك الحقبة الطويلة مشتاقا إلى أن يسقط في يده ليقتله . وقــد خر داود وسجد للملك معترفا بأنه سيده . ثم خاطب شاول قـائــلاً ( لماذا تسمع كلام الناس القائلين : هوذا داود يطلب أذيتك ؟ هوذا قد رأت عيناك اليوم كيف دفعك الرب اليوم ليدي في الكهف ، وقيل لي أن أقتلك ، ولكنني أشفقت عليك وقلت : لا أمد يدي إلى سيدي ، لأنه مسيح الرب هو . فانظر يا أبي ، أنظر أيضاً طرف جبتك بيدي . فمن قطعي طرف جبتك وعدم قتلي إياك اعلم وانظر أنه ليس في يدي شر ولا جرم ، ولم أخطئ إليك ، وأنت تصيد نفسي لتأخذها ) . AA 596.4
وعندما سمع شارل كلام داود أحس بحقارته ولم يسقه إلا الاعتراف بصدق ذلك الكلام ، فثارت مشاعره بشدة عندما تأكد كيف أنه كان في قبضة يد ذاك الذي خرج هو يطلب نفسه . لقد وقف داود أمامه شاعرا ببراءته وطهارة مسلكه ، فصاح شاول يقول بتأثر ( أهذا صوتك يا ابني داود ؟ ورفع شاول صوته وبكى . ثم قال لداود : أنت أبر مني ، لأنك جازيتني خيراً وأنا جازيتك شراً ... فإذا وجد رجل عدوه ، فهل يطلقه في طريق خير ؟ فالرب يجازيك خيراً عما فعلته لي اليوم هذا . والآن فإني علمت أنك تكون ملكاً وتثبت بيدك مملكة إسرائيل ) وقــد قطع داود عهدا مع شاول أنه حين يصير داود ملكا سيحسن إلى بيت شاول ولا يقطع اسمه من بعده . AA 597.1
وإذ كان داود يعرف ما قــــد اختبر من تصرفات شاول الماضية لم يستطيع أن يثق بوعود الملك وتأكيداته ، ولم يرج أن حالة توبة الملك وندامته ستدوم طويلا . ولذلك عندما عاد شاول إلى بيته بقي داود متحصنا في الجبال . AA 597.2
إن العداوة التي يضمرها لعبيد الـلــه أولـئــك الذين أسلموا أنفسهم لسلطان الشيطان ، قــــد تتبدل أحيانا إلى مصالحة ورضى ، إلا أن التبدل لا يكون مستمرا دائما ، إذ بعدما يشغل الأشرار أنفسهم في الإساءة إلى عبيد الرب بالفعل واللسان ، فإن الاعتقاد أنهم كانوا مخطئين يتعمق ويتأصل في نفوسهم أحيانا . إن روح الـلــه يعمل فيهم فتنسحق قلوبهم أمام الرب وأمام أولـئــك الذين حاولوا إهلاكهم ، وقــد يغيرون مسلكهم حيالهم . ولكنهم إذ يعودون ويفتحون الباب لمقترحات الشرير فإن شكوكهم الماضية تنتعش وعداوتهم القديمة تستيقظ فيعودون إلى اعتداءاتهم السابقة التي كانوا قــــد تابوا وتخلوا عنها إلى حين . ثم يعودون إلى ذم أولـئــك الذين كانوا قــــد اعترفوا وتذللوا أمامهم ، وإلى اتهامهم وإدانتهم بأقسى الألفاظ . والشيطان يستطيع أن يستخدم أولـئــك الناس بعدما ساروا في تلك الطريق بقوة أعظم مما فعل قبلا لأنهم قــــد أخطاوا ضد نور أعظم . AA 597.3
( ومات صموئيل ، فاجتمع جميع إسرائيل وندبوه ودفنوه في بيته في الرامة ) لقد اعتبرت الأمة الإسرائيلية موت صموئيل فسارة لا تعوض . إن نبيا صالحا وعظيما وقاضيا شهيرا قد مات فكان حزن الشعب عليه عميقا وشديدا . لقد سار صموئيل أمام إسرائيل باستقامة قلب منذ فجر شبابه . ومع أن شاول كان معترفا به كملك ، إلا أن تـأثـيــر صموئيل كان أقوى من تـأثـيــره لأن حياته كانت حياة الأمانة والطاعة والتكرس . والكتاب يقول أنه قضى لإسرائيل كل أيام حياته . AA 597.4
وعندما بدأ الشعب يقارنون بين حياة شاول وحياة صموئيل رأوا هول غلطتهم التي ارتكبوها حين طالبوا أن يكون لهم ملك حتى يكونوا مثل الشعوب المجاورة لهم . وكثيرون منهم نظروا بخوف وجزع إلى حالة المجتمع الذي قد تفشت فيه خميرة الإلحاد والشر بسرعة . إن مثال ملكهم الشرير قد انتشر في كل مكان فحق لبني إسرائيل أن ينوحوا لأن صموئيل نبي الرب قد مات . AA 598.1
لقد خسرت الأمة مؤمس مدارسهم المقدسة (مدارس الأنبياء) ورئيسها ، ولكن هذه لم تكن كل الخسارة ، بل خسروا ذاك الذي اعتاد جميع الشعب أن يلجأوا إليه بمتاعبهم ومشاكلهم - خسروا ذاك الذي كان دائم الاتصال بالـلــه يشفع فيهم لتقضى مصالحهم . إن شفاعة صموئيل فيهم جعلتهم يحسون بالطمأنينة لأن ( طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها ) (يعقوب 5 : 16) لقد أحس الشعب الآن أن الـلــه بدأ يتخلى عنهم . فالملك لم يكن أكثر من رجل مجنون . كما أن العدالة انتهكت ، واستحال النظام إلى فوضى وارتباك . AA 598.2
فحين خربت المنازعات الداخلية الأمة ، وحين كان الشعب في أشـد الحاجة إلى النصائح الهادئة التي كان يسديها إليهم صموئيل الرجل الخائف الـلــه ، أعطى الـلــه خادمه الشيخ راحته . وما كان أمر الخواطر التي خطرت للشعب وهم ينظرون إلى مكان راحته الهادئ ويذكرون جهالتهم إذ رفضوا أن يكون قاضيهم ، لأنه كانت له صلة وثيقة بالسماء حتى لكأنه يربط إسرائيل كلهم بعرش الـلــه . إن صموئيل هو الذي علمهم أن يحبوا الـلــه ويطيعوه ، أما وقد مات فقد أحس الشعب أنهم قد تركوا تحت رحمة ملك متحد بالشيطان يحاول أن يفصل بين الشعب وبين الـلــه والسماء . AA 598.3
لم يستطع داود أن يحضر دفن صموئيل ، ومع ذلك فقد ناح عليه بحزن وحنان كما ينوح الابن الأمين على أبيه المحب العطوف . عرف أن موت صموئيل قد أزال حاجزا آخر من الحواجز التي كانت تمنع شارل من إتيان حماقته ، فأحس بأنه صار أكثر تعرضا للخطر مما كان وصموئيل على قيد الحياة . وإذ كان بنو إسرائيل مشغولين في النوح على موت صموئيل اغتنم داود هذه الفرصة في البحث عن مكان أكثر أمنا فهرب إلى برية فاران . وفي ذلك المكان كتب داود المزمورين المئة والعشرين والمئة والحادي والعشرين . وفي تلك القفار الموحشة بعدما تحقق من أن النبي قــــد مات وأن الملك باق على عداوته له تغنى بهذه الأغنية قـائــلاً : ( معونتي من عند الرب ، صانع السماوات والأرض . لا يدع رجلط تزل . لا ينعس حافظك . إنه لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل ... الرب يحفظك من كل شر . يحفظ نفسك . الرب يحفظ خروجك وحولك من الآن وإلى الدهر ) (مزمور 121 : 2 — 8) AA 598.4
كان داود ورجاله ، في أثناء وجودهم في برية فاران ، يحافظون على أغنام ومواشي أحد الأثرياء المسمى فابال من غارات قطاع الطرق ، الذي كانت له أمكلاك واسعة في ذلك الإقليم ، كان فابال من نسل كالب ولكنه كان فظا أحمق وبخيلا . AA 599.1
كان الوقث وقث جز الغنم ، وهو موسم الكرم وحسن الضيافة ، وقــد كان داود ورجاله في أشد الحاجة إلى المؤونة والطعام . وطبقا لعادات تلك الأيام أرسل ابن يسى عشرة غلمان إلى فابال وأوصاهم أن يحيوه باسم سيدهم قـائــلاً : ( قولوا هكذا : حييت وأنت سالم ، وبيتك سالم ، وكل مالك سالم . والآن قد سمعت أن عندك جزارين . حين كان رعاتك معنا ، لم نؤذهم ولم يفقد لهم شيء كل الأيام التي كانوا فيها في الكرمل (1) . اسأل غلمانك فيخبروك . فليجد الغلمان نعمة في عينيك لأننا قد جئنا في يوم طيب ، فأعط ما وجدته يدك لعبيدك ولابنك داود ) . AA 599.2
كان داود ورجاله سورا منيعا لحراسة رعاة فابال وقطعانه ، والآن فقد طلب من هذا الرجل الواسع الثراء أن يقدم من فيض بركات الـلــه عليه بعض الإسعاف لسد حاجات أولـئــك الذين قدموا إليه تلك الخدمات الثمينة . لقد كان بإمكان داود ورجاله أن يأخذوا بعضا من غنم ذلك الرجل وبقره ، ولكنهم لم يفعلوا بل تصرفوا بأمانة ، ومع ذلك فقد ضاعت شفقتهم ومحبتهم التي أظهرها لنابال ، ودل جواب فابال الذي أجاب به عن طلب داود ، على أخلاقه إذ قـــال : ( من هو داود . ومن هو ابن يسى ؟ قد كثر اليوم العبيد الذين يفحصون كل واحد من أمام سيده . أآخذ خبزي ومائي وذبيحي الذي ذبحت لجازّي AA 599.3
(1) — لك يكن ذلك المكان جبل الكرمل بل مكانا في أرض يهوذا بالفرب من مدينة معون الجبلية . وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم ؟ ) . AA 599.4
فلما عاد الغلمان فارغي الوفاض وأخبروا داود بكل شيء اشتعل غضبه وأمر رجاله أن يتسلحوا ويخرجوا للحرب لأنه عزم على تأديب ذلك الرجل الذي أنكر عليه حقوقه وأضاف إلى الأذى الأمانة . ولكن هذه الحركة الاندفاعية وهذا الغضب كانا خليقين بشاول لا بداود . وإنما كان على ابن يسى أن يتعلم أيضا دروس الصبر في مدرسة التجربة والألم . AA 600.1
فأسرع واحد من عبيد نابال إلى أبيجايل امرأة نابال بعد صرف غلمان داود وقص عليها كل ما جرى فقال : ( هوذا داود أرسل رسلا من البرية ليباركوا سيدنا فثار عليهم . والرجال محسنون إلينا جداً ، فلم نؤذ ولا فقد منا شيء كل أيام ترددنا معهم ونحن في الحقل . كانوا سوراً لنا ليلاً ونهارا كل الأيام التي كنا فيها معهم نرعى الغنم . والآن اعلمي وانظري ماذا تعملين ، لأن الشر قد أعد على سيدنا وعلى بيته ) . AA 600.2
وبدون أن تستشير أبيجايل رجلها أو تخبره بما انتوت أن تفعله أعدت أطعمة كثيرة ووضعتها على الحمير وأرسلتها بيد عبيدها ، وخرجت بنفسها لملاقاة داود ورجاله فالتقتهم في سترة الجبل ، ( ولما رأت أبيجايل داود أسرعت ونزلت عن الحمار ، وسقطت أمام داود على وجهها وسجدت على الأرض ، وسقطت على رجليه وقالت : علي أنا يا سيدي هذا الذنب ، ودع أمتك تتكلم في أذنيك ) وقــد خاطبت أبيجايل داود بكل احترام كما لو كانت تخاطب ملكا متوجا . إن نابال صاح يقول في ازدراء : ( من هو داود ؟ ) أما أبيجايل فخاطبته بقولها : ( سيدي ) . وبكلامها الرقيق حاولت أن تهدئ من اهتياج عواطفه وتوسلت إليه لأجل زوجها ولم تكن تتكلم بمباهاة أو كبرياء ، ولكن إذ كانت ممتلئة من حكمة الـلــه ومحبته أعلنت عن شدة محبتها لأهل بيتها وأوضحت لداود أن قسوة رجلها على غلمانه وعليه لم يكن المقصود منها أن تكون إهانة متعمدة ضده شخصيا بل كانت مجرد انفجار طبيعة رجل أناني تعس . AA 600.3
( والآن يا سيدي ، حي هو الرب ، وحية هي نفسك ، إن الرب قد منعك عن إتيان الدماء وانتقام يدك لنفسك . الآن فليكن كنابال أعداؤك والذين يطلبون الشر لسيدي ) إن أبيجايل لم تنسب الفخر لنفسها في محاجتها مع داود لمنعه من إتمام غرضه المتسرع ، بل أعطت المجد والشكر لله . وبعد ذلك قدمت أطعمتها الشهية كذبيحة سلامة لرجال داود ، ومع ذلك فقد ظلت تتوسل كما لو كانت هي نفسها التي أثارت سخط رئيسهم . AA 600.4
فقالت : ( واصفح عن ذنب أمتك لأن الرب يصنع لسيدي بيتا أمينا ، لأن سيدي يحارب حروب الرب ، ولم يوجد فيك شر كل أيامك ) لقد عرضت أبيجايل ضمنا المسلك الذي يجب على داود أن يسلكه . عليه أن يحارب حروب الرب ، وألا ينتقم لنفسه عن ظلم وقع عليه ولو اضطهد كخائن . ثم استأنفت كلامها قائلة : ( وقد قام رجل ليطاردك ويطلب نفسك ، ولكن نفس سيدي لتكن محزومة في حزمة الحياة مع الرب إلهك . وأما نفس أعدائك فليرم بها كما من وسط كفة المقلاع . ويكون عندما يصنع الرب لسيدي حسب كل ما تكلم له من الخير من أجلك ، ويقيمك رئيساً على إسرائيل ، أنه لا تكون لك هذه مصدمة ومعثرة قلب لسيدي ، أنك قد سفكت دماُ عفراً ، أو أن سيدي قد انتقم لنفسه . وإذا أحسن الرب إلى سيدي فاذكر أمتك ) . AA 601.1
إن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر إلا من إنسان أعطيت له الحكمة التي من فوق . فاح شذا تقوى أبيجايل كما من زهرة عطوة ، فاح ذلك العبير منها عفوا ودون أن تشعر ، من وجهها وكلامها وتصرفاتها . لقد كان روح ابن الـلــه ساكنا في داخلها ، فكان كلامها مملحا بالنعمة ومفعما رفقا وسلاما ، فأحدث تـأثـيــرا سماويا ، أعطى لداود بواعث أفضل . وقــد اعتراه الرعب وهو ينكر في النتائج التي كان يمكن أن تحدث لو تم قصده الطائش ، ( طوبى لصاتعي السلام ، لأنهم أبناء الله يدعون ) (متى ليكثر : 9) ليكثرن الـلــه من أمثال هذه المرأة الإسرائيلية اللواتي يهدئن العواطف الثائرة ويخمدن البواعث الطائشة ويقمعن شرورا عظيمة بكلامهن الصادر عن الحكمة المتزنة الهادئة . AA 601.2
إن الحياة المسيحية المكرسة تشرق دائما بنور العزاء والسلام . ومن صفاتها الطهارة واللباقة والبساطة والنفع . إنها مضبوطة بقوة تلك المحبة غير الأنانية التي تقدس النفوذ ، وهي ممتلئة بالمسيح وتحمل آثار النور أينما يكون الشخص الذي أحرزها . لقد كانت أبيجايل موبخة رقيقة ومشيرة حكيمة ، إذ خمد غضب داود بفضل قوة تـأثـيــرها وحججها ، كما اقتنــع بأنه كان سائرا في طريق خاطئ غير حكيم وأنه فقد السلطان على روحه . AA 601.3
قبل داود التوبيخ بقلب متواضع ، وكان هذا مصداقا لما قـــاله : ( ليضربني الصديق فرحمه ، وليوبخني فزيت للرأس ) (مزمور 141 : 5) وقــد قــــدم التشكرات والبركات لأنها قدمت إليه تلك النصائح الصالحة السديدة . إن كثيرين من الناس حين يو بخون يظنون أنه مما يستوجب الثناء كونهم يقبلون التوبيخ دون أن يتضجروا أو يثوروا . ولكن ما أقل أولئك الذين حين ي بخون يقبلون التوبيخ بالشكر القلبي ويباركون أولئك الذين حاولوا إبعادهم عن طريق شرير . AA 601.4
عندما عادت أبيجايل إلى بيتها وجدت نابال وضيوفه يتمتعون بوليمة عظيمة ولكنهم حولوها إلى وليمة سكر وعربدة . ولم تخبر رجلها بما دار بينها وبين داود إلا في اليوم التالي . كان نابال نذلا وجبانا وعندما أدرك أن حماقته أدنته من الموت المفاجئ بدا كأنه قد أصيب بالفالج ، فلخوفه من أن داود لا يزال مصرا على الانتقام منه امتلأ قلبه رعبا وانحدر إلى حالة من عدم الشعور التي لا يرجى البرء منها . ثم مات بعد عشرة أيام . إن الحياة التي قد منحه الـلــه إياها لم تكن سوى لعنة على العالم . ففي غمرة فرحه ومرحه قال له الـلــه ما قاله للغني الغبي المذكور في المثل : ( هذه الليلة تطلب نفسك منك ) (لوقا 12 : 20) . AA 602.1
وبعد ذلك تزوج داود أبيجايل . مع أنه كان زوجا لامرأة واحدة ، ولكن عادات الأمم المجاورة له أفسدت حكمه على الأمـــور ، وأثرت في أعماله . حتى الناس الصالحون العظام أخطاوا بتشبههم بالعالم في أعمالهم . إن النتيجة المرة للتزوج بزوجات كثيرات تألم منها داود أقــــد الألم مدى حياته . AA 602.2
بعد موت صموئيل ترك داود عائشا في سلام أشهر قليلة . ومرة أخرى اعتكف في مخبئه في برية زيف . ولكن أولئك الناس كانوا أعداء لداود . فإذ كانوا يؤملون أن يظفروا برضى الملك أخبروه عن المخبأ الذي لجأ إليه داود . فأثار هذا الخبر شيطان الغضب الذي كان هاجعا في قلب شاول . ومرة ثانية استدعى رجال حربه وخرج في طليعتهم لمطاردة داود . ولكن بعض الجوا سيس من أصدقاء داود أخبروه بأن شاول قد عاد لمطاردته فسار داود مع جماعة قليلة من رجاله لاستكشاف موقع العدو ، وكان الوقت ليلا فساروا في هدوء حتى أتوا إلى محلة شاول فرأوا أمامهم خيام الملك وأتباعه . لم يشعر بهم أحد لأن المحلة كلها كانت غارقة في نوم عميق . فطلب داود من أصدقائه أن يرافقوه إلى وسط المكان الذي عسكر فيه أعداؤه . وإجابة عن سؤاله القائل : ( من ينزل معي إلى شاول إلى المحلة ؟ ) أجابه أبيشاي على الفور قائـلاً : ( أنا أنزل معك ) . AA 602.3
إذ كان داود ورفيقه يسيران مستترين في ظل الجبال دخلا معسكر الأعداء . وبينما كانا يريدان التحقق من العدد المضبوط لجنود الأعداء أقبلا على شاول نائما ورمحه مركوز في الأرض وعند رأسه كوز ماء ، وكان أبنير رئيس جيشه مضطجعا إلى جانبه وكل الجنود كانوا نياما حولهما . فأشرع أبيشاي رمحه وقـــال لداود : ( قد حبس الله اليوم عدوك في يدك فدعني الآن أضربه بالرمح إلى الأرض دفعة واحدة ولا اثني عليه ) وكان ينتظر الإذن من داود ، ولكن داود همس في أذنه يقول : ( لا تهلكه ، فمن الذي يمد يده إلى مسيح الرب ويتبرأ ؟ ... حي هو الرب ، إن الرب سوف يضربه ، أو يأتي يومه فيموت ، أو ينزل إلى الحرب ويهلك . حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب ! والآن فخذ الرمح الذي عند رأسه وكوز الماء وهلم . فأخذ داود الرمح وكوز الماء من عند رأس شاول وذهبا ، ولم ير ولا علم ولا انتبه أحد لأنهم جميعا كانوا نياما ، لأن سبات الرب وقع عليهم ) . ما أعظم السهولة التي يستطيع الرب بها أن يضعف أقوى الأقوياء ويبطل حكمة أحكم الحكماء ويحبط مهارة وذكاء أشـد الناس حذرا وأعظمهم تيقظا ! AA 603.1
ولما وصل داود إلى مكان أمين بعيدا عن محلة شاول وقف على قمة جبل وصاح بصوت عال مناديا الشعب وأبنير قـائــلاً : ( أما أنت رجل ؟ ومن مثلك في إسرائيل ؟ فلماذا لم تحرس سيدك الملك ؟ لأنه قد جاء واحد من الشعب لكي يهلك الملك سيدك . ليس حسناً هذا الأمر الذي عملت . حي هو الرب ، إنكم أبناؤ الموت أنتم ، لأنكم لم تحافظوا على سيدكم ، على مسيح الرب . فانظر الآن أين هو رمح الملك وكوز الماء الذي كان عند رأسه . وعرف شاول صوت داود فقال : أهذا هو صوتك يا ابني داود ؟ فقال داود : إنه صوتي يا سيدي الملك. ثم قال : لماذا سيدي يسعى وراء عبده ؟ لأني ماذا عملت وأي شر بيدي ؟ والآن فليسمه سيدي الملك كلام عبده ) ومرة أخرى اعترف الملك قائلاً : ) قد أخطأت . ارجع يا ابني داود لأني لا أسيء إليك بعد من أجل أن نفسي كانت كريمة في عينيك اليوم . هوذا قد حمقت وضللت كثيراً جداً . فأجاب داود وقال : وهوذا رمح الملك ، فليعبر واحد من الغلمان ويأخذه ) . ومع أن شاول قد وعد داود قائلاً : ( لا أسيء إليك بعد ذلك ) إلا أن داود لم يأمن على حياته ولم يضع نفسه تحت سلطان الملك . AA 603.2
إن هذه المرة ، الثانية التي فيها أكرم داود حياة مليكه قــــد أثرث في عقل شاول تـأثـيــرا عميقا AA 603.3
واستخرجت من فمه اعترافا ذليلا بخطئه . لقد أذهله وأخضعه مظهر ذلك الرفق وتلك الشفقة . وفيما كان شاول يفارق داود صاح قائـلاً : ( مبارك أنت يا ابني داود ، فإنك تفعل وتقدر ) ولكن ابن يسى لم يكن يأمل أن حالة الملك النفسية هذه ستدوم . AA 604.1
كان داود يائسا من المصالحة مع شاول ، وقد تراءى له أن لا بد من أن يسقط أخيرا فريسة لحقد الملك فعزم على أن يلجأ مرة أخرى إلى بلاد الفلسطينيين . فعبر هو والست مئة رجل الذين تحت قيادته إلى أخيش ملك جت . AA 604.2
ولكن هذه النتيجة التي قد وصل إليها داود من أن شاول لا بد من أن يقتله قد توصل إليها دون تلقي الإرشاد من الـلــه ، حتى عندما كان شاول يتآمر عليه طالبا إهلاكه كان الرب يعمل على ضمان الملك له . إن الـلــه ينفذ تدابيره بينما العين البشرية لا ترى فيها إلا غموضا وظلاما . إن الناس لا يستطيعون أن يفهموا طرق الـلــه ، وحينما ينظرون إلى ظواهر الأمـــور ، فإنهم يفسرون التجارب والاختبارات والامتحانات التي يسمح الرب بوقوعها عليهم على أنها ضدهم وأنها ستفضي إلى هلاكهم . هكذا نظر داود إلى الظواهر ولم يذكر مواعيد الـلــه ، كما شك في أنه سيعتلي العرش يوما ما . فالتجارب الطويلة أضعفت إيمانه وأنهكت صبره . AA 604.3
لم يرسل الرب داود ليحتمي عند الفلسطينيين الذين هم ألد أعداء إسرائيل ، لأن نــفـــس هذه الأمة كانت من ضمن شر أعدائه ما دامت في الوجود ، ومع ذلك هرب إليهم ليساعدوه في وقت الحاجة . وإذ لم يعد يثق بشاول وعبيده ألقى بنفسه في أحضان أعداء شعبه . كان داود قائدا شجاعا وبرهن على أنه محارب حكيم وناجح ، ولكنه كان يعمل ضد مصلحته حين ذهب إلى أرض الفلسطينيين . حيث قصد الـلــه أن يرفع داود رايته في أرض يهوذا . ولكن عدم إيمانه ساقه إلى ترك مركزه وواجبه دون أن يتلقى أمرا بذلك من الـلــه . AA 604.4
لقد أهان داود الـلــه بعدم إيمانه ، إذ كان الفلسطينيون يرهبون جانب داود أكثر مما كانوا يخافون من شاول وجيوشه ، وحينما وضع داود نفسه تحت حماية الفلسطينيين جعلهم يكتشفون ضعف شعبه . وهكذا شجع أولئك الأعداء القساة على إذلال إسرائيل .. لقد مسح داود ليقف مدافعا عن شعب الـلــه ، والـلــه لا يرضى أن عبيده يشجعون الناس الأشرار ، وذلك بكشفهم عن ضعفات شعبه أو بالتظاهر بعدم الاكتراث لخيرهم وسعادتهم . وفوق هذا اعتقد إخوته أنه ذهب إلى أولئك الوثنيين ليعبد أوثانهم . وبهذا العمل أعطى للناس فرصة لتحريف بواعثه ، وهذا جعل كثيرين يتعصبون ضده .. لقد عمل داود نــفـــس ما كان الشيطان يريده أن يعمل ، إذ بطلبه ملجأ لنفسه بين الفلسطينيين أدخل التباهي العظيم إلى أعداء الـلــه وشعبه . نعم إن داود لم يتخلى عن عبادة الـلــه ، ولا كف عن تكرس نفسه لعمله ، إلا أنه ضحى بثقته بالـلــه على مذبح سلامته الذاتية . وهكذا لطخ داود الخلق المستقيم الأمين الذي يريد الـلــه أن يعلى به خدامه ويظل ناصعا ونقيا . AA 604.5
استقبل ملك الفلسطينيين داود بكل ترحيب . وإن حرارة هذا الاستقبال تعزى إلى أمرين ، أولهما حقيقة كونه معجبا بداود ، وثانيهما حقيقة كونه أمرا مشبعا لغرور الملك في أن عبرانيا يأتيه طالبا حمايته . أحس داود بأنه يستطيع أن يأمن على نفسه من الخيانة وهو في مملكة أخيش . فأتى بأسرته وعياله ومقتنياته كما قــــد فعل رجاله كذلك . كان يبدو أنه قــــد أتى ليمكث في بلاد الفلسطينيين بصفة دائمة ، وهذا كان من دواعي سرور أخيش الذي وعد أن يحمي أولـئــك الإسرائيليين اللاجئين إلى أرضه . AA 605.1
وإذ طلب داود أن يعطى له ولرجاله مكان للسكنى في الأرياف بعيدا عن المدينة الملكية أعطاه الملك بكل تلطف مدينة صقلع ملكا . كان داود متيقنا من أن هناك خطرا عليه وعلى رجاله في أن يكونوا تحت تـأثـيــر الوثنيين ، ولكن وجودهم في مدينة منعزلة خاصة بهم يمكنهم من أن يعبدوا الـلــه بحرية أكثر مما لو بقوا في جت حيث تكون الطقوس الوثنية مبعث الشر والمضايقة لهم . AA 605.2
وإذ كان داود ساكنا في تلك المدينة المنعزلة شن حروبا على الجشوريين والجرزيين والعمالقة ، ولم يستبق أحدا حيا لئلا يأتي بأخباره إلى جت . ولما عاد من الحرب جعل أخيش يعتقد أنه كان يحارب إخوته وأمته أي شعب يهوذا . بهذا التصنع كان داود واسطة في تشـديد أيدي الفلسطينيين لأن الملك قـــال ( قد صار مكروهاً لدى شعبه إسرائيل ، فيكون لي عبدأ إلى الأبد ) . عرف داود أن إرادة الـلــه هي إبادة وإهلاك تلك القبائل الوثنية ، كما عرف أن الـلــه قــــد أقامه لإتمام ذلك الغرض ، إلا أنه لم يكن سائرا بموجب مشورة الـلــه عندما عمد إلى المخاتلة والخداع . AA 605.3
( وكان في تلك الأيام أن الفلسطينيين جمعوا جيوشهم لكي يحاربوا إسرائيل . فقال أخيش لداود : اعلم يقيناً أنك ستخرج معي في الجيش أنت ورجالك ) إن داود لم يكن ينوي أن يحارب ضد شعبه إلا أنه لم يكن يعرف في أي طريق يسير حتى تحدد له الظروف واجبه ، فأجاب الملك جوابا كله مراوغة إذ قال : ( لذلك أنت ستعلم ما يفعل عبدك ) فهم أخش هذا الكلام على أنه وعد من داود بالمساعدة في الحرب القادمة فتمهد لداود بأن يكرمه إكراما عظيما ويعطيه مركزا مرموقا في بلاط الفلسطينيين . AA 605.4
ولكن مع أن إيمان داود بمواعيد الـلــه قد تزعزع قليلا فقد ظل يذكر أن صموئيل قد مسحه ليكون ملكا على إسرائيل ، كما ذكر الانتصارات الباهرة التي قد أعطاه الـلــه إياها على أعدائه فيما مضى ، كذلك استعاد إلى الذاكرة رحمة الـلــه العظيمة التي ظهرت في حفظه من شاول لذلك صمم على ألا يخون الأمانة المقدسة المسلمة له . ومع أن ملك إسرائيل حاول قتله إلا أنه لن يضم قواته إلى أعداء شعبه . AA 606.1
* * * * *