الاباء والانبياء
الفصل الرابع والستون— داود المطارد
بعد قتل جليات أبقى شاول داود عنده ولم يسمح له بالعودة إلى بيت أبيه . وحدث ( أن نفس يوناثان تعلقت بنفس داود ، وأحبه يوناثان كنفسه ) (انظر 1 صموئيل 18 — 22) فقطع داود ويوناثان عهدا بأن يرتبطا معا كأخوين . ثم حدث أن ابن الملك ( خلع ... الجبة التي عليه وأعطاها لداود مع ثيابه وسيفه وقوسه ومنطقته ) كما وكلت إلى داود مسؤوليات جسام ، ومع ذلك ظل محتفظا بوداعته ، فظفر بحب الشعب وبيت الملك أيضأ . AA 584.1
( وكان داود يخرج إلى حيثما أرسله شاول . كان يفلح . فجعله شاول على رجال الحرب ) كان داود فطنا وأمينــاً ، كما تبين أن بركة الـلــه كانت عليه ، ومرافقة له . وبدا لشاول في بعض الأحيان أنه لا يصلح لحكم إسرائيــل ، بل أحس بأن المملكة يمكن أن تكون مصونة أكثر إن اشترك معه شخص له علاقة بالرب ، فرجا شاول أن يكون ارتباطه بداود حارسا يحميه . وبما أن الرب كان راضيا عن داود ، ودرأ عنه المخاطر ، فإن وجوده مع شاول يمكن أن يكون واقيا له حين يخرج معه للحرب. AA 584.2
إن عناية الـلــه هي التي ربطت بين داود وشاول ، لأن مركز داود في البلاط الملكي أعطاه معرفة وخبرة بالشؤون كافة استعدادا لمستقبله العظيم ، وهذا ما يساعده على أن يظفر بثقة الأمة . غير أن التقلبات والمظالم التي حاقت به بسبب عداوة شاول له قادته إلى الاعتماد على الـلــه ووضع كل ثقته به تعالى ، كما أن صداقة يوناثان ومحبته لداود كانت هي الأخرى من ترتيبات عناية الـلــه لأجل حفظ حياة ملك إسرائيــل العتيد . وفي كل هذه الأمـــور كان الـلــه يتمم مقاصده الصالحة لداود ولشعب إسرائيــل . AA 584.3
ومع ذلك فإن شاول لم يثبت على صداقته لداود طويلا ، إذ حينها كان شاول وداود عائدين من الحرب مع الفلسطينيين حدث ( أنا النساء خرجت من جميع مدن إسرائيل بالغناء والرقص للقاء شاول الملك بدفوف وبفرح وبمثلثات ) فغنت جماعة من النسوة قائلات : ( ضرب شاول ألوفه ) وإذا بجماعة أخرى تجيبهن قائلات : “وداود ربواته ( فدخل شيطان الغيرة إلى قلب الملك شاول ، الذي غضب لأن نساء إسرائيــل رفعن مقام داود في تلك الأغنية وجعلنه أسمى من مقامه . فبدلا من أن يكبت مشاعر الحسد هذه أظهر ضعفا في أخلاقه فصاح قائلا : ( أعطين داود ربوات وأما أنا فأعطيتني الألوف ؟ وبعد فقط تبقى له المملكة ) . AA 584.4
كان في أخـــلاق شاول نقص عظيم ، وهو أنه أحب مدح الناس له ، وكان لهــذه الخلة تـأثـيــر تحكم في أعماله وأفكاره ، كما طبع كل شيء بطابع الرغبة في المديح وتعظيم الذات . ومقياس الصواب والخطأ في نظره كان هو ذلك المقياس المنخفض مقياس الشهرة واستحسان الجماهر . إن ذلك الإنسان الذي يعش ليرضي الناس لا أمان له ، ذاك الذي لا يطلب أولا رضى الـلــه واستحسانه . لقد كان مطمح شاول أن يكون هو الأول في اعتبار الناس ، وعندما سمع أغنية المدح تلك رسخ في عقله اقتناع ثابت بأن داود سيستميل قلوب الشعب ويملك بدلا منه . AA 585.1
فتح شارل قلبه لروح الحسد الذي سمم حياته . وبالرغم من الدروس التي تلقاها من صموئيل النبي بأن الـلــه سيتمم ما يختاره ، وأن أحدا من الناس لا يستطيع أن يعرقل عمل الـلــه ، فقد برهن الملك على أنه ليست لديه أية معرفة عن تدبيرات الـلــه وقوته . جعل ملك إسرائيل إرادته تقاوم إرادة الـلــه السرمدي . إن شاول حين كان يملك على إسرائيل لم يتعلم أن يكون له سلطان على روحه ، فسمح لبواعثه ودوافعه أن تتسلط على أفكاره إلى أن تردى في هاوية السخط والغضب الثائر . وكانت تهاجمه نوبات الغضب حين كان يحاول قتل أي من يقاوم إرادته . وكان ينحدر من هذا الخبال إلى حالة أخرى هي حالة اليأس واحتقار النــفـــس ، فتمتلك نفسه روح تبكيت الضمير . AA 585.2
كان يحب أن يستمع إلى داود وهو يضرب على عوده ، وكان يبدو أن الروح الشرير يزايله ويذهب عنه إلى حين ، ولكن في أحد الأيام حين كان ذلك الشاب يخدم أمامه ويلمس بأنامله أوتار العود فتخرج أنغام ساحرة ، وصوته يصاحب أنغام العود وهو يسبح الـلــه ، إذا بالملك يصوب رمحه إلى ذلك الموسيقار فجأة محاولا أن يقضي على حياته . فحفظت حياة داود بتدخل الـلــه ، فهرب من غضب ذلك الملك المختبل العقل دون أن يمسه أذى . AA 585.3
وإذ زادت بغضة شاول لداود جعل يترقب الفرص بأكثر اهتمام لعله يقضي عليه ، ولكن لم تنجح أية خطة من خططه التي دبرها ضد مسيح الرب ، فأسلم شاول نفسه لسلطان ذلك الروح الرديء الذي تحكم فيه . أما داود فقد اتكل على ذاك الذي له المشورة القوية والقادر على أن يخلص . ( بدء الحكمو مخافة الرب ) (أمثال 9 : 10) وكان داود على الدوام يوجه صلاته إلى الـلــه حتى يستطيع أن يسلك أمامه في طريق كامل . AA 586.1
ولكي يتخلص الملك من وجود منافسه ( فأبعده شاول عنه وجعله له رئيس ألف ... وكان جميع إسرائيل ويهوذا يحبون داود ) وسرعان ما لمس الشعب كفاءة داود ، ورأوا أن كل عمل أسند إليه كان يعمله بحكمة ودراية ، كما كانت مشورات ذلك الشاب متصفة بالحكمة والفطنة وبرهنت على أن اتباعها يكفل السلامة ، بينما كان حكم شاول مما لا يعتمد عليه كما أن قراراته لم تكن حكيمة . AA 586.2
ومع أن شاول كان دائما يقظا يتحين الفرص لإهك ك داود ، غير أنه بات خائفا منه لأنه رأى أن الرب معه . إن صفات داود التي كانت بلا لوم أثارت غضب الملك ، فأحس أن نــفـــس حياة داود ووجوده كانا توبيخا صارما له إذ بالمقارنة تبرهن أن أخـــلاق داود أفضل من أخللاقه . إن حسد شاول هو الذي جلب عليه التعاسة ، وعرض للخطر حياة أحد رعاياه المتواضعين (داود) . ما أعظم ما أحدثت هذه الصفة من مساوئ في العالم ! إن نــفـــس العداوة التي أثارت قلب قايين ضد أخيه هابيل ، هي التي ملكت على قلب شاول ، لأن أعمال هابيل كانت بارة فأكرمه الـلــه ، أما أعماله هو فكانت شريرة فلم يمكن أن يباركه الرب . إن الحسد هو وليد الكبرياء ، وإذا أبقي عليه في القلب فسيقود إلى البغضاء وأخيرا سيفضي إلى الانتقام والقتل . وقد أظهر الشيطان خلقه الشرير إذ أثار سخط شاول ضد ذاك الذي لم يسئ إليه في شيء . AA 586.3
وقد راقب الملك داود مراقبة دقيقة ، مؤملا أن يأخذ عليه عملا من أعمال النزق أو الطيش حيث يمكن أن يصلح عذرا للملك به يجلب على داود الفضيحة والعار . وقد أحس أنه لن يستريح حتى يقضي على ذلك الشاب بالموت وفي نــفـــس الوقت تزكي الأمة ذلك الاعتداء الأليم ، فنصب فخا لرجلي داود إذ ألح عليه أن يواصل الحرب ضد الفلسطينين بأعظم همة وعزيمة ، ووعده ، في مقابل شجاعته ، بأن يزوجه من كبرى بنات البيت المالك . فأجاب داود عن هذا الاقتراح بوداعة قـائــلاً : ( من أنا ، وما هي حياتي وعشيرة أبي في إسرائيل حتى أكون صهر الملك ؟ ) ولكن الملك كان منافقا ، إذ زوج الأميرة من رجل آخر . AA 586.4
ثم أتاحت محبة ميكال ، صغرى البنات ، لداود ، فرصة أخرى للملك ليتآمر على حياة خصمه . وقــد عرض على داود أن يتزوج ميكال بشرط أن يقدم البرهان على أنه قــــد هزم أعداء الأمة الإسرائيلية وقتل عددا محددا منهم ، ( وكان شاول يتفكر أن يوقع داود بيد الفلسطينيين ) ولكن الـلــه صان حياة عبده فعاد داود من الحرب ظافرا ليصير صهرا للملك ( وميكال ابنة شارل أحبت داود ) وقــد رأى الملك الثائر الغضوب أن كل مؤامراته قــــد رفعت من شأن ذاك الذي كان يريد هو أن يهلكه ، ثم زاد يقينه بأن هذا هو الرجل الذي قال الرب عنه إنه خير منه ، والذي يجب أن يملك على عرش إسرائيــل من بعده . ظهر شاول على حقيقته حين أصدر أمره إلى يوناثان وإلى كل عبيده أن يقتلوا ذاك الذي كان هو يبغضه . AA 587.1
إلا أن يوناثان أعلن لداود ما قصد الملك أن يفعله به ، وطلب منه أن يختبئ ريثما يتوسل هو إلى أبيه حتى يبقي على حياة منقذ إسرائيــل ، ثم بسط أمام الملك ما قد فعله داود لصيانة كرامة الأمة بل حياتها ، كما أبان له هول الجريمة التي ستستقر على رأس من يقتل ذاك الذي استخدمه الـلــه في سحق قوة أعداء إسرائيــل . فتأثر ضمير شاول ولان قلبه ( وحلف شاول : حي هو الرب لا يقتل ) فأحضر داود إلى شاول وصار يخدم أمامه كما كان يفعل فيما مضى . AA 587.2
ومرة أخرى أعلنت الحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، فقاد داود الجيش ضد أعدائهم . وقد أعطى الـلــه العبرانيين نصرا عزيزا . فامتدح رجال الدولة حكمة داود وبطولته ، فأثار هذا كوامن بغضة شاول لداود . وبينما كان ذلك الشاب يضرب على العود أمام الملك ، وقد امتلأت جوانب القصر بالأنغام الشجية غلب شاول غضبه فصوب رمحه إلى داود محاولا أن يطعن ذلك الموسيقار حتى إلى الحائط . ولكن ملاك الرب أبعد تلك الطعنة المميتة فهرب داود إلى بيته ونجا ، فأرسل شاول جواسيس ليراقبوه حتى إذا خرج في الصباح فتكوا به . أخبرت ميكال داود بنوايا أبيها من نحوه ، وألحت عليه أن يهرب لحياته ، فأنزلته من الكوة ، وهكذا أعانته على أن ينجو بحياته . هرب داود إلى صموئيل في الرامة فرحب النبي بذلك الهارب غير خائف من غضب الملك . وكان بيت صموئيل مكانا أمينــاً بالمقارنة مع قصر الملك ، إذ في هذا المكان الكائن وسط التلال كان خادم الـلــه المكرم يواصل عمله ، ومعه جماعة من الرائين الذين كانوا يدرسون إرادة الـلــه بكل تدقيق . وبكل وقار كانوا يستمعون للتعاليم التي ينطق بها صموئيل . ما كان أثمن وأغلى الدروس التي تعلمها داود من معلم إسرائيل ! كان داود يعتقد أن الملك لن يأمر جيوشه بغزو هذا المكان المقدس ، ولكن ظلام عقل ذلك الملك المتهور لم يعد يرعى حرمة أي مكان مهما كان مقدسا . إن الصلة التي كانت بين داود وصموئيل أثارت حسد الملك ، خشيــة أن يعمل نفوذ ذاك الذي كان مكرما من كل إسرائيل كنبي الـلــه على مساعدة خصم شاول على ارتقاء العرش . فلما عرف شاول بمكان داود ، أرسل رجاله ليأتوا به إلى جبعة لكي ينفذ فيه مقاصده الإجرامية . AA 587.3
سار رسل الملك في طريقهم وقد صمموا على قتل داود ، ولكن من هو أعظم من شاول منعهم من ذلك . لقد التقاهم ملائكة غير منظورين كما حدث لبلعام حين كان ذاهبا ليلعن إسرائيل ، فبدأوا ينطقون بأقوال نبوية عما سيحدث في المستقبل وأعلنوا مجد الرب وجلاله . وهكذا سيطر الـلــه على غضب الإنسان فأظهر قدرته على إيقاف الشر عند حده ، بينما أحاط عبده بجمهور من الملائكة لحراسته . AA 588.1
وصلت الأخبار إلى مسامع الملك الذي كان يتحرق شوقا إلى أن يقع داود في قبضته ، ولكن بدلا من أن يحس بتوبيخ الـلــه زاد اشتعالا وأرسل رسلا آخرين ، ولكن حتى هؤلاء سيطر عليهم روح الـلــه واشتركوا مع الرسل الأولين فجعلوا يتنبأون . وثم أرسل رسلا مرة ثالثة ، ومن حين انضموا إلى الأنبياء ، حلت عليهم قوة الـلــه أيضا وصاروا يتنبأون ، حينئذ صمم شاول على الذهاب بنفسه لأن عداوته العنيفة لم يمكن ضبطها . فعزم على ألا ينتظر فرصة أخرى لإهلاك داود . وحالما يقع في متناول يده لا بد أن يذبحه بيده مهما تكن النتائج . AA 588.2
ولكن ملاكا من ملائكة الـلــه التقى الملك في طريقه وسيطر عليه ، وضبطه روح الـلــه بقوته ، فتقدم إلى الأمام وكان يصلي إلى الـلــه ، وقد تخللت تلك الصلوات تنبؤات وتسابيح مقدسة ، كما تنبأ عن مسيا الآتي كفادي العالم . وحين وصل إلى بيت النبي في الرامة خلع ثيابه الخارجية التي تكشف عن مقامه ، وبقي منطرحا أمام صموئيل وتلاميذه طول النهار والليل وهو تحت تـأثـيــر روح الـلــه . وقد أتى الشعب من أماكن بعيدة لمشاهدة هذا المنظر الغريب ، حتى ذاع خبر اختبار الملك هذا في كل مكان . وهكذا مرة أخرى قبل نهاية حكم شاول ذهب هذا القول مثك : ( أشاول أيضاً بين الأنبياء ؟ ) . AA 588.3
ومرة أخرى أحبطت نوايا ذلك الملك المضطهد . ومع أنه أكد لداود أنه لم يعد يضمر له شرا ، إلا أن ذلك الشاب كان ضعيف الثقة بصدق توبة الملك ، فاغتنم هذه الفرصة وهرب لئلا يتعكر مزاج الملك كما قــــد حدث من قبل . لقد كان قلبه جريحا في داخله فاشتاق إلى رؤية صديقه يوناثان مرة أخرى . وإذ كان واثقا من سلامة نواياه ذهب إلى ابن الملك يطلبه وقـــال له بكل تأثر : ( ماذا عملت ؟ وما هو إثمي ؟ وما هي خطيتي أمام أبيك حتى يطلب نفسي ؟ ) كان يوناثان يعتقد أن أباه عدل عما كان ينوي أن يفعله بداود وأنه لم يعد يطلب قتله ، فقال يوناثان : ( حاشا . لا تموت ! هوذا أبي لا يعمل أمراُ كبيرا ولا أمرا صغيرا إلا ويخبرني به . ولماذا يخفي عني أبي هذا الأمر ؟ ليس كذا ) فبعدما أظهر الرب قــــدرته بكيفية عظيمة لم يكن يوناثان يعتقد أن أباه سيلحق أي أذى بداود لأن ذلك يكون تمردا صريحا على الـلــه . ولكن داود لم يقتنع بذلك ، وبكل حرارة وغيرة أعلن ليوناثان قـائــلاً : ( حي هو الرب ، وحية هي نفسك ، إنه كخطوة بيني وبين الموت ) . AA 589.1
وعند الهلال احتفل شعب إسرائيــل بعيد مقدس . وهذا العيد وقع في اليوم التالي لمقابلة يوناثان لداود ، وكان ينتظر حضور ذينك الشابين إلى وليمة الملك ، ولكن داود كان يخشى الوجود مع الملك ، كما كان هنالك ترتيب أن يذهب لزيارة إخوته في بيت لحم . وبعد عودته كان عليه أن يختبئ في حقل قريب من بيت الوليمة فغاب عن الملك ثلاثة أيام وكان على يوناثان أن يلاحظ تـأثـيــر ذلك في شاول . فلو سأله أبوه عن مكان وجود ابن يسى كان على يوناثان أن يقول إنه ذهب إلى بيت لحم لحضور الذبيحة التي ستقدمها عائلة أبيه . فإذا لم يبد على الملك الغضب وإنما قـــال : ( حسنا ) فيمكن أن يطمثن داود - إلى الذهاب إلى بلاط الملك . أما إذا ثار واهتاج لغياب داود فلا بد من أن يهرب داود لحياته . AA 589.2
وفي أول أيام الوليمة لم يتكلم الملك شيئا عن غياب داود . ولكن لما خلا موضعه في الغد الثاني سأل الملك قـائــلاً : ( لماذا لم يأت ابن يسّى إلى الطعام لا أمس ولا اليوم ؟ فأجاب يوناثان شاول : إن داود طلب مني أن يذهب إلى بيت لحم ، وقال : أطلقني لأن عننا ذبيحة عشيرة في المدينة ، وقد أوصاني أخي بذلك . والآن إن وجدت نعمة في عينيك ف\عني أفلت وأرى إخوتي . لذلك لم يأت إلى مائدة الملك ) وعندما سمع شاول هذا الكلام أفلت زمام غضبه ، وأعلن أنه ما دام داود على قيد الحياة فإن يوناثان لن يستطيع أن يكون ملكا على إسرائيــل وأمر بأن يؤتى بداود حالا ليقتل . ومرة أخرى توسل يوناثان لأجل صديقه : ( لماذا يقتل ؟ ماذا عمل ؟ ) ولكن هذا التوسل زاد من شيطانية الملك في غضبه ، وصابى شاول الرمح الذي كان قــــد أعده ليقتل به داود ، نحو ابنه . AA 589.3
لقد ثار حزن ذلك الأمير وغضبه . وإذ خرج من الحضرة الملكية لم يعد ضيفا في الوليمة . لقد انحنت نفسه حزنا حين ذهب في الوقت المعين إلى البقعة التي كان سيعرف داود فيها نية الملك نحوه . وقــد وقع كل من ذينك الشابين على عنق الآخر وبكيا أمر البكاء . إن غضب الملك الشديد ألقى ظلاله السوداء على حياتهما ، فكان حزنهما شديدا جدا بحيث يصعب التعبير عنه . وقــد وقعت كلمات يوناثان الأخيرة في مسمع داود وهما يفترشان ليذهب كل في طريقه : ( اذهب بسلام لأننا كلينا قد حلفنا باسم الرب قائلين : الرب يكون بيني وبينك وبين نسلي ونسلك إلى الأبد ) . AA 590.1
ثم عاد ابن الملك إلى جبعة . أما داود فأسرح ليذهب إلى نوب ، وهي مدينة تبعد عن ذلك المكان أميالا قليلة ، وهي أيضا إحدى مدن سبط بنيامين . كما أن خيمة الاجتماع قــــد نقلت من شيلوه إلى هذا المكان ، حيث كان أخيمالك رئيس الكهنة يخدم فيها . لم يكن داود يعلم إلى أين يذهب ليختبئ إلا إلى خادم الـلــه . وقــد نظر الكاهن إلى داود باندهاش لأنه أتى وحده على ما بدا ، وبسرعة ، وكان يبدو على وجهه الحزن والانزعاج . فسأله عما أتى به إلى هناك ، بينما كان الخوف المستمر يساور هذا الشاب لئلا يعرف أحد مكانه . وفي أشد حالات كربه لجأ إلى الخداع ، فأخبر الكاهن بأن الملك أرسله في مهمة سرية تتطلب أعظم سرعة . وهنا أظهر ضعف إيمانه بالـلــه وكان من نتائج خطيته موت رئيس الكهنة . فلو أن داود أخبره بالحقيقة لكان الكاهن أخيمالك قــــد عرف أسلم طريق يسلكه ليحفظ حياته . إن الـلــه يطلب أن يمتاز شعبه على من سواهم بالصدق في القول ، حتى ولو كانوا مهددين بأعظم المخاطر . ثم سأله داود أن يعطيه خمس خبزات ، إلا أنه لم يكن لدى رجل الـلــه غير الخبز المقدس . ولكن داود أفلح في إزالة شكوك الكاهن فحصل على خبز يسد به جوعه . AA 590.2
إن خطرا جديدا كان يتهدد داود ، وذلك أن دواغ رئيــس رعاة شاول الذي قد اعتنق الدين اليهودي ، كان يتمم نذوره في موضع العبادة . فإذ رأى داود هذا الرجل عقد العزم على الإسراع في البحث عن مكان آخر يلجأ إليه . ولكي يحصل على سلاح يدافع به عن نفسه عند الضرورة ، طلب من أخيمالك أن يعطيه سيفا ، فقال له لا سيف عنده إلا سيف جليات الذي حفظ كأثر في المقدس فقال داود : ( لا يوجد مثله ، أعطني إياه ) وقد عادت إليه شجاعته حالما قبض على السيف الذي استعمله قبلا في قتل البطل الفلسطيني . AA 591.1
هرب داود إلى أخيش ملك جت لأنه أحس بأنه يجد أمنا وسط أعداء شعبه أكثر مما في مملكة شاول . ولكن عبيد أخيش قالوا له ، إن داود هو الذي قتل البطل الفلسطيني منذ سنين ، وإذا بذاك الذي طلب الاحتماء في أرض أعدائه يجد نفسه في خطر عظيم ، غير أنه بتظاهره بالجنون خدع أعداءه ، وهكذا دبر أمر نجاته . AA 591.2
إن أول غلطة ارتكبها داود كانت عدم تقته بالـلــه وهو في نوب ، أما الغلطة الثانية فكانت خداعه لأخيش . لقد ظهرت في داود صفات نبيلة ، وهذه الصفات جعلته ينال نعمة في عيون شعبه . ولكن لما هجمت عليه التجربة تزعزع إيمانه فظهر ضعف بشريته ، وكان يرى أن كل إنسان هو جاسوس وخائن . إن داود إذ كان في حالة اضطرار شديد رفع نظره إلى الـلــه بإيمان راسخ ، فانتصر على جبار الفلسطينيين . لقد آمن بالـلــه وصار متكلا على قدرته ، ولكن عندما كان مطاردا ومضطهدا كاد الارتباك والضيق يحجبان عن عينيه أباه السماوي . AA 591.3
ومع ذلك فإن هذا الاختبار علم داود الحكمة إذ جعله يدرك ضعفه وضرورة الاعتماد المستمر على الـلــه . ما أثمن وأغلى تـأثـيــر تعزيات روح الـلــه حين يأتي إلى النفوس الحزينة اليائسة مشجعا لخائري القلوب ومقويا للضعفاء المعيين ومانحا شجاعة وعونا لعبيد الرب المجربين ! ما أعظم إلهنا الذي يتعامل بكل دقة مع المخطئين ويظهر صبره ورقته ولطفه في القــــدة والضيق وحين يكتنفنا الحزن الشديد ! AA 591.4
إن كل فشل يلحق بشعب الـلــه هو ناجم عن افتقارهم للايمان ، فحين تكتنف الظلمة النــفـــس ، وحين نكون بحاجة إلى النور والإرشاد علينا أن نرفع أنظارنا إلى فوق إذ هنالك نور خلف الظلمات . وما كان يليق بداود أن يشك في الـلــه لحظة واحدة حيث كانت هنالك أسباب كان ينبغي له ، من أجلـــها ، أن يضع اتكاله على الـلــه . كان هو مسيح الرب . وفي وسط المخاطر كان ملائكة الـلــه يحرسونه ، وكان مزودا بشجاعة عظيمة أعانته على القيام بأعمال باهرة ومدهشة ، ولو أنه سما بأفكاره فوق مستوى مركزه الحرج ، وضيقه الشديد الذي حل به ، وفكر في قدرة الـلــه وجلاله ، لأحس بالســلام ، حتى ولو كان في وادي ظلال الموت ، ولأمكنه بكل ثقة أن يكرر الوعد الإلهي القائل : ( فإن الججال تزول ، والآكام تتزعزع ، أما إحساني فلا يزول عنك ، وعهد سلامي لا يتزعزع ، قال راحمك الرب ) (إشعياء 54 : 10) . AA 591.5
بحث داود بين جبال يهوذا عن ملجأ يلجأ إليه ليأمن من مطاردة شاول ، فهرب إلى مغارة عدلام ، وهي مكان يمكن لرجال قليليين أن يحتفظوا به ضد جيش عظيم . ( فلما سمع إخوته وجميع بيت أبيه نزلوا إليه إلى هناك ) إن عائلة داود لم تكن تحس بالطمأنينة إذ كانوا يعلمون أن شكوك شاول غير المعقولة يمكن أن توجه ضدهم في أي وقت بسبب صلتهم بداود ، وقــد علموا الآن - ما بدأ كل إسرائيــل يعلمونه - أن الـلــه قــــد اختار داود ليكون الملك العتيد لشعبه . ثم اقنتعوا بأنهم سيكونون في أمان أعظم وهم معه ، حتى مع كونه هاربا وفي مغارة موحشة ، مما يكونون وهم معرضون لجنون ذلك الملك الحسود . AA 592.1
وفي مغارة عدلام اجتمع شمل العائلة يظللها العطف والحب ، فاستطاع ابن يسى أن يغني أعذب الأغاني بصوته على أنغام العود حين قـــال : ( هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معاً ! ) (مزمور 133 : 1) لقد ذاق مرارة الشك من جانب إخوته ، ولكن الوفاق والانسجام الذي حل محل النزاع ملأ قلب ذلك الطريد فرحا . وفي هذه المناسبة كتب المزمور السابع والخمسين . AA 592.2
وقبل مرور وقت طويل انضم إلى جماعة داود قوم آخرون - ممن أرادوا النجاة من قسوة الملك وتعسفه ، كما كان هناك كثيرون ممن أضاعوا ثقتهم بملك إسرائيــل لأنهم رأوا أنه لم يعد ينقاد بروح الـلــه ( واجتمع إليه كل رجل متضايق ، وكل من كان عليه دين ، وكل رجل مر النفس ، فكان عليهم رئيسا . وكان معه نحو أربع مئة رجل ) هنا نجد داود يملك على مملكة صغيرة خاصة به يسودها الترتيب والنظام . ولكن مع أنه كان في ذلك الملجأ في الجبال لم يكن يحس بالطمأنينة ، إذ كانت تأتيه براهين مستمرة على أن الملك لم يعدل عن مقاصده الإجرامية . AA 592.3
وجد داود ملجأ لأبويه عند ملك موآب ، وحينئــذ أنذره أحد أنبياء الرب بوجود خطر يتهدده ، فهرب من ذلك المخبأ إلى وعر حارث . إن ذلك الاختبار الذي كان داود يمر فيه لم يكن عقيما أو غير لازم ، فلقد جعله الـلــه يمر في طور تدريب . ليؤمله لأن يكون قائدا حكيما وملكا عادلا رحيما . ومع جماعة الهاربين الذين رافقوه كان يتلقى إعدادا ليضطلع بعمل شاول الذي بسبب غضبه الإجرامي ونزقه الأعمى كان كل يوم يمر به يزيد من عدم لياقته للقيام به . إن من يبتعدون عن مشورة الـلــه لا يمكنهم الاحتفاظ بالهدوء والحكمة اللذين بواسطتهما يمكنهم أن يتصرفوا بالعدل والفطنة . لا جنون مخيف جدا ولا يرجى منه خير كاتباع الحكمة البشرية التي لا تسترشد بحكمة الـلــه . AA 593.1
كان شاول يعد العدة لاصطياد داود والقبض عليه وهو في مغارة عدلام ، فلما علم أن داود ترك ذلك المخبأ استشاط غضبا ، إذ كان هروب داود سرا غامضا في نظر شاول ، لم يمكنه تعليله إلا باعتقاده أن هناك خونة في المعسكر وأنهم أخبروا ابن يسى بمقاصد الملك . AA 593.2
أكد شارل لمشيريه بأن مؤامرة قد حيكت ضده ، وبواسطة الرشوة والهبات السخية والوظائف الفخرية طلب منهم أن يكشفوا له عمن صار صديقا لداود بين شعبه ، ولذا صار دواغ الأدومي واشيا . فهذا الرجل إذ كان مسوقا بروح الطموح والجشع ، وبكراهيته للكاهن الذي كان قد وبخه على خطاياه ، أخبر الملك بزيارة داود لأخيمالك ، فكان تمثيله للأمر مثيرا لغضب الملك ضد رجل الـلــه . إن كلمات ذلك اللسان المخترع المفاسد والمضطرم بنار جهنم أثار غضبا هائلا في نــفـــس شاول . وإذ أثاره الغضب إلى حد الجنون أعلن الملك أن كل أسرة الكاهن يجب أن تهلك . وقد نفذ ذلك القرار المرعب ، فلم يقتل أخيمالك وحده بل كل أفراد بيت أبيه - خمسة وثمانون رجك لابسي أفود كتان كل هؤلاء قتلهم دواغ بيده الآثمة وبأمر الملك. AA 593.3
( وضرب نوب مدينة الكهنة بحد السيف . الرجال والنساء والأطفال والرضعان والثيران والحمير والغنم ) لقد استطاع شاول أن يفعل ذلك وهو تحت تـأثـيــر الشيطان . إن الـلــه حين قال إن إثم العمالقة قد كمل وأمر شاول بإهلاكهم هلاكا شاملا ظن أنه أرحم من أن ينقذ حكم الـلــه ، وعفا عمن كان محكوما عليه بالهلاك . أما الآن فبدون أن يتلقى أمرا من الـلــه وهو تحت سيطرة الشيطان أمكنه أن يذبح كهنة الرب ويجلب الخراب على نوب وسكانها . إلى هذا الحد يبلغ فساد القلب البشري الذي يرفض إرشادات الـلــه . AA 593.4
إن ذلك العمل القاسي ملأ قلوب كل رجال إسرائيل رعبا ، وذلك الملك الذي قد اختاروه لأنفسهم هو الذي ارتكب ذلك الجرم الشنيع ، وقد عمل ما يعمله ملوك الأمم الأخرى التي لا تخاف الـلــه . لقد كان في حوزتهم التابوت ولكن الكهنة الذين كانوا يسألون بكلام الـلــه قتلوا بحد السيف . فما الذي سيحدث بعد هذا . AA 594.1
* * * * *