الاباء والانبياء
الفصل الثامن والخمسون—مدارس الأنبياء
إن الرب نفسه هو الذي وجه تعليم إسرائيل وتهذيبهم ، وهو لم يحصر اهتمامه في مصالحهم الدينية دون سواها ، بل إن كل ما كان يمس خيرهم العقلي والجسدي كان هو أيضا موضوع عناية الـلــه ، وجاء ضمن محيط الشريعة الإلهية . AA 533.1
كان الـلــه قد أمر العبرانيين أن يعلموا أولادهم مطالبيه ويطلعوهم على كل معاملات الـلــه لآبائهم ، فكان هذا واجبا خاصا التزم أن يقوم به كل أب وكل أم ولم يكن يسمح لهم بأن يوكلوه إلى أشخاص آخرين . فبدلا من أن ينطق الغرباء في آذان الأبناء بهذا الكلام كان ينبغي أن الآباء والأمهات المفعمة قلوبهم حبا لأولادهم يقدمون لهم هــذه التعاليم . وكانت أفكار الـلــه لتتصل بكل أعمال الحياة اليومية . فالعظائم التي أجراها الـلــه في تخليص شعبه ، والمواعيد الخاصة بالفادي المزمع أن يأتي كان ينبغي أن تسرد مرارا كثيرة في بيوت إسرائيل ، وكان استعمال الاستعارات والرموز من بين العوامل التي جعلت تلك الأقوال ترسخ في الأذهان . إن الحقائق العظيمة ، حقائق عناية الـلــه والحياة العتيدة انطبعت على عقول الصغار . وقد تربت تلك العقول على أن ترى الـلــه في مناظر الطبيعة كما في الكلمة الإلهية الموحى بها . فنجوم السماء والأشجار وزنابق الحقل والجبال الشاهقة وجداول المياه الجارية تحدثت كلها عن الخالق . ثم إن خدمة الذبائح المقدسة والعبادة في المقدس وأقوال الأنبياء كانت كلها إعلانات من الـلــه . AA 533.2
كذلك كان التدريب الذي تلقاه موسى في الكوخ المتواضع في أرض جاسان ، وما تلقاه صموئيل عن أمه الأمينة حنة ، وما تلقاه داود في بيته بين تلال بيت لحم ، وما تلقاه دانيال قبلما فصلت مشاهد السبي بينه وبين وطن آبائه . وكذلك أيضا كانت حياة المسيح الباكرة في الناصرة ، وكذلك كان التعليم الذي تلقاه الطفل تيموثاوس من جدته لوئيس وأمه أفنيكي (2 تيموثاوس 1 :5 ، 3 : 51) وهي تعاليم الكتاب المقدس . AA 533.3
وقد عمل تدبير آخر لأجل تعليم الشعب بإقامة مدارس الأنبياء . فإذا كان هنالك شاب يرغب في التعمق في مبادئ كلمة الـلــه وفي طلب الحكمة النازلة من فوق لكي يصير معلما في إسرائيل كانت هــذه المدارس تفتح له أبوابها . وقد أنشأ صموئيل مدارس الأنبياء لكي تكون سياجا واقيا يحفظ النــفـــس من الفساد المستشري ، ولكي تسد حاجة الشباب الأدبية والروحية وتعمل على ما فيه خيرهم وازدياد نجاح الأمة في مستقبلها ، إذ تزودها برجال مؤهلين لأن يعملوا كقادة ومشيرين في خوف الـلــه . ولتحقيق هــذه الغاية جمع صموئيل جماعات من الشباب الأنقياء الأذكياء والمفكرين محبي الدرس والاطلاع . وقد دعي هؤلاء بني الأنبياء . فإذ كانت لهم شركة مع الـلــه ، ودرسوا كلمته وأعماله ، أضيفت إلى مواهبهم الطبيعية الحكمة النازلة من فوق . ولم يكن معلموهم ملمين قفط بالحق ، ولكنهم كانوا قوما يتمتعون هم أنفسهم بشركة مع إلههم ، وقد تبلوا مواهب الروح القدس الخاصة ، وكانوا حائزين احترام الناس وثقتهم من ناحية العلم والتقوى . AA 534.1
وكانت في أيام صموئيل اثنتان من هــذه المدارس - إحداهما في الرامة موطن النبي ، والأخرى في قرية يعاريم حيث كان التابوت موجودا حينئذ . وبعد ذلك أنشئت مدارس من هذا النوع . AA 534.2
كان تلاميذ هذه المدارس يمولون أنفسهم بعملهم في حراثة الأرض أو في أي عمل آلي . وفي إسرائيل لم يكن أحد ينكر بأن هذا عمل غريب أو مهين . بل إن ترك الأولاد ليشبوا وهم يجهلون مزاولة الأعمال النافعة المجدية كان يعتبر جريمة ، فأمر الـلــه أن يتعلم كل صبي حرفة حتى ولو كان يتعلم ليدخل الخدمة المقدسة . إن كثيرين من معلمي الدين كانوا يعولون أنفسهم بالعمل اليدوى . وحتى في أيام الرسل لم يكن مما يقلل من كرامة بولس وأكيلا كونهما كانا يحصلان على رزقهما بعملهما في صنع الخيام . AA 534.3
كانت مواد الدراسة الرئيسية في هــذه المدارس شريعة الـلــه ، والتعليمات المعطاة لموسى ، والتاريخ المقدس والموسيقى المقدسة والشعر . وكانت طريقة التعليم تختلف كثيرا عما هو متبع في المدارس اللاهوتية في هــذه الأيام ، حيث يتخرج في مدارس اليوم كثيرون من التلاميذ وقد نقصت معرفتهم الحقيقية لله وللحقائق الدينية عما كانت عليه حينها دخلوها . ففي المدارس القديمة كانوا يجعلون غايتهم السامية العظمى من كل ما يدرسونه أن يعرفوا مشيئة الـلــه وواجب الإنسان نحوه تعالى . وفي كتب التاريخ المقدس كانوا يتتبعون آثار قدمي الرب . والحقائق العظمى التي أوضحتها الرموز كانت توضع نصب عيونهم ، وبالإيمان كانوا يدركون الغاية الرئيسية من كل ذلك النظام - حمل الـلــه الذي كان سيرفع خطية العالم . AA 534.4
وقد نشأ في قلوبهم روح التعبد والتكريس . فلم يكن أولئك التلاميذ يتعلمون وجوب الصلاة ولزومها فقط بل كانوا يتعلمون كيف يصلون وكيف يقتربون من خالقهم وكيف يتدربون على الإيمان به وكيف يدركون ويطيعون تعاليم روحه ، فاستخرجت الأذهان المقدسة من كنز الـلــه جددا وعتقاء ، وتجلى روح الـلــه في النبوة والتسابيح المقدسة . AA 535.1
كانت الموسيقى تتمم غرضا مقدسا لتسمو بالأفكار إلى ما هو طاهر وسام ونبيل ولتوقظ في النــفـــس روح التعبد والشكران لــلـــــه . ما أعظم الفرق بين العادة القديمة والأغراض التي تكرس لها الموسيقى اليوم ! وما أكثر من يستخدمون هــذه الموهبة في تعظيم أنفسهم بدلا من استخدامها في تمجيد الـلــه ! إن حب الموسيقى يقود جماعة المستهزئين إلى مشاركة أهل العالم في حفلات الطرب والسرور التي قد نهى الـلــه أولاده عن ارتيادها . وهكذا يحدث ، أن الشيء الذي يمكن أن يكون بركة عظيمة متى أحسن استخدامه ، يصير من أنجح الوسائل التي يحاول الشيطان بواسطتها أن ينسي العقل واجبه والتأمل فى الأمـــور الأبدية . AA 535.2
الموسيقى جزء من أجزاء عبادة الـلــه في المواطن البهية العليا . وعلينا نحن في أغانينا وتسبيحاتنا أن نجتهد على قدر إمكاننا أن نكون فى انسجام ووفاق مع أجواق السماويين . إن التدريب الصائب للصوت هو صورة هامة من صور التهذيب وينبغي ألا نهمله ، كما أن التسبيح ، كجزء من الخدمة الدينية ، هو عمل من أعمال العبادة كالصلاة . فيجب أن يشعر القلب بروح التسبيحة لكي يعطيها التعبير الصائب . AA 535.3
ما أبعد الفرق بين تلك المدارس التي كان يعلم فيها أنبياء الـلــه وبين معاهدنا التعليمية الحديثة ! وما أقل المدارس التي لا تتحكم فيها مبادئ العالم وعاداته ! هنالك نقص محزن في الضوابط السديدة والتدريب الحكيم . إن الجهل الملحوظ لكلمة الـلــه بين المدعوين مسيحيين أمر مفزع حقا ، فالأحاديث السطحية والعاطفية المجردة صارت تعتبر تعليما في الأخــلاق والدين . كما إن عدالة الـلــه ورحمته وجمال القداسة والجزاء الأكيد للعمل الصالح ، وشناعة الخطية وعواقبها المخيفة الأكيدة لا تطبع على أذهان الشباب . إن العشراء الأشرار يعلمون الشباب الأغرار طرق الجرائم والإسراف والخلاعة . AA 535.4
ألا توجد بعض الدروس التي يمكن أن يتعلمها معلمو هذه الأيام وينتفعوا بها من المدارس العبرية القديمة ؟ إن الـلــه الذي خلق الإنسان قد أعد كل ما يلزمه لتقوية جسمه وتنمية عقله وروحه . ولهذا فالنجاح في التهذيب يتوقف على الولاء الذي به ينقذ الناس تدبير الـلــه . AA 536.1
إن الغاية الحقيقية من التعليم هي إرجاع صورة الـلــه إلى النــفـــس . في البدء خلق الـلــه الإنسان على صورته ومنحه صفات نبيلة . كان عقله متزنا ، وكانت كل قوى شخصيته في انسجام تام . ومن السقوط وعواقبه أفسدت هذه الهبات . لقد شوهت الخطية وكادت تطمس صورة الـلــه في قلب الإنسان ، ولذا أعد تدبير الخلاص لإعادة هذه الصورة ، وأعطيت للإنسان حياة اختبار . إن الغاية العظمى من الحياة ، الغاية التي تشتمل على كل غاية أخرى ، هي العودة بالإنسان إلى حالة الكمال التي خلق عليها أولا . فعمل الآباء والمعلمين في تهذيب الشباب هو التعاون مع الـلــه في غايته ، وإذ يفعلون ذلك يكونون عاملين مع الـلــه (1 كورنثوس 3 : 9) . AA 536.2
إن الإمكانيات المختلفة التي يملكها الناس - العقل والجسد والروح - معطاة لهم من الـلــه لاستخدامها بحيث يصلون بواسطتها إلى أسمى درجات العظمة والسمو . ولكن هذا لا يمكن أن يكون تهذيبا أنانيا مقصورا على فئة خاصة إذ من صفات الـلــه الذي يريد أن نقبل صورته في قلوبنا ، الإحسان والمحبة . إن كل ما قد وهبنا إياه الخالق من مقدرات وصفات ينبغي لنا أن نستخدمه فيما يؤول إلى مجده ورفع شأن بني جنسنا . وفي هذا العمل نجد تلك القوى أطهر وأنبل وأمجد تدريب لها . AA 536.3
ولو أعطي هذا المبدأ الالتفات الذي تتطلبه أهميته لحدث تغيير جوهري في بعض طرق التهديب المعمول بها . فعلى المعلمين ، بدلا من الالتجاء إلى الكبرياء والطموح الأناني وإشعال روح التنافس ، أن يحاولوا إيقاظ محبة الصلاح والحق والجمال في نفوس الطلبة لاستنهاض شوقهم إلى التفوق والسمو . فالطالب يجتهد في تنمية مواهب الـلــه في نفسه ، لا ليتفوق على أقرانه بل ليتمم قصد الـلــه ويقبل صورته . وبدلا من توجيههم إلى مجرد مثل أرضية ، وبدلا من أن تدفعهم رغبتهم في تمجيد أنفسهم التي هي في ذاتها تحط من شأن الإنسان ، يوجه الفكر إلى الخالق ليعرفه ويتشبه به . AA 536.4
( بدء الحكمة مخافة الـــرب ، ومعرفة القدوس فهم ) (أمثال 9 : 10) إن عمل الحياة العظيم هو بناء الخلق . ومعرفة الـلــه هي أساس كل تهذيب صحيح ، فنشر هذه المعرفة وتكوين الخلق ليكون منسجما معها ، هذا ما ينبغي أن يستهدفه المعلم في عمله . إن شريعة الـلــه هي انعكاس لصفاته ، ولهذا يقول المرنم : ( كل وصاياك عدل ) كما يقول أيضأ : )من وصاياك أتفطن ، لذلك أبغضت كل طريق كذب ) (مزمور 119 : 172 ، 104) لقد أعلن الـلــه نفسه لنا في كلمته وفي أعمال الخلق . فمن الكتاب الموحى به ومن سفر الطبيعة يمكننا أن نستقي معرفتنا عن الـلــه . AA 537.1
من بين نواميس العقل انسجامه مع الأشياء التي يربي نفسه على التأمل فيها . فإذا انشغل بالأشياء العادية وحدها صار ضعيفا وعاجزاً ، وإذا لم يطلب منه أن يتصارع مع المشاكل الصعبة فبعد قليل يكاد يفقد قدرته على النمو . إن الكتاب المقدس هو قوة مثقفة بلا منازع . وفي كلمة الـلــه يجد العقل مجالا لأعمق الأفكار وأسمى المطامح . والكتاب المقدس هو أعظم تاريخ مهذب يمكن أن يملكه الإنسان . لقد أتى حديثا مع نبع الحق الأزلي الذي حفظته يد الـلــه في طهارته مدى الأجيال . إنه يشرق بنوره على الماضي البعيد الذي تحاول البحوث البشرية عبثا اكتناه أسراره . وفي كلمة الـلــه نلمس القوة التي قد وضعت أسس الأرض ونشرت السموات . وفيه دون سواه نجد تاريخاً لجنسنا غير ملطخ بالتعصب والكبرياء البشريين ، وفيه سجلت أنباء الحروب والهزائم والانتصارات التي أحرزها أعظم الرجال الذين عرفهم العالم . وهنا أيضا تنكشف أمامنا مشاكل الواجب والمصير . والستار الذي يفصل بين العالم المنظور وغير المنظور يرفع فنرى صراع القوتين المتضادتين - الخير والشر - منذ بدء دخول الخطية إلى العالم إلى وقت انتصار البر والحق في النهاية ، وكل ذلك إن هو إلا إعلان لصفات الـلــه . وإذ يتأمل عقل التلميذ طالب الحق بوقار في الحقائق المقدمة في كلمة الـلــه يصير في شركة مع فكر الـلــه غير المحدود . مثل هذا الدرس فضلا عن كونه ينقي الخلق ويشرفه ، فهو لا يخفق في توسيع قوى الذهن وتنشيطها . AA 537.2
إن لتعليم الكتاب علاقة حيوية بنجاح الإنسان في كل صلاته في هــذه الحياة أنه يكشف عن المبادئ التي هي حجر الزاوية في صرح نجاح الأمة ، المبادئ المرتبطة بخير المجتمع ، والتي هي حارس الأسرة ، والتي بدونها لن يستطيع أي إنسان أن يبلغ إلى حال النفع والسعادة والكرامة في هذه الحياة ولا يضمن التمتع بالحياة الأبدية العتيدة . لس من مركز في الحياة ولا طور من أطوار الاختبار البشري إلا ونجد له في تعاليم الكتاب المقدس إعدادا جوهريا . وإذ ندرس كلمة الـلــه ونطيعها نراها تقدم للعالم رجالا ذوي ذكاء أقوى وأنشط مما يعطيه أدق تطبيق لكل المواضيع المبنية على فلسفة البشر . إن كتاب الـلــه يقدم للعالم رجالا أقوياء ذوي خلق ثابت متين وإدراك قوي وحكم صائب - رجالا يكرمون الـلــه ويباركون العالم . AA 537.3
في دراسة العلوم نحصل أيضا على معرفة الخالق . إذ كل علم حقيقي ما هو إلا تفسير للكتابة التي يكتبها الـلــه في العالم المادي . والعلم يقدم من بحوثه براهين جديدة على حكمة الـلــه وقدرته . إن كتاب الطبيعة وكلمة الـلــه المكتوبة متى أدركناهما إدراكا صحيحا يعرفاننا بالـلــه ، لكونهما يعلماننا أشياء عن النواميس الحكيمة والنافعة التي بها يعمل الـلــه . AA 538.1
يجب إرشاد الطالب إلى رؤية الـلــه في كل أعمال الخلق . وعلى المعلمين أن ينسجوا على منوال المعلم الأعظم الذي استخرج من المناظر المألوفة أمثالا بسط فيها تعاليمه ورسخها عميقة في عقول سامعيه وقلوبهم . فالطيور المغردة بين الأغصان وزنابق الحقل المورقة والأشجار العالية والأرض المثمرة والبذار النامي والأرض القفراء ، والشمس في غروبها وهي تزين السمحات بأشعتها الذهبية - كل هذه كانت وسائل نافعة للتعليم . وقد قرن هذا المعلم العظيم أعمال الخلق العظيمة المرئية بكلام الحياة الذي نطق به . حتى كلما وقعت عيون سامعيه على هذه المناظر تتجه أفكارهم إلى الدروس والحقائق التي قرنها بها . AA 538.2
إن طابع اللاهوت الذي يرى من خلال سطوره كتاب الوحي يرى فوق الجبال الشاهقة والسهول الخصبة المثمرة والأوقيانوس العظيم العميق ، كما أن مناظر الطبيعة تحدث الإنسان عن محبة خالقه . لقد ربطنا الـلــه إلى نفسه بعلاقات لا عدد لها في السماء وفي الأرض ، فهذا العالم ليس كله حزنا وشقاء .) الـلــه محبة ( هذا ما هو مكتوب على كل برعمة متفتحة ، وعلى أوراق كل زهرة ، وعلى ساق كل عشبة . ومع أن لعنة الخطية قد جعلت الأرض تنبت شوكا وحسكا ، فحتى الحسك لا يزاًل تعلوه الأزهار ، والشوك تخفيه الورود . إن كل ما في الطبيعة يشهد لرعاية الـلــه الأبوية الرقيقة ورغبته في إسعاد أولاده ، الذي لا يقصد بنواهيه ووصاياه مجرد إظهار سلطانه ، ولكنه في كل ما يفعل يضع نصب عينيه خير أولاده وإسعادهم ، كما أنه لا يطلب منهم أن يبعدوا عنهم شيئا يكون في بقائه خيرهم وراحتهم . AA 538.3
إن الفكرة السائدة بين كل طبقات المجتمع ، بأن الدين لا يجلب الصحة أو السعادة في هذه الحياة ، هي من أخبث الأخطاء المضللة . فالكتاب يقول : )مخافة الـــرب للحياة (ومن يمتلكها) يبيت شبعان لا يتعهده شر) (أمثال 19 : 23) كما يقول أيضا : ) من هو الإنسان الذي يهوى الحياة ، ويحب كثرة الأيام ليرى خيراً ؟ صن لسانك عن الشر ، وشفتيك عن التكلم بالغش . حد عن الشر ، واصنع الخير . اطلب السلامة ، واسع ورائها ) (مزمور 34 : 12 — 14) وكلمات الحكمة ) هي حياة للذين يجدونها ، ودواء لكل الجسد ) (أمثال 4 : 22) . AA 539.1
إن الديانة الحقيقية تجعل الإنسان في حالة انسجام تام مع شرائع الـلــه سواء أكانت جسدية أم عقلية أم أدبية . إنها تعلمنا ضبط النــفـــس والرصانة والهدوء والاعتدال (التعفف) . الديانة تزكي العقل وتنقي الذوق وتقدس ملكة الحكم ، وتجعل النــفـــس شريكة السماء في طهارتها . إن الإيمان بمحبة الـلــه وعنايته السائدة يخفف من أعباء القلق والهموم ويملأ القلب فرحا واكتفاء ، سواء أكان الإنسان من أغنى الأغنياء أو أفقر الفقراء . إن الديانة تحسن الصحة تحسينا مباشرا ، وتطيل العمر ، وتسمو بتمتعنا بكل بركات الحياة ، وتفتح للنــفـــس نبعا للسعادة لا ينضب . يا ليت كل من لم يختاروا المسيح نصيبا لهم بعد يدركون أن عنده شيئا يريد أن يقدمه لهم أفضل مما يطلبونه لأنفسهم . إن الإنسان يلحق بنفسه أعظم ضرر ويوقع بها أفدح ظلم حين يفكر ويعمل ضدا لمشيئة الـلــه ، يمكن أن يكون هنالك فرح حقيقي لمن يسير في الطريق الذي نهاه عنه ذاك الذي يعرف الأفضل والذي يعمل لخير خلائقه . إن طريق العصيان نهايته الشقاء والهلاك ، أما الحكمة فإن )طرقها طرق نعم ، وكل مسالكها سلام ) (أمثال 3 : 17) . AA 539.2
بإمكاننا الاستفادة من دراسة التربية البدنية والدينية التي كانت تمارس في مدارس العبرانيين . إن قيمة مثل هذه التربية لا تقدر . هنالك علاقة وثيقة بين العقل والجسم ، وحتى نصل إلى مقياس رفيع من البلوغ الأدبي والذهني ينبغي مراعاة القوانين التي تسيطر على كياننا البدني . فلكي نحصل على خلق قوي متزن ينبغي تدريب القوى العقلية والبدنية وترقيتها . فأية دراسة يمكن أن تكون أهم لدى الشباب من تلك التي تتناول هذا التركيب العضوي العجيب المسلم لنا من الـلــه ، والنواميس التي بها يحفظ صحيحا سليما . AA 539.3
وكما كانت الحال في أيام إسرائيل بأن على كل شاب أن يتعلم واجبات الحياة العملية كذلك على كل واحد الآن أن يحصل على بعض المعرفة لفرع من فروع العمل اليدوي يمكنه بواسطتها أن يحصل على رزقه إذا اضطر لذلك . وهذا لازم جدا ليس ليكون واقيا يقيه تقلبات الحياة فقط ، بل لأنه يرقي وينمي قواه البدنية والعقلية والأدبية . وحتى لو كان المرء واثقا تماما من أنه لن يحتاج إلى العمل بيديه لإعالة نفسه ، فإنه يجب عليه أن يتعلم أن يشتغل ، فما لم يتدرب الجسم على العمل فلن تكون له بنية قوية ولا صحة معتدلة نشيطة . كما أن التدرب على العمل المنظم جيدا ليس أقل لزوما للحصول على عقل قوي نشيط وخلق نبيل . AA 540.1
على كل طالب أن يكرس جزءا من كل يوم للعمل الجدي النشيط . وهكذا تتكون في الإنسان عادة الاجتهاد وينشأ في داخله روح الاعتماد على النــفـــس ، وهذا يقي الشاب أيضا الكثير من الأعمال الشريرة المنحطة التي تنشأ عن الكسل أحيانا كثيرة . كل هذا يتفق مع أغراض التعليم الأساسية ، لأننا بتشجيعنا للنشاط والاجتهاد والطهارة نكون في توافق وانسجام مع الخالق . AA 540.2
على الشباب أن يفهموا الغاية من خلقهم - وهي تمجيد الـلــه ومباركة بني جنسهم . عليهم أن يروا المحبة الرقيقة التي قد أظهرها لهم الآب السماوي . والنصيب العظيم السامي الذي سيعدهم له التدريب الذي يتلقونه في هــذه الحياة - العظمة والكرامة اللتين يدعون إليهما ، أي أن يصيروا أبناء الـلــه - وإن آلافا من الناس سيتحولون بكل احتقار ونفور عن الأغراض الأنانية المنحطة والمسرات الطائشة التافهة التي كانوا قد انغمسوا فيها . وسيتعلمون أن يكرهوا الخطية وينبذوها ليس لمجرد الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب ، بل بسبب خستها ودناءتها الملازمة لها ، لأنها تحط من قدر قواهم المعطاة لهم من الـلــه ، وتلطخ رجولتهم وكرامتهم . AA 540.3
إن الـلــه لا يأمر الشباب أن يخفضوا من آمالهم وانتظاراتهم ، كما أن عناصر الخلق التي تجعل الإنسان ناجحا ومكرما بين الناس - والرغبة التي لا تقهر في طلب خير أعظم ، والإرادة التي لا تغلب والإجهاد العنيف والمواظبة التي لا تعرف الكلال - كل هذه يجب ألا تسحق وتكبت . فبنعمة الـلــه يجب أن يوجهوا إلى أغراض أسمى من المصالح الأنانية والوقتية كعلو السماء عن الأرض . وإن التهذيب الذي يبدأ في هذه الحياة سيمتد إلى الحياة العتيدة . ويوما فيوما ستنكشف أمام العقل ، في جمال جديد ، أعمال الـلــه العجيبة والبراهين على حكمته وقدرته في خلق المسكونة وإعالة ساكنيها ، وسر المحبة والحكمة غير المدركتين في تدبير الفداء ، ( ما لم تر عين ، ولم تسمتع أذن ، ولم تخطر على بال إنســـان : ما أعده الـلــه للذين يحبونه ) (1 كورنثوس 2 : 9 ) وحتى في هذه الحياة يمكننا أن نرى لمحات من حضور الـلــه ونذوق أفراح الشركة مع السماء . ولكننا سنصل إلى فرحها وبركتها في الأبدية . إن الأبدية وحدها تستطيع أن تكشف لنا عن النصيب المجيد الذي سيحصل عليه الإنسان الذي أعيد إلى صورة الـلــه . AA 540.4
* * * * *