الاباء والانبياء

59/75

‏الفصل السابع والخمسون—‏الفلسطينيون يستولون علي التابوت

‏ لقد قدم لبيت عالي إنذار آخر . والرب لم يستطع أن يتحدث مع رئيــس الكهنة أو بنيه ، ‏حيث كانت خطاياهم كسحابة كثيفة حجبت عنهم حضور الروح القدس . ولكن ظل في وسط الشر أمينــاً للسماء ، ‏وكانت رسالة الدينونة لبيت عالي هي مأمورية صموئيل كنبي لله العلي . AA 522.1

‏ ( وكانن كلمة الـــرب عزيزة ‏في تلك الآيام . لم تكن رؤيا كثيــراً . وكان في ذلك الزمان إذ كان عالي مضطجعـاً في مكانــه وعيناه ابتدأتا تضعفان لم يقدر آن يبصــر . قبل آن ينطفئ سراج الـلــه ، وصموئيل مضطجع في هكيل الـــرب الذي فيه تابوت الـلــه ، أن الـــرب دعا صموئيل ) (انظر 1 صموئيل 3 ‏- 7) فإذ ظن أن الصوت هو صوت عالي ركض الصبي الى جوار سرير الكاهن قـائــلاً له : )هآنذا لآنك دعوتني(فكان الجواب ( لم أدع يا ابني . ارجع اضطجع ( وقــد دعي صموئيل ثلاث مرات فأجاب على الدعوة ‏بنفس الكيفية . وحينئــذ إقتنــع عالي بأن تلك الدعوة ‏الغامضة هي صوت الـلــه . لقد غض الرب الطرف عن عبده المختــار الرجل الذى كلل الشيب رأسه ليتحدث مع صبي . كان هذا في ذاته توبيخا صارما ومرا لعالي وبيته ، ولكنهم كانوا يستحقونه . AA 522.2

‏ لم يوقظ هذا روح الغيرة ‏أو الحسد في نــفـــس عالي . ولكنه أوصى صموئيل إذا دعاه الصوت مرة ‏أخرى أن يقول : ( تكلم يا رب لآن عبدك سامع ) . إن تفكيره في كون الـلــه العظيم يكلمه مــلأه بالرهبة حتى لقد نسى نــفـــس الكلمات التي أمره عالي أن يقولها . AA 522.3

‏ ( فقال الـــرب لصموئيل : هوذا أنا فاعل أمرا في إسرائيل كل من سمع به تطن أذناه . في ذلك اليوم أفيم على عالي كل ما تكلمت به على بيته . أبتدئ وأكمل . وقد أخبرته بأني أقضي على بيته إلى الأبــد من آجل الشر الذى يعلم أن بنيه قــــــد أوجبوا به اللعنه على أنفسهم ، ولم يردعهم . ولذلك أقسمت لبيت عالي أنه لآ يكفرعن شر بيت عالي بذبيحة آو بتقدمه إلى الأبــــد (. AA 522.4

‏ قبل تسلم هــذه الرسالة من الـلــه : ( لم تعرف صموئيل الـــرب بعد ، ‏ولآ أعلن له كلام الـــرب بعد ) ومعنى ذلك أنه لم يكن قــــد اختبر إعــلانــاً كهذا عن ظهور الـلــه المباشر له كما قــــد أعطي للأنبيــاء . لقد قصد الـلــه أن يعلن نفسه بكيفية غير منتظرة حتى يسمع عالي بذلك عن طريق دهشة ذلك الشاب وسؤاله . AA 523.1

‏ امتلأ صموئيل خوفا وذهولا عندما فكر في الرسالة المخيفة المسلمة إليه . وفي الصباح ذهب ليقوم بواجباته كالمعتاد ولكن ثقلاً هائلاً كان يجثم على قلبه الصغير . إن الرب لم يأمره أن يكشف عن ذلك الإنذار المخيف ، ولهذا فقد ظل صامتــاً ، محاولا على قــــدر الإمكان ألا يلتقي بعالي . وقــد ارتجف خشيــة أن يحرجه عالي بأسئلته فيضطر أن يعلن أحكام الـلــه على ذلك الكاهن الشيخ الذي كان يحبه ويوقره . كان عالي موقنا بأن الرسالة تنبئ عن كارثــة عظيمة ستحل به وببيته ، فدعا صموئيل وطلب منه أن يخبره بكل أمانة عما قــــد أعلنه له الرب ، فأجابه الشاب إلى طلبه . وهنا انحنى ذلك الشيخ في خضوع ذليل أمام ذلك الحكم المخيف وقـــال : )هو الـــرب . ما يحسن في عينيه يعمل ) . AA 523.2

‏ ومع ذلك فإن عالي لم يظهر ثمار التوبة الحقيقية . لقد اعترف بذنبه ولكنه لم يقو على الإقلاع عن الخطية . وكان الرب من سنة إلى سنة يؤجل إيقاع أحكامه التي قد هدد بها عالي وبيته . وفي خلال تلك السنين كان يستطيع عالي القيام بأعمال كثيرة ليجبر إخفاقه الماضي ، ‏ولكن ذلك الكاهن الشيخ لم يقم بأي عمل حاسم للقضاء على تلك الشرور التي كانت تدنس مقدس الرب والتي كانت تسوق آلافا من بني إسرائيل إلى الهلاك . هذا وإن صبر الـلــه وطول أناته جعلا حفني وفينحاس يقسيان قلبيهما ويرتكبان خطية العصيان على الـلــه بأعظم جرأة . لقد أخبر عالي الأمة كلها برسائل الإنذار والتوبيخ الموجهة إلى أهل بيته ، ‏وبهــذه الوسيلة حاول أن يصد ، ‏إلى حد ما ، ‏الآثار الشريرة لإهماله السالف . ولكن الشعب استخف بالإنذارات كما قد فعل الكهنة . ثم إن الشعوب المجاورة لإسرائيل أيضا لم تكن تجهل الآثام التي كان بنو إسرائيل يرتكبونها جهارا ، ‏ولذلك زادت تلك الشعوب جرأة في عبادة الأوثان وارتكاب ‏الجرائم دون أن يشعروا بالحزن على جرائمهم ، كما كانوا سيحزنون على آثامهم ويرتدعون عن الشر لو حرص بنو إسرائيــل على استقامتهم . ولكن يوما للقصاص كان قادما . لقد طرح الناس سلطان الـلــه جانبا ، كما أهملوا عبادته واستهانوا بها ، ولذلك صار من الضروري أن يتدخل الـلــه لكي تحفظ كرامة اسمه . AA 523.3

‏ ( وخرج إسرائيــل للقاء الفيسطيينين للحرب ، ونزلوا عند حجر المعونة ، وأما الفيسطينيون فنزلوا في آفيق) وقــد شرع الإسرائيليون في القيام بهذه الحملة بدون استشارة ‏الـلــه وبدون رضى كاهن أو نبي ، ( واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيــل ، واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيــل أمام الفلسطينيين ، وضربوا من الصف في الحقل نحو أربعة آلآف رجــل ) فلما ارتد الجيش المحطم الخائر إلى محلتهم ( قـــال شيوخ إسرائيــل : لماذا كسرنا اليوم الـــرب أمام الفلسطينيين ) لقد كانث الأمة قــــد استحصدت ، وحان وقث دينونة الـلــه ، ولكنهم مع ذلك لم يروا أن خطاياهم هي التي بسببها حلت بهم تلك الكارثــة المخيفة ، فقالوا : ( لنأخذ لآنفسنا من شيلوه تابوت عهد الـــرب فتدخل في وسطنا ويخلصنا من يد آعدائنا ) ولكن الرب لم يكن قــــد أمرهم أو أذن لهم أن يأتوا بالتابوت إلى حيث كان الجيش ، ومع ذلك فقد كانوا واثقين من أن النصر سيكون حليفهم ، وقــد هو هتفوا هتافا عظيما حين حمله بنو عالي إلى المحلة . AA 524.1

‏ نظر الفلسطينيون إلى التابوت على أنه إله إسرائيــل . فكل العظائم التي قــــد صنعها الـلــه مع شعبه نسبت إلى قوة ‏التابوت . وإذ سمعوا هتافات الفرح من محلة إسرائيــل عند قدومه قالوا : ( ما هو صوت هذا الهتاف العظيم في محلة العبرانيين وعلموا أن تابوت الـــرب جاء إلى المحلة . فخاف الفلسطينيون لأنهم قالوا : «قد جاء الـلــه إلى المحلة» . وقـــالوا : ويل لنا لآنه لم يكن مثل هذا منذ أمس ولآ ما قبله ! ويل لنا ! من ينقذنا من يد هؤلآء الآلهة القادرين ؟ هؤلآء هم الآلهة الذين ضربوا مصر بجميع الضربات في البرية . تشددوا وكونوا رجالاً أيها الفلسطينيون لئلا تستعبدوا للعبرانيين كما استعبدوا هم لكم .فكونوا رجالاً و حاربوا ) . AA 524.2

‏ هجم الفلسطينيون هجوما عنيفا فانهزم إسرائيــل وهلك منهم جمع غفير ، وسقط منهم ثلاثون ألفا في ساحة القتال ، وأخذ تابوت الـلــه إذ سقط أبناء عالي وماتا وهما يذودان عنه . وهكذا سطرت على صفحات التاريخ مرة أخرى شهادة لكل الأجيال اللاحقة - بأن آثام المدعوين شعب الـلــه لن تترك بدون قصاص . فكما زادت معرفة الناس لإرادة الـلــه عظمت خطية من يستخفون بها . AA 524.3

‏ لقد حلت بإسرائيل أعظم كارثــة مخيفة كان يمكن وقوعها . إذ أن تابوت الـلــه قد أخذه العدو واستولى عليه ، فزال المجد حقا من إسرائيل حين أخذ من وسطهم رمز حضور الـلــه الدائم وقوته ، لأن هذا التابوت المقدس كان مقترنا بأعجب إعلانات حق الـلــه وقدرته . في الأيام الغابرة كانوا يحرزون انتصارات عجائبية كلما ظهر التابوت بينهم ، كان مظللا بأجنحة الكروبيم الذهبية ولقد حل عليه في قدس الأقداس مجد الـلــه (الشكينا) الذي لا يعبر عنه والذي كان هو الرمز الظاهر لله العلي . أما الآن فلم يحرز لهم نصرة ولم يبرهن على أنه قوة للدفاع في هذه المرة . فكان حزن وصراخ في كل إسرائيل . AA 525.1

‏ إنهم لم يدركوا أن إيمانهم كان مجرد إيمان إسمي فلم تكن فيه قوة للغلبة مع الـلــه ، كما أن شريعة الـلــه الموضوعة في التابوت كانت رمزا أيضا لحضوره ، ولكنهم جلبوا الازدراء والاحتقار على تلك الوصايا واحتقروا مطالبيها وأحزنوا روح الرب فتركهم . إن الشعب حين أطاعوا الوصايا المقدسة كان الرب معهم وعمل لأجلـــهم بقوته غير المحدودة ، ولكنهم حين نظروا إلى التابوت ولم يروا علاقته بالـلــه ولم يكرموا إرادة الـلــه المعلنة لهم بالطاعة لشريعته ، لم يكن التابوت ليجديهم نفعا أكثر من صندوق عادي . لقد نظروا إلى التابوت نظرة الوثنيين إلى أصنامهم كما لو كان مزودا في ذاته بعناصر القوة والخلاص . فتعدوا الشريعة التي كان التابوت يحتويها لأن عبادتهم للتابوت قادتهم إلى المحافظة على الرسوم الخارجية الشكلية وإلى الرياء وعبادة الأوثان . إن خطيتهم فصلتهم عن الـلــه ، فلم يمكنه أن يعطيهم انتصارا إلا إذا تابوا وتركوا آثامهم . AA 525.2

‏ لم يكن وجود التابوت والمقدس في وسط إسرائيل كافيا ، ولم يكن يكفي أن يقدم الكهنة الذبائح وأن يدعى الشعب أولادا لــلـــــه . لأن الـلــه لا يقبل صلاة أولئك الذين يراعون الإثم في قلوبهم ، كما هو مكتوب : ( من يحول أذنه عن سماع الشريعة ، فصلاته أيضا مكرهة ) (أمثال 28 ‏: 9) . AA 525.3

‏ وحين خرج الشعب للحرب بقي عالي في شيلوه لأنه كان رجلا شيخا وأعمى . وهناك بقلب مضطرب وبتطير عظيم كان ينتظر نتيجة المعركة ، ( لأن قلبه كان مضطربا لآجل تابوت الـلــه ) وإذ اتخذ لنفسه مكانا خارج باب الخيمة كان يجلس بجانب الطريق العام يوما بعد يوم منتظرا بجزع رسولا ما من ساحة القتال . AA 525.4

‏ أخيرا أتى رجل من بني بنيامين وكان يصعد إلى المدينة مسرعا ( وثيابه ممزقة وترابا على رأسه ) وإذ مر بغير اكتراث بذلك الشيخ الجالس بجانب الطريق ، أسرع راكضا إلى المدينة وأخبر جموع الناس المتلهفين بأنباء الهزيمة والخسارة . AA 526.1

‏ وصلت أصوات النوح والعويل إلى مسمع ذلك الشيخ الذي كان يراقب بجانب الخيمة . ولما أتي بالرسول إليه قال الرجل لعالي : ( هرب إسرائيل أمام الفلسطينيين وكانت أيضاً كسرة عظيمة في الشعب ، ومات أيضاً ابناك حفني و فينحاس ) وقد استطاح عالي أن يحتمل كل هذا لأنه كان يتوقعه مع أنه كان مرعبا جدا . ولكن حين أضاف الرسول قائلا : ( وأخذ تابوت الـلــه) بدت على وجه عالي علائم حزن لا يعبر عنه . إن فكرة كون خطيته جلبت العار والهوان على الـلــه إلى هذا الحد وجعلته يترك شعب إسرائيــل كانت أعظم مما يستطيع احتماله ، ففارقته قوته فسقط ( فانكسرت رقبته ومات) . AA 526.2

‏ إن امرأة فينحاس مع كون رجلها شريرا كانت امرأة تخاف الرب . إلا أن موت حميها ورجلها ، وفوق الكل ذلك الخبر المرعب ، خبر أخذ تابوت الـلــه ، كان سببا في موتها ، إذ أحست أن آخر رجاء لإسرائيل قد فارقه . وفي ساعة شـدتها دعت ابنها المولود لها إيخابود )غير مجيد) ، وفي وقت احتضارها كانت تردد هذه الكلمات بحزن عميق : ( زال المجد من إسرائيــل . لآن تابوت الـلــه قد أخذ ) . AA 526.3

‏ ولكن الـلــه لم يرفض شعبه رفضا باتا ، ‏ولم يسمح أن يعتز الوثنيون ويطربوا ويفرحوا طويلا ، ‏بل استخدم الفلسطينيين كسوط لتأديب إسرائيل كما استخدم التابوت لمعاقبة الفلسطينيين . كان حضور الـلــه في الأيام الغابرة ملازما للتابوت ليكون عزا ومجدا لشعبه المطيع . ولا بد من أن يلازمه ذلك الحضور الخفي ليجلب الرعب والهلاك على من يتعدون شريعته المقدسة . أحيانا كثيرة يستخدم الـلــه ألد أعدائه لمعاقبة عدم الأمانة في المدعوين شعبه ، ‏فقد ينتصر الأشرار ويفتخرون إلى حين عندما يرون إسرائيل يقاسون أهوال التأديبات ، ‏ولكن سيأتي الوقت الذي فيه سيواجهون الحكم عليهم من الـلــه القدوس الذي يكره الخطية ، ‏إذ أينما ‏يبقي الناس على الإثم فلا بد من أن تدركهم دينونة الـلــه السريعة التي لا تخطئ . AA 526.4

‏ نقل الفلسطينيون التابوت إلى أشدود إحدى مقاطعاتهم الخمس العظمى ، وهم معتزون ومنتصرون ، ووضعوه في بيت إلههم داجون ، وتصوروا أن القوة التي لازمت التابوت قبلا ستكون من نصيبهم ، وأن هذه القوة مضافا إليها قوة داجون ستجعلهم من القوة بحيث لا يمكن أن ينغلبوا . ولكن عندما دخلوا هيكل إلههم في غداة اليوم التالي رأوا منظرا مــلأهم دهشة ورعبا . رأوا داجون ساقطا بوجهه على الأرض أمام تابوت الرب . فرفع الكهنة الصنم بكل وقار وأعادوه إلى مكانه . وإذ بهم في صبيحة اليوم التالي يرونه مبتورا ومشوها تشويها غريبا وساقطا أمام التابوت . كان النصف الأعلى لذلك الصنم على صورة إنسان أما النصف الأسفل فكان على هيئة سمكة ، فلقد بتر من ذلك الصنم كل ما يشبه الإنسان ولم يبق غير بدن السمكة ، وحينئــذ شمل الكهنة والشعب رعب عظيم ، ونظروا إلى ذلك الحادث المبهم على أنه نذير شؤم ينبئ بهلاكهم وهلاك أصنامهم أمام إله العبرانيين . فنقلوا التابوت من هيكلهم ووضعوه في مبنى منعزل . AA 527.1

‏ وقد ضرب سكان أشـدود بمرض خطر ومميت . وإذ ذكروا الضربات التي أوقعها إله إسرائيل على المصريين نسب الشعب بلاياهم إلى وجود التابوت بينهم فقرروا نقله إلى جت . ولكن الوبأ لازمه ، فأرسله سكان جت إلى عقرون . وهناك استقبله العقرونيون بالصراخ قائلين في رعب : “قد نقلوا إلينا تابوت إله إسرائيــل لكي يميتونا نحن وشعبنا ( ثم اتجهوا إلى آلهتهم في طلب الحماية كما قد فعل سكان جت وأشدود ولكن الوبأ المهلك كان يعمل عمله حتى أنهم في كربهم ) ( صعد صراخ المدينة إلى السماء ) وإذ كانوا يخشون من إبقاء التابوت بين مساكن الناس وقتا أطول وضعوه في الخلاء ، فتبعت ذلك ضربة الفيران التي عاشت في البلاد وأتلفت محاصيل الأرض في المخازن وفي الحقول . والآن صارت الأمة كلها مهددة بالهلاك الشامل إما بالمرض أو بالجوع . AA 527.2

‏بقي التابوت في أرض الفلسطينيين سبعة أشهر . ولم يحاول بنو إسرائيل في خلال هذه المدة الطويلة أن يستردوه . ولكن الفلسطينيين صاروا راغبين الآن ومشتاقين إلى التخلص من وجود التابوت بقدر ما كانوا راغبين في الاستيلاء عليه في بادئ الأمر . فبدلا من أن يكون مصدر قوة لهم صار عبئا ثقيلا ولعنة ساحقة . ولكنهم لم يكونوا يعلمون ماذا يفعلون ، ولا أي طريق يسلكون ، لأنه أينما أخذ التابوت كانت الضربات تلاحق الناس . فاستدعى الشعب ‏أقطاب الأمة وكهنتها وعرافيها وسألوهم بلهفة قائلين : ( ماذا نعمل بتابوت الـــرب ) أخبرونا بماذا نرسله إلى مكانــه ( فنصحوهم بأن يعيدوه بقربان إثم غال . ثم قـــال الكهنة : ( حينئذ تشفون ويعلم عندكم لماذا لآ ترتفع يده عنكم ) . AA 527.3

‏ كانت العادة عند الوثنيين لإبعاد ضربة أو رفعها ، أن يصنعوا تمثالا من ذهب أو فضة أو مادة أخرى لذلك الشيء الذي تسبب في الخراب ، أو الشيء أو الجزء المصاب من الجسم ، وكان هذا التمثال يوضع على عمود أو في مكان ظاهر ، وكان يعتبر واقيا فعالا من الشرور والأوبئة . ولا تزال بين الشعوب الوثنية عادات مشابهة لهذه . وحين يذهب إنسان متألم من مرض إلى هيكل صنمه للاستشفاء فإنه يحمل معه صورة للجزء المصاب ويقدمها تقدمة لإلهه . AA 528.1

‏ وتبعا للخرافات السائدة حينئذ أرشـد أقطاب الفلسطينيين الشعب ليصنعوا تماثيل للضربات التي قــــد أصابتهم . ( حسب عدد أقطاب الفلسطينيين . خمسة بواسير من ذهب ، وخمسة فيران من ذهب . لآن الضربة واحدة عليكم جميعاً وعلى أقطابكم ) . AA 528.2

‏ إن هؤلاء الرجال الحكماء اعترفوا بوجود قوة خفية تصاحب التابوت - قوة لم تستطع حكمتهم أن تقاومها . ومع ذلك فإنهم لم ينصحوا شعبهم بالرجوع عن وثنيتهم ليعبدوا الرب . كانوا لا يـزاًلون سادرين في كراهيتهم ‏لإله إسرائيــل مع أنهم أجبروا بسبب الضربات الهائلة التي حلت بهم أن يخضعوا لسلطانه . وهكذا يقتنع الخطاة بسبب دينونة الـلــه ، أنهم عبثا يحاربون ‏. وقــد يرغمون على الخضوع لقوته بينما هم في قلوبهم يتمردون على سلطانه ‏. مثل هذا الخضوع لا يستطيع أن يخلص الخاطئ ، بل ينبغي أن يسلم القلب لله - ينبغي أن تخضعه النعمة الإلهية - قبلما تقبل توبة الإنسان . AA 528.3

‏ ما أطول أناة الـلــه على الأشرار ! إن الفلسطينيين الوثنيين والإسرائيليين المرتدين تمتعوا بعطايا عنايته سواء بسواء . فكانت مراحم لا حصر لها وغير ملحوظة تنزل بسكون في طريق الناس الجاحدين المتمردين . وكل بركة من هذه البركات كانت تحدثهم عن المعطي الكريم ، ولكنهم لم يكترثوا لمحبته . لقد كان احتمال الـلــه لبني الإنسان عظيما ، ولما أصروا بكل عناد على عدم توبتهم رفع عنهم يده الحافظة . لقد رفضوا الإصغاء إلى صوت الـلــه في أعماله التي خلقها وفي إنذارات كلمته ومشوراتها ‏وتوبيخاتها ، ولذلك اضطر إلى أن يخاطبهم بواسطة أحكامه ودينونته . AA 528.4

‏ وجد بين الفلسطينيين قوم وقفوا مستعدين لمقاومة فكرة إعادة التابوت إلى أرضه . كانوا يعتقدون أن اعترافا كهذا بقدرة إله إسرائيل ينطوي على الإذلال لكبرياء فلسطين . ولكن )الكهنة والعرافين ( أنذروا الشعب ألا يتشبهوا بفرعون والمصريين في عنادهم وإلا جلبوا على أنفسهم ويلات أعظم ، فاقترح تدبير حازم رضي به الجميع ، فنفذوه في الحال . فوضع التابوت ومعه قربان الإثم الذهبي على عجلة جديدة وبذلك استبعدوا كل خطر للنجاسة . وربطوا إلى هذه العجلة أو العربة بقرتين مرضعتين لم يعلهما نير وحبسوا ولديهما في البيت . تركت البقرتين تسيران إلى حيث راقهما . فإذا عاد التابوت إلى الإسرئيليين عن طريق بيتشمس التي هي أقرب مدن اللاويين فيعتبر الفلسطينيون هذا برهانا على أن إله إسرائيل هو الذي أوقع بهم هذا الشر العظيم . ثم قالوا : ) وإلا فنعلم أن يده لم تضربنا . كان ذلك علينا عرضاً) . AA 529.1

‏فلما أطلقت البقرتان تركتا ولديهما واستقامتا في الطريق إلى بيتشمس و هما تجأران . و بدون أن تقودهما يد بشرية ، سارت تانك البهيمتان الصبوران في طريقهما . لقد كان حضور الله يلازم التابوت فوصل إلى المكان المعين سالماً . AA 529.2

‏ كان ذلك الوقت موسم حصاد الحنطة و كان رجال بيتشمس يجمعون حصادهم في الوادي “فرفعوا أعينهم ورأوا التابوت وفرحوا برؤيته . فأتت العجلة إلى حقل يهوشع البيتشمسي ووقفت هناك . و هناك حجر كبير . فشققوا خشب العجلة وأصعدوا البقرتين محرقة الرب( ثم أن أقطاب الفلسطينيين الذين ساروا وراء التابوت ”إلى تخم بيتشمس) وشاهدوا استقبال الشعب له عادوا إلى عقرون ، فانقطعت الضربة واقتنع الفلسطينيون بأن الكوارث التي ألمت بهم كانت قصاصا أوقعه عليهم إله إسرائيل . AA 529.3

‏ وسرعان ما نشر أهل بيتشمس ذلك النبأ وهو أن التابوت في حوزتهم فتقاطر الناس من المدن المجاورة للترحيب بعودته . وضع التابوت على الحجر الذي قــــد استعمل أولا مذبحا ، كما قدمت أمامه ذبائح أخرى للرب . ولو أن أولـئــك الناس تابوا عن خطاياهم توبة حقيقية لكانت بركة الرب قــــد حلت عليهم . ولكنهم لم يطيعوا شريعته بأمانة ، وحين فرحوا بعودة التابوت على أنه بشير خير لم يكن فيهم إحساس حقيقي بقداسته . وبدلا من إعداد مكان مناسب ‏ليضعوه فيه أبقوه في الحقل . وإذ ظلوا يشخصون في ذلك التابوت المقدس ويتحدثون عن الكيفية العجيبة التي بها أعيد إليهم جعلوا يحدسون في أي شيء تكمن قوته . فلما غلبهم الفضول أخيرا رفعوا الغطاء وتجاسروا على فتحه . AA 529.4

‏ لقد تعلم بنو إسرائيل جميعا أن ينظروا إلى التابوت بكل تهيب ووقار . وحين كان ينقل من مكان إلى آخر لم يسمح للاويين أن يشخصوا بأبصارهم إليه ، ولم يكن يسمح لرئيــس الكهنة برؤية تابوت الـلــه إلا مرة واحدة في السنة . وحتى الفلسطينيون الوثنيون أنفسهم . لم يجرؤوا على رفع الغطاء عنه . وإن ملائك السماء غير المنظورين كانوا يلازمون التابوت في كل رحلاته . وسرعان ما عوقب شعب بيتشمس على جرأتهم الوقحة إذ ضرب كثيرون منهم وماتوا . AA 530.1

‏ أما الباقون منهم فلم يجعلهم هذا الحكم يتوبون عن خطيتهم ، ولكنهم كانوا ينظرون إلى التابوت بخوف خرافي فقط . وإذ كان أهل بيتشمس يتوقون إلى أن يؤخذ التابوت من بينهم ، وفي نــفـــس الوقت لم يكونوا يجسرون على نقله ، بعثوا برسالة إلى سكان قرية يعاريم يدعونهم لكي يأخذوه . فرحب أهل تلك القرية بالتابوت المقدس بفرح عظيم . لقد عرفوا أنه ضامن لرضى الـلــه على المطيعين والأمناء . وبفرح مقدس أتوا به إلى مدينتهم ووضعوه في بيت أبيناداب أحد اللاويين . وقــد أقام هذا الرجل ابنه ألعازار لحراسته فبقي التابوت هناك سنين طويلة . AA 530.2

‏ وفي خلال السنين التي مرت منذ أعلن الرب نفسه لابن حنة أول مرة اعترفت الأمة كلها بأن صموئيل قــــد دعي ليكون نبيا للرب . وإذ قــــدم صموئيل الإنذار الإلهي لبيت عالي بأمانة مع ما كان ينطوي عليه أداء ذلك الواجب من مشقة وألم ، برهن على ولائه كرسول للرب “وكان الـــرب معه ، ولم يدع شيئا من جميع كلامه يسقط إلى الآرض . وعرف في جميع إسرائيــل من دان إلى بئر سبع آنه قــــد اؤتمن صموئيل نبيا للرب ( . AA 530.3

‏ وقــد استمر شعب إسرائيــل كأمة في حالة الزندقة والوثنية فعاقبهم الـلــه بأن جعلهم مستعبدين للفلسطينيين . وفي أثناء ذلك جال صموئيل في طول البلاد وعرضها ، يزور المدن والقرى طالبا إرجاع قلوب الشعب إلى إله آبائهم ، ولم تكن مساعيه بدون نتائج حسنة . وبعدما احتمل الإسرائيليون ظلم أعدائهم ومضايقاتهم عشرين سنة “ناح كل بيت إسرائيــل وراء الـــرب ” ‏فنصحهم صموئيل بقوله : ( إن كنتم بكل قلوبكم راجعين إلى الـــرب ، فانزعوا الآلهة الغريبة والعشتاروت من وسطكم ، وأعدوا قلوبكم للرب واعبدوه وحده ) وهنا نرى أن التقوى العملية والديانة القلبية كان الشعب قــــد تعلموها في أيام صموئيل كما علم بها المسيح حين كان على الأرض . وبدون نعمة المسيح كانت طقوس الديانة الخارجية عديمة الجدوى لإسرائيل قديما ، كما هي لإسرائيل اليوم . AA 530.4

‏ إن الحاجة اليوم هي إلى انتعاش الديانة القلبية الصادقة كذلك الانتعاش الذي قــــد اختبره إسرائيــل قديما . فالتوبة هي أول خطوة ينبغي أن يخطوها كل من يرغبون في الرجوع إلى الـلــه . ولا يستطيع أحد أن يفعل هذا نيابة عن أي إنسان آخر . فعلى كل فرد منا أن يتذلل أملم الـلــه ويطرح أصنامه بعيدا . ومتى فعلنا كل ما نستطيعه يعلن لنا الرب خلاصه . AA 531.1

‏ وإذ تعاون رؤساء الأسباط معا اجتمع شعب غفير إلى المصفاة ، وصام الشعب صوما مقدسا واعترفوا بخطاياهم في تذلل عميق . وكدليل على تصميمهم على إطاعة الإرشادات التي قــــد سمعوها قلدوا صموئيل سلطة القاضي . AA 531.2

‏ فسر الفلسطينيون هذا التجمع على أنه مجلس حرب فأتوا بجش عظيم ليشتتوا شمل الإسرائيليين قبل اكتمال خططهم الحربية . فأثار نبأ قدومهم ذعرا شـديدا في قلوب بنى إسرائيــل حتى توسلوا إلى صموئيل قائلين : ( لآ تكف عن الصراخ من آجلنا إلى الـــرب إلهنا فيخلصنا من يد الفلسطينيين ) . AA 531.3

‏ وفيما كان صموئيل يقدم حملا محرقة للرب اقترب الفلسطينيون إليهم ليحاربوهم . وإذا بالإله القدير الذي قد نزل على جبل سيناء في وسط النار والدخان والرعود ، ‏والذي شق مياه بحر سوف ، ‏والذي فتح في نهر الأردن طريقا لبني إسرائيل ، ‏يظهر قوته مرة أخرى . ذلك أن عاصفة راعدة شـديدة هبت على الجيش المهاجم فهلك كثيرون منهم وتبعثرت جثث أولئك المحاربين الأشداء ، على وجه الغبراء . AA 531.4

‏ وقف الإسرائيليون في صمت مهيب وهم يرتجفون بين الرجاء والخوف . ولما شاهدوا تلك المقتلة التي هلك فيها أعداؤهم بسيف الرب علموا أن الرب قد قبل توبتهم . ومع أنهم لم يكونوا متأهبين للقتال فقد أمسكوا بأسلحة الفلسطينيين القتلى وطاردوا فلول الجيش الهارب إلى بيت كار . هذا النصر الفريد أحرزه شعب الرب في نفس الميدان الذي كانوا قد انهزموا فيه ‏وقتل منهم خلق كثيرون ومات الكهنة وأخذ تابوت الـلــه منذ عشرين سنة خلت . إن سبيل الطاعة لــلـــــه هو سبيل الأمان والسعادة للأمم كما للأفراد ، أما سبيل العصيان فنهايته الهزائم والكوارث . وقد أخضع الفلسطينيون الآن وغلبوا تماما حتى لقد سلموا الحصون والمعاقل التي كانوا قد اغتصبوها من إسرائيل وكفوا عن العدوان سنين طويلة . وقد تمثلت بهم أمم كثيرة فتمتع الإسرائيليون بالــســلام إلى نهاية حكم صموئيل . AA 531.5

‏ولكي لا تنسى تلك الحادثة أبدا من أذهان الشعب أقام صموئيل حجرا عظيما تذكارا بين المصفاة والسن وسماه حجر المعونة قائـلا للشعب ( إلى هنا أعاننا الـــرب ) . AA 532.1

* * * * *