الاباء والانبياء

44/75

الفصل الثاني والأربعون—تكرار الشريعة

أعلن الرب لموسى أن الوقت المعين لامتلاك كنعان أضحى قريبا . وإذ وقف ذلك النبي الشيخ على المرتفعات المشرفة على الأردن وأرض الموعد تفرس باهتمام شديد إلى ميراث شعبه . فهل يمكن أن يلغي ذلك الحكم الذي حكم به عليه بسبب خطيته في قادش ؟ لقد تضرع بغيرة شديدة قائلا : ( يا سيد الرب ، أنت قد ابتدأت تري عبدك عظمتك ويدك الشديدة . فإنه أي إله في السماء وعلى الأرض يعمل كأعمالك وكجبروتك ؟ دعني أعبر وأرى الأرض الجيدة التي في عبر الأردن ، هذا الجبل الجيد ولبنان ) (تثنية 3 : 24 — 27) . AA 411.1

فكانت الإجابة ( كفاك لا تعد تكلمني أيضا في هذا الأمر . اصعد إلى رأس الفسجة وارفع عينيك إلى الغرب والشمال والجنوب والشرق ، وانظر بعينيك ، لكن لا تعبر هذا الأردن ) . AA 411.2

خضع موسى لحكم الله دون تذمر . أما الآن فهو جزع جزعا شديدا على إسرائيل ، وأين هو الإنسان الذي يهتم اهتماما شديدا بخيرهم وإسعادهم كما يهتم هو ؟ فمن قلبه الفائض المفعم سكب أمام الرب هذه الصلاة ( ليوكل الرب إله أرواح جميع البشر رجلا على الجماعة ، يخرج أمامهم ويدخل أمامهم ويخرجهم ويدخلهم ، لكيلا تكون جماعة الرب كالغنم التي لا راعي لها ) (عدد 27 : 16 — 23) . AA 411.3

أصغى الرب إلى صلاة عبده وأجاب : ( خذ يشوع بن نون ، رجلا فيه روح ، وضع يدك عليه ، وأوقفه قدام ألعزار الكاهن وقدام كل الجماعة ، وأوصه أمام أعينهم . واجعل من هيبتك عليه ليسمع له كل جماعة بين إسرائيل ) . لقد ظل يشوع ملازما لموسى أمدا طويلا . ولكونه رجلا حكيما مقتدرا وموهوبا وعظيم الإيمان اختير خلفا له . AA 411.4

وإذ وضع موسى يديه عليه وقرن ذلك بوصية مؤثرة إلى أبعد حد أفرز يشوع بوقار كقائد لإسرائيل . وقد سمح له أيضا أن يشترك وقتئذ مع موسى في حكم إسرائيل . وأخبر موسى الشعب بكلام الرب عما يختص بيشوع قائلا : ( يقف أمام ألعازار الكاهن فيسأل له بقضاء الأوريم أمام الرب . حسب قوله يخرجون ، وحسب قوله يدخلون ، وهو وكل بني إسرائيل معه ، كل الجماعة ) . AA 411.5

ولكن قبلما اعتزل موسى منصبه كقائد إسرائيل المنظور ، أمره الرب أن يكرر على ماسع الشعب تاريخ نجاتهم من مصر ورحلاتهم في البرية ، وأن يلخص لهم كذلك الشريعة التي سمعت في سيناء ، لأن الشريعة حين أعطيت في سيناء لم يكن غير القليلين من الحاضرين وقتئذ متقدمين في الأيام بحيث يمكنهم إدراك الجلال الرهيب لتلك المناسبة (مناسبة إعطاء الشريعة) . وبما أنهم كانوا موشكين أن يعبروا نهر الأردن ويمتلكوا أرض الموعد ، أرا د الرب أن يضع أمام عيونهم مطاليب شريعته فارضا عليهم الطاعة كشرط للنجاح . AA 412.1

وقف موسى أمام الشعب مكررا على مسامعهم إنذاراته وتحذيراته الأخيرة . لقد استنار وجهه بنور مقدس وابيض شعره من طول السنين ولكنه كان منتصب القامة ، يعبر وجهه عن كمال نشاطه ، كما أن عينيه كانتا صافيتين ولم تضعفا . لقد كانت مناسبة هامة ، وبتأثير عميق صور للشعب محبة حافظهم القدير ورحمته . AA 412.2

( فاسأل عن الأيام الأولى التي كانت قبلك ، من اليوم الذي خلق الله فيه الإنسان على الأرض ، ومن أقصاء السماء إلى أقصائها . هل جرى مثل هذا الأمر العظيم ، أو هل سمع نظيره ؟ هل سمع شعب صوت الله يتكلم من وسط النار كما سمعت أنت وعاش ؟ أو هل شرع الله أن يأتي ويأخذ لنفسه شعبا من وسط شعب ، بتجارب وآيات وعجائب وحرب ويد شديدة وذراع رفيعة ومخاوف عظيمة ، مثل كل ما فعل لكم الرب إلهكم في مصر أمام أعينكم ؟ إنك قد أريت لتعلم أن الرب هو الإله . ليس آخر سواه ) (تثنية 4 : 32 — 35) . AA 412.3

( ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب ، التصق الرب بكم واختاركم ، لأنكم أقل من سائر الشعوب . بل من محبة الرب إياكم ، وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم ، أخرجكم الرب بيد شديدة وفداكم من بين العبودية من يد فرعون ملك مصر . فاعلم أن الرب إلهك هو الله ، الإله الأمين ، الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل ) (تثنية 7 : 7 — 9) . AA 412.4

كان شعب إسرائيل قبلا مستعدين أن ينسبوا كل ضياقتهم ومتابعهم إلى موسى ، أما الآن فإن كل ارتيابهم في أنه كان منقادا بروح الكبرياء والطموح والأنانية لم يعد له وجود ، فأصغوا إلى كلامه بثقة . وبكل أمانة بسط موسى أمامهم أخطاءهم وتعديات آبائهم . إنهم مرارا كثيرة ضجروا وسخطوا وتمردوا بسبب طول أمد تيانهم في البرية ، ولكن الرب لم يكن مسؤولا عن تأخرهم في امتلاك كنعان ، بل كان حزنه أعظم من حزنهم لأنه لم يستطع أن يدخلهم مباشرة لامتلاك أرض الموعد ، وهكذا كان يظهر أمام الشعوب قدرته العظيمة في تخليص شعبه . فبسبب عدم ثقتهم بالله وكبريائهم وعدم إيمانهم ، لم يكونوا مستعدين لدخول كنعان . لم يكونوا صورة حقيقية لذلك الشعب الذي الرب إلهه ، لأن صفاته المقدسة كالطهارة والصلاح والمحبة والإحسان لم تكن مطبوعة على قلوبهم . فلو أن آبائهم خضعوا بإيمان لأوامر الله وساروا بوجب أحكامه وفرائضه لكانوا استوطنوا كنعان منذ أمد بعيد ، وصاروا شعبا ناجحا مقدسا سعيدا ، فتأخرهم في امتلاك تلك الأرض الشهية كان مهينا لله ومنتقصا من مجده في نظر الشعوب المجاورة . AA 413.1

إن موسى الذي كان يعرف صفة شريعة الله وقيمتها أكد للعشب أنه لا شعب آخر له شرائع حكيمة وعادلة ورحيمة كهذه الشرائع المعطاة لهم ، فقال : ( انظر . قد علمتكم فرائض وأحكاما كما أمرني الرب إلهي ، لكي تعملوا هكذا في الأرض التي أنتم داخلون إليها لكي تمتلكوها . فاحفظوا واعملوا . لأن ذلك حكمتكم وفطنتكم أمام أعين الشعوب الذين يسمعون كل هذه الفرائض ، فيقولون : هذا الشعب العظيم إنما هو شعب حكيم وفطن ) (تثنية 4 : 5 ، 6) . AA 413.2

وقد استرعى موسى انتباههم إلى ( اليوم الذي وقفت فيه أمام الرب إلهك في حوريب ) ثم تحدى مجوع العبرانيين بقوله : ( لأنه أي شعب هو عظيم له آلهة قريبة منه كالرب إلهنا في كل أدعيتنا إليه ؟ وأي شعب هو عظيم له فرائض وأحكام عادلة مثل كل هذه الشرعية التي أنا واضع أمامكم اليوم ؟ ) واليوم يمكن أن يتكرر هذا التحدي الذي كان لإسرائيل ، لأن الشرائع التي أعطاها الرب لشعبه قديما هي شرائع أحكم وأفضل ، وخيرة أكثر من شرائع أرقى ممالك الأرض ، كما أن شرائع الأمم الأخرى موسومة بضعفات القلب الغير المتجدد وشهوانتيه ، أما شريعة الله فتحمل طابع الألوهية . AA 413.3

( وأنتم قد أخذكم الرب وأخرجكم من كور الحديد ... لكي تكونوا له شعب ميراث ( (تثنية 4 : 10 ، 7 ، 8 ، 20) إن الأرض التي كانوا موشكين أن يدخلوها ، والتي ستكون ملكا لهم على شرط طاعتهم لشريعة الله وصفت لهم وصفا جميلا — وما كان أشد تأثير هذا الكلام في قلوب بني إسرائيل وهم يذكرون أن ذاك الذي كان يصور لهم تلك الأرض الجيدة بحماسة عظيمة ، كان قد حرم عليه مشاركتهم في ميراث شعب الله بسبب خطيتهم . AA 414.1

)لأن الرب إلهلك آت بك إلى أرض جيدة ( ) ليست مثل أرض مصر التي خرجت منها ، حيث كنت تزرع زرعك وتسقيه برجلك كبستان بقول . بل الأرض التي أنتم عابرون إليها لكي تمتلكوها ، هي أرض جبال وبقاع . من مطر السماء تشرب ماء ( أرض أنهار من عيون ، وغمار تنبع في البقاع والجبال . أرض حنطة وشعير وكرم وتين ورمان . أرض زيتون زيت ، وعسل . أرض ليس بالمسكنة تأكل فيها خبزا ، ولا يعوزك فيها شيء . أرض حجارتها حديد ، ومن جبالها تحفز نحاسا ( ( أرض يعتني بها الرب إلهك . عينا الرب إلهك عليها دائما من أول السنة إلى آخرها ( (تثنية 8 : 7 — 9 ، 11 : 10 — 12) . AA 414.2

( ومتى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي حلف لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيك ، إلى مدن عظيمة جيدة لم تبنها ، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها ، وأبار محفورة لم تحفرها ، وكروم وزيتون لم تغرسها ، وأكلت وشبعت ، فاحترز لئلا تنسى الرب ( . ( احترزوا من أن تنسوا عهد الرب إلهكم .. لأن الرب إلهك هو نار آكلة . إله غيور ( وإذا عملو الشر في عيني الرب قال لهم موسى : ( تبيدون سريعا عن الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها ) (تثنية 6 : 10 — 12 ، 4 : 23 — 26) . AA 414.3

فبعدما تلا موسى الشريعة علنا على الشعب أكمل كتابة كل الشرائع والوصايا والأحكام التي قد أعطاه الرب إياها وكل النظم الخاصة بالذبائح . والسفر المحتوي على هذه الأمور سلم إلى أيدي القادة المسؤولين ، ولكي يحفظ جيدا وضع في جانب التابوت . ولكن ذلك القائد العظيم كان لا يزال يخشى لئلا يترك الشعب الرب ويبتعدوا عنه . ففي أروع خطاب مؤثر عدد لهم البركات التي يمكنهم امتلاكها لو أطاعوا ، واللعنات التي ستجيء في أذيال العصيان فقال : AA 414.4

( إن سمعت سمعا لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم ... مباركا تكون في المدينة ، ومباركا تكون في الحقل ) في ( ثمرة بطنك وثمرة أرضك وثمرة بهائمك... مباركة تكون سلتك ومعجبنك . مباركا تكون في دخولك ، ومباركا تكون في خروجك . يجعل الرب أعدائك القائمين عليك منهزمين أمامك . في طريق واحدة يخرجون عليك ، وفي سبع طرق يهربون أمامك . .. يأمر لك الرب بالبركة في خزائنك وفي كل ما تمتدإليه يدك ) (انظر تثنية 28) . AA 415.1

( ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم ، تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك .. وتكون دهشا ومثلا وهزأة في جميع الشعوب الذين يسوقك الرب إليهم .. ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها ، وتعبد هناك آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك ، من خشب وحجر . وفي تلك الأمم لا تطمئن ولا يكون قرار لقدمك ، بل يعطيك الرب هناك قلبا مرتجفا وكلال العينين وذبول النفس . وتكون حياتك معلقة قدامك ، وترتعب ليلا ونهارا ولا تأمن على حياتك . في الصباح تقول : يا ليته المساء ، وفي المساء تقول : يا ليته الصباح ، من ارتعاب قلبك الذي ترتعب ، ومن منظر عينيك الذي تنظر ) . AA 415.2

إن موسى إذ حل عليه روح الوحي ونظر ما سيحدث عبر الأجيال قدم صورة رهيبة لسقوط إسرائيل كأمة نهائيا ، كما تكلم عن خراب أورشليم بأيدي جيوش الرومان - فقال : ( يجلب الرب عليك أمة من بعيد ، من أقصاء الأرض كما يطير النسر ، أمة لا تفهم لسانها ، أمة جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد ) . AA 415.3

هذا وإن الخراب الشامل الذي كان سيعم البلاد والآلام الرهيبة التي كانت لتحل بالشعب في أثناء حصار أورشليم تحت قيادة تيطس القائد الروماني بعد ذلك بقرون . كل ذلك صور ووصف بكل جلاء حيث يقول : ( فتأكل ثمرة بهائمك وثمرة أرضك حتى تهلك ... وتحاصرك في جميع أبوابك حتى تهبط أسوارك الشامخة الحصينة التي أنت تثق بها في كل أرضك ... فتأكل ثمرة بطنك ، لحكم بنيك وبناتك الذين أعطاء الرب إلهك في الحصار والضيقة التي يضايقك بها عدوك ) ثم يقول ( والمرأة المتنعمة فيك والمترفهة التي لم تجرب أن تضع أسفل قدمها على الأرض للتنعم والترفه ، تبخل عينها على رجل حضنها ... وبأولادها الذين تلدهم ، لأنها تأكلهم سرا في عوز كل شيء ، في الحصار والضيقة التي يضايقك بها عدوك في أبوابك ) . AA 415.4

وقد اختتم موسى حديثه بهذه الكلمات المؤثرة : ( أشهد عليكم اليوم السماء والأرض . قد جعلت قدامك الحياة والموت . البركة واللعنة . فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك . إذ تحب الرب إلهك وتسمع لصوته وتلتصق به ، لأنه هو حياتك والذي يطيل أيامك لكي تسكن على الأرض التي حلف الرب لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيهم إياها ) (تثنية 30 : 19 ، 20) . AA 416.1

ولكي يطبع القائد العظيم هذه الحقائق أعمق في أذهناهم وضعها في نشيد مقدس ، ولم يكن هذا النشيد تاريخيا فقط بل نبويا أيضا . ففي حين سرد معاملات الله المجيبة لشعبه في الماضي فقد سبق أيضا فأنبأهم بالحوادث العظيمة التي ستحدث في المستقبل ، والنصرة الأخيرة للأمناء حين يجيء المسيح في مجيئه الثاني بقوة ومجد كثير . وقد أوصى الشعب أن يحفظوا عن ظهر قلب هذا التاريخ المنظوم وأن يعلموه لأولادهم وأولاد أولادهم . وكان على الشعب أن يتغنوا به حين يجتمعون معا للعبادة ، وأن يرددوه وهم ذاهب إلى عملهم اليومي . وكان واجبا على الآباء أن يطبعوا هذه الكلمات على أذهان أولادهم السريعة التأثر لكي لا تنسى أبدا . AA 416.2

وحيث أن الإسرائليين كانوا بمعنى خاص حراسا ومهيمنين على شريعة الله ، فإن معنى الوصايا وأهمية الطاعة لها كان لا بد أن يطبعا على عقولهم بكيفية خاصة ، وعلى عقول أولادهم وأولاد أولادهم بواسطتهم . وقد علمهم الرب بخصوص شرائعه قائلا : ( وقصها على أولادك ، وتكلم بها حين تجلس في بيتك ، وحين تمشي في الطريق ، وحين تنام وحين تقوم ... واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك ) (تثنية 6 : 7 — 9) . AA 416.3

وحين يسألهم أولادهم في السنين القادمة قائلين : ( ما هي الشهادات والفرائض والأحكام التي أوصاكم بها الرب إلهنا ؟ ) فعلى الآباء في هذه الحالة أن يرددوا على مسامع أولادهم تاريخ معاملات الله الصالحة والرحيمة لهم ، وكيف صنع لهم الرب خلاصا حتى يطيعوا شريعته ، وأن يعلنوا لهم قائلين: ( فأمرنا الرب أن نعمل جميع هذه الفرائض ونتقي الرب إلهنا ، ليكون لنا خير كل الأيام ، ويستبقينا كما في هذا اليوم . وإنه يكون لنا بر إذا حفظنا جميع هذه الوصايا لنعملها أمام الرب إلهنا كما أوصانا ) (تثنية 6 : 20 — 25) . AA 416.4

* * * * *