الاباء والانبياء

43/75

الفصل الحادي والأربعون—الارتداد عن الأردن

عادت جيوش إسرائيل المنتصرة من باشان بقلوب تفيض فرحا وإيمانا مجددا بالله ، وها هم قد امتلكوا أرضا لها قيمتها ، فكانوا واثقين من أنهم يفتتحون كنعان سريعا . لم يكن بينهم وبين أرض الموعد غير نهر الأردن . وقد امتد عبر النهر سهل خصيب تكسوه الخضرة وتسقيه جداول تجري من ينابيع غزيرة المياه ، وتكاثرت فيه أشجار النخيل الظليلة . وعند التخم الغربي لذلك السهل ارتفعت أبراج مدينة أريحا وقصورها التي كانت تحتضنها أحراش النخيل حتى لقد سميت تلك المدينة ( مدينة النخل ) . AA 402.1

وعلى الجانب الشرقي للأردن بين النهر والسهل المرتفع الذي عبروه كان سهل آخر فسيح مسافته أميال عدة ، ويمتد لمسافة بمحاذاة النهر . هذا الوادي المستور كان مناخه كالمناطق الاستوائية وكانت تنمو فيه أشجار الشطيم أو السنط حتى لقد دعى ذلك السهل ( وادي شطيم ) . في هذا المكان عسكر الإسرائليون . وفي وسط أحراش السنط التي على جانب النهر وجد الشعب ملاذا مناسبا . AA 402.2

ولكن في وسط تلك البيئة الجميلة الجذابة كان يكمن لهم شر مخيف قتال أرهب من الجيوش الجرارة المسلحة وأفتك من وحوش البرية . فتلك البلاد التي كانت غنية بالمميزات الطبيبعة كان سكانها قد نجسوها . ففي العبادة الجهارية للبعل الذي كان أعظم آلهتهم كانت تمارس باستمرار أحط الممارسات والمناظر الآثمة . وفي كل مكان كانت أماكن لعبادة الأوثان والخلاعة ، حتى أن مجرد أسمائها توحي بخسة الشعب وفسادهم . AA 402.3

هذه البيئة كان لها تاثير مفسد في الإسرائليين ، لقد أصبحت عقولهم معتادة الأفكار الشريرة التي هاجمتهم باستمرار . ثم أن حياتهم التي كانت حياة الراحة والبطالة كانت AA 402.4

لها آثارها المفسدة للأخلاق . وبدون أن يشعروا بدأو يرتدون عن الله ، ووصلوا إلى حالة جعلتهم فريسة سهلة للتجربة . AA 403.1

وإذ كانوا حالين إلى جوار الأردن كان موسى يعد العدة لاحتلال كنعان ، وكان ذلك القائد العظيم مشغولا في عمله إلى أقصى حد. أما الشعب فقد كان هذا الوقت لهم وقت ترقب وانتظار ، وكان ذلك صعبا عليهم جدا . وقبل مرور أسابيع كثيرة تلطخ تاريخ ذلك الشعب بأفظع ارتداد عن مناهج الفضيلة والاستقامة . AA 403.2

في بادئ الأمر لم يكن ثم اختلاط كثير بين الإسرائليين وجيرانهم الوثنيين ، ولكن بعد قليل بدأت نساء مديان يتسللن بهدوء داخل محلة العبرانيين ولم يثر ظهورهن أي فزع في قلوب الإسرائليين ، وهكذا أعددن خططهم بكل هدوء بحيث لم يحلظهن موسى . وكانت غاية أولئك النسوة من اختلاطهن بالعبرنايين أن يغررن بهن حتى يتعدوا شريعة الله ، ويجتذبن انتباههم إلى الطقوس والعادات الوثنية ويحدرنهم إلى عبادة الأوثان . وقد أخفين هذه الأغراض بكل حرص ومهارة تحت قناع الصداقة ، فلم يكتشف تلك النوايا أحد حتى ولا حراس الشعب أنفسهم . AA 403.3

وبناء على اقتراح أدلى به بلعام أمر ملك موآب بإقامة عيد عظيم تكريما لآلهتهم . وقد اتفق بينهم سرا أن يستميل بلعام الإسرائليين لحضور ذلك العيد . وكان بنو إسرائيل يعتبرونه نبيا لله ، ولذلك فلم يجد صعوبة كبرى في استمالتهم . قد انضمت إليه جماهير غفيرة من الشعب لمشاهدة تلك الاحتفالات . لقد تجرأو فدخلوا الأرض الحرام فأمسكوا في شرك الشيطان . فإذ استهوتهم الموسيقى والرقص وبهرهم جمال العذارى الوثنيات طرحوا عنهم ولاءهم للرب . فلما اشتركوا مع الوثنيين في الطرب والمرح والولائم فإن انغماسهم في شرب الخمر أظلم حواسهم وأسقط حصون ضبط النفس فسيطرت الشهوات عليهم . وبعد ما تنجست ضمائرهم بالدعارة أقنعهم الوثنيون بالسجود للأوثان ، فقدموا ذبائحهم على المذابح الوثنية واشتركوا في أحط الطقوس . AA 403.4

وسرعان ما انتشر السم كوبأ قتال فتاك في كل محلة إسرائيل . فأولئك الذين كانوا يدريدون أن يقهروا أعداءهم غلبتهم مكايد النساء الوثنيات . وقد بدا كأن الشعب قد سلبت منهم عقولهم ، فالرؤساء والمتقدمون بين الشعب كانوا في طليعة من تعدوا ، وكثيرون جدا من الشعب أخطأو حتى لقد شمل الارتداد الأمة كلها ، ( وتعلق إسرائيل ببعل فغور ) (انظر سفر العدد 25) وحين تحرك موسى ليرى ذلك الشر كانت مؤامرات أعدائهم قد نجحت جدا بحيث أن الإسرائليين لم يكتفوا بالتردي في العبادة الخليعة في جبل فغور ، بل جعلوا الطقوس الوثنية تتسلل إلى محلة إسرائيل وتمارس هناك . فامتلأ ذلك القائد الشيخ غضبا كما اشتعل غضب الله عليهم . AA 403.5

إن الممارسات الآثمة أوقعت على إسرائيل الشرور التي لم يستطع بلعام بكل سحره وعرافته أن يوقعها عليهم فقد فصلت الشعب عن الله وبسبب الضربات السريعة المفاجئة استيقظ الشعب من سكرتهم ليروا هول الخطيتهم ، إذ تفشى وبأ فتاك رهيب في المحلة حصد أرواح ربوات من الشعب . كام أمر الرب القضاة أن يقتلوا أولئك الذين كانوا في طليعة المرتدين . فنفذ الأمر بسرعة لقد قتل المجرمون وعلقت جثتهم عالية أمام عيون كل إسرائيل ، حتى حين ترى تلك الجماعة أولئك القادة يعاملون بمنتهى القسوة ينشأ فيهم إحساس عميق بكراهة الله لخطيتهم وغضبه المريع عليهم . AA 404.1

وقد أحس الجميع بعدالة القصاص فأسرع الشعب إلى خيمة الاجتماع باكين ومتذللين واعترفوا بخطيتهم . وفيما كانوا نائحين وباكين أمام الله عند باب الخيمة ، وإذ كان الوبأ لا يزال يعمل عمله المهلك ، وفيما كان القضاة ينفذون تلك المهمة الرهيبة جاء زمري ابن أحد أشراف إسرائيل ، وبكل جرأة واستهانة دخل إلى المحلة تصبحه امرأة مديانية عاهرة كانت بنت ( رئيس قبائل بيت أب في مديان ) وأدخلها إلى خيمته . فهذه الرذيلة تدل على منتهى الوقاحة والعناد ، لأن زمري إذ ألهبت الخمر قلبه بالشهوة ( أعلن إثمه كسدوم ) وكان مجده في خزيه . لقد خر الكهنة والرؤساء في حزن وتذلل باكين )بين الرواق والمذبح( وهم يتوسلون إلى الرب أن يبقي على شعبه ولا يسلم ميراثه للعار ، في نفس الوقت الذي كان فيه ذلك الرئيس الإسرائيلي يتفاخر متباهيا بخطيته على مرأى من كل الجماعة كأنما يتحدى نقمة الله ويسخر من قضاة الأمة . ولكن فينحاس بن ألعازار رئيس الكهنة قام من بين الجماعة وأمسك برمحه ، ) ودخل وراء الرجل الإسرائيلي إلى القبة وطعن كليهما ( فامتنع الوبأ . أما ذلك الكاهن الذي نفذ حكم الله فقد أكرم أمام كل إسرائيل وتثبت الكهنوت له ولبيته إلى الأبد . AA 404.2

وهذه هي الرسالة الإلهية : ( فينحاس بن ألعازار بن هارون الكاهن قد رد سخطي عن بني إسرائيل .. لذلك قل : هأنذا أعطيه ميثاقي ميثاق السلام ، فيكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدي ، لأجل أنه غار لله وكفر عن بني إسرائيل ) . AA 404.3

إن الأحكام التي افتقدت بها خطية إسرائيل في شطيم أهلكت كل من كانوا لا يزالون أحياء من تلك الجماعة العظيمة الذين من حوالي أربعين سنة خلت جلبوا على أنفسهم حكم الله القائل : ( إنهم يموتون في البرية ) هذا ، وإن إحصاء الشعب بناء على أمر الله في أثناء حلولهم في سهول الأردن برهن على أنه ( لم يكن إنسان من الذين عدهم موسى وهارون الكاهن حين عدا بني إسرائيل في برية سيناء .. فلم يبق منهم إنسان إلا كالب بن يفنة ويسوع بن نون ) (عدد 26 : 64 ، 65) . AA 405.1

لقد أوقع الله قصاصه على إسرائيل لأنهم انغلبوا أمام غوايات المديانيين . أما من جربوهم ليرتكبوا الشر فما كان لهم أن يفلتوا من غضب الله العادل . إن العمالقة الذين كانوا قد هجموا على إسرائيل في رفيديم إذ سقطوا على من كانوا معيين ومستضعفين خلف الشعب لم ينتقم منهم إلا بعد مرور وقت طويل . ولكن المديانيين الذين غرروا بهم وأوقعوهم في الخطية كان لا بد لهم من أن يحسوا بهول ضربات الله لأنهم كانوا أخطر الأعداء . فلقد قال الله لموسى ، ( انتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين ، ثم تضم إلى قومك ) (انظر سفرر العدد 31) وقد نفذ هذا الأمر في الحال . فاختير من بين ألوف إسرائيل ألف من كل سبط تحت قيادة فينحاس . ( فتجندوا على مديان كما أمر الرب وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم : أوي وراقم وصور حور ورابع . خمسة ملوك مديان . وبلعام بن بعور قتلوه بالسيف ) والنساء اللواتي أسرهن الجيش المهاجم قتلن بأمر موسى لأنهم كن أشد أعداء إسرائيل إثما وخطرا . AA 405.2

هذا هو المصير الذي صار إليه أولئك الذين فكروا في معاكسة شعب الله . يقول المرنم : ( تورطت الأمم في الحفرة التي عملوها . في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم ) (مزمور 9 : 15) ( لأن الرب لا يرفض شبعه ، ولايترك ميراثه . لأنه إلى العدل يرجع القضاء ) وحينما الأشرار ( يزدحمون على نفس الصديق ) فالرب : ( يرد عليهم إثمهم ، وبشرهم يفنيهم ) (مزمور 94 : 14 ، 15 ، 21 ، 23) . AA 405.3

إن بلعام حين استدعي ليلعن العبرانيين لم يستطع بكل رقاه وتعاويذه أن يوقع بهم شرا لأن الرب : ( لم يبصبر إثما في يعقوب ، ولا رأى تعبا في إسرائيل ) (عدد 23 : 21 ، 23) . ولكن إذ تعدوا شريعة الله بانهزامهم أمام التجربة تركتهم قوة الله الحافظة الواقية . إن شعب الله ما داموا أمناء في حفظ وصاياه فإنه ، ( ليس عيافة على يعقوب ، ولا عرافة على إسرائيل ) ولهذا فالشيطان يبذل كل ما في طوقه من قوة ودهاء لإيقاعهم في الخطية . فإذ كان أولئك الذين يدعون أنهم استؤمنوا على شريعة الله يتعدون وصاياه فإنهم ينفصلوا عن الله ولن يستطيعوا الصمود أمام أعدائهم . AA 405.4

والإسرائيليون الذين لا يمكن التغلب عليهم بقوة السلاح أو بعرافة مديان سقطوا فرائس أمام نسائها العاهرات . هذه هي قوة المرأة التي إذ تتطوع لخدمة الشيطان فهي تستخدم تلك القوة لأخذ النفوس في أشراكها وإهلاكها . ( لأنها طرحت كثيرين جرحى ، وكل قتلاها أقوياء ) (أمثال 7 : 26) بهذه الكيفية أيضا أغوى بنو شيث فانحرفوا عن طريق الاستقامة وفسد النسل المقدس ، وهكذا جرب يوسف أيضا ، وكذلك أفشى شمشون سر قوته التي كانت حصنا للدفاع عن إسرائيل فقوع بين أيدي الفلسطينيين . وهنا عثر داود وسليمان الذي كان أحكم الملوك والذي قيل عنه ثلاث مرات أنه محبوب من إلهه. هذا الملك صار عبدا للشهوة وضحى باستقامته من أجل نفس تلك القوة الساحرة . AA 406.1

( فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالا ، وكتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور . إذا من يظن أنه قائم ، فلينظر أن لا يسقط ) (1كورنثوس 10 : 11 ، 12) . إن الشيطان يعرف جيدا المادة التي يستعملها في القلب البشري . إنه يعرف لأنه قد درس بكل مهارته وخبرته الجهنمية طوال آلاف السنين نقط الضعف التي يمكنه بسهولة أن يهاجم منها أخلاق كل إنسان . وعمل طيلة الأجيال المتعاقبة على إسقاط أقوى الرجال الذين كانوا رؤساء في إسرائيل بنفس التجارب التي نجحت في بعل فغور . وعلى مدى الأجيال تناثرت وتراكمت حطام الأخلاق التي قد تحطمت على صخور الشهوات . وإذ ندنو من نهاية الزمن ، وإذ يقف شعب الله على تخوم كنعان السماوية فالشيطان سيبذل جهودا مضاعفة كما فعل قديما ليحول بينهم وبين الدخول إلى الأرض الجيدة . إنه ينصب أشراكه لكل نفس . فليس الجهلاء أو العديمو العلم هم وحدهم الذين يحتاجون إلى أن يتحرزوا لأنفسهم ويسهروا عليها . إنه يعد تجاربه لأولئك الذين هم في أسمى المناصب وأقدس المراكز لعله يطغيهم حتى ينجسوا أرواحهم ، وعن طريقهم يهلك كثيرين . وهو الآن يستخدم نفس الوسائل التي قد استخدمها منذ ثلاثة آلاف سنة خلت . فبواسطة الصداقات العالمية وسحر الجمال والبحث عن السرور والمرح والولائم وكؤوس الخمر يجرب الشيطان الناس ليكسروا الوصية السابعة . AA 406.2

لقد أغوى الشيطان إسرائيل لارتكاب الدعارة قبلما قادهم إلى عباة الأوثان . فأولئك الذين يهينون صورة الله ويدنوسون هيكله في أشخاصهم لن يروا ضيرا في إهانة الله ليشبعوا شهوات قلوبهم الفاسدة . إن المماراسات الشهوانية تضعف العقل وتحط النفس ، وإن القوى الأدبية والذهنية يخدرها ويشل حركتها إشباع الأميال الحيوانية . وإنه لمن المستحيل على من كان عبدا للشهوات أن يتحقق التزماته المقدسة لشريعة الله أو يقدر الكفارة ، أو يقدر النفس حق قدرها . إن الصلاح والطهارة والحق وتوقير الله ومحبة كل ما هو مقدس - كل تلك العواطف المقدسة والرغائب النبيلة التي تربط النفس بالعالم السمواي تحترق وتتلاشى في نار الشهوات . وحينئذ تمسي النفس خرابا مسودا موحشا ومسكنا للأرواح الشريرة ( ومحرسا لكل طائر نجس وممقوت ) فالخلائق المجبولة على صورة الله انحدرت وانحطت إلى مستوى الوحوش . AA 407.1

إن اختلاط العبرانيين بعبدة الأوثان واشتراكهم معهم في ولائمهم ساقهم إلى تعدي شريعة الله ، وأوقع قضاء الله ودينونته على الأمة . كذلك الآن حين يختلط أتباع المسيح بالأشرار ويشاركونهم في ملاهيهم يصيب الشيطان أعظم نجاح في إغوائهم لارتكاب الخطية ( اخرجوا من وسطهم واعتزلوا ، يقول الرب . ولا تمسوا نجسا فأقبلكم ) (2 كورنثوس 6 : 17) . إن الله يطلب من شعبه أن يكون بينهم وبين العالم فارق كبير في المعاملات والعادات والمبادئ كما طلب من إسرائيل قديما ، فإذا كان شعب الرب يتبعون تعاليم كتابه بكل أمانة فسيظل هذا الفارق قائما ولن يكون الواقع عكس ذلك . إن تحذيرات الله التي أرسلها للعبرانيين بأن عدم مشاكلة الوثنيين لم تكن مباشرة ولا أكثر صراحة ووضوحا من التحذيرات التي تنهى المسيحيين عن مشاكلة روح الأشرار وعاداتهم . فالمسيح يخاطبنا قائلا : ( لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم . إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب ) (1 يوحنا 2 : 15) ، ( إن محبة العالم عداوة لله ؟ فمن أراد أن يكون محبا للعالم ، فقد صارا عدوا لله ) (يعقوب 4 : 4) . لذا يجب على أتباع المسيح أن ينفصلوا عن الخطاة ، وأن يختاروا صحبتهم فقط حين تكون لديهم فرصة ليعملوا معهم خيرا . إننا لن نكون مغالين في عزمنا على تجنب معاشرة أولئك الذين يبذلون ما في طوقهم لإبعادنا عن الله وحين نصلي قائلين : ( لا تدخلنا في تجربة ) علنا أن نتحاشى التجربة بقدر المستطاع . AA 407.2

إن الإسرائيليين إذ كانوا في حالة راحة وطمأنينة خارجية سقطوا في الخطية . لقد فشلوا في أن يجعلوا الله نصب عيونهم على الدوام فأهملوا الصلاة واحتضنوا في قلوبهم روح الثقة بالنفس . إن الراحة والانغماس في التمتعات جعلتهم يتركون قلعة النفس دون حراسة فتسللت إليهم الأفكار الحقيرة المنحطة . إن الأعداء الذين كانوا داخل الأسوار هم الذين أسقطوا معاقل المبادئ القويمة وحصونها المنيعة وأوقعوا إسرائيل في يد الشيطان . وبهذه الكيفية يتآمر إبليس على إهلاك النفس . إن عملية تمهيدية طويلة وغير معروفة لدى العالم تعمل عملها في قلب المسيحي قبلما يرتكب الخطية علنا . إن العقبل لا ينحط في الحال من الطهارة والقداسة إلى الفساد والنجاسة والجريمة . بل يحتاج الأمر إلى وقت طويل لتجريد أولئك المخلوقين على صورة الله من كرامتهم ، وإنزالهم من مقامهم ليكونوا في صورة الوحوش أو الشياطين . إننا نتغير بالمشاهدة . والإنسان بانغماسه في أفكاره النجسة يحاول تدريب عقله بحيث أن الخطية التي كان يشمئز منها قبلا ستصير شيئا مسرا له . AA 408.1

إن الشيطان دائب في استخدام كل وسيلة لجعل الجرائم والرذائل التي تحط من قدر الإنسان أمرا متفشيا بين الناس . فأينما سرنا في شوارع مدننا تصدمنا إعلانات ضخمة تعلن عن جرائم تقدم في رواية من الرويات أو تمثل في دور الملاهي ، ولهاذا يتدرب العقل على أن تكون الخطية مألوفة لديه . إن المسلك الشائن الذي يتابع السير في الناس الفاسدون المنحطون يراه الناس ويقرأون عنه في الصحف والمجلات الدورية ، وكل ما يثير الشهوات يعرض عليهم في القصص المثيرة . إنهم يسمعون ويقرأون كثيرا عن الجرائم الفاضحة حتى أن الضمير الذي كان قبلا رقيقا وكان يتراجع ذعرا مما يرى ويسمع ، يتقسى ، فيقبل الناس على تلك الأمور القبيحة بشغف عظيم . AA 408.2

إن كثيرا من أسباب الترفيه والتسلية الشائعة في العالم اليوم ، حتى لدى من يدعون أنفسهم مسيحيين تنتهي إلى نفس النهاية التي انتهت إليها تسليات الوثنيين . نعم إن قليلا من تلك الملاهي لا يعتبرها الشيطان ذات شأن في إهلاك النفوس إلا أنه ولمدة أجيال طويلة بذل قصاراه في تمثيلية إثارة الشهوات وتمجيد الرذيلة . فدور التمثيل بمناظرها الخلابة وموسيقاها المدهشة ، والحفلات التنكرية والمراقص وموائد القمار — كل هذه يستخدمها الشطيان لينقض حواجز المبادئ القويمة ويفتح الباب على سعته للانغماس في الشهوات . وفي كل اجتماع يعقد للسمر حيث تسود الكبرياء وينغمس الناس في الشهوات وينساق الإنسان إلى نسيان الله وإغفال صالحه الأبدي ، هناك يحكم الشطيان وثاقه حول النفس ويستعبدها . AA 408.3

والحكيم ينصحنا قائلا : ( فوق كل تحفظ احفظ قلبك ، لأن منه مخارج الحياة ) (أمثال 4 : 23) لأن الإنسان ( كما شعر في نفسه هكذا هو ) (أمثال 23 : 7) ينبغي أن يتجدد القلب بنعمة الله ، وإلا فعبثا يحاول الإنسان الحصول على طهارة الحياة . إن من يحاول أن يبني لنفسه خلقا نبيلا وفاضلا مستقلا عن نعمة المسيح إنما يبني بيته على الرمل . وأمام عنف عواصف التجارب لا بد من أن يسقط . إن صلاة داود التي قدمها لله ينبغي لكل نفس أن تقدمها : ( قلبا نقيا فيّ يا الله ، وروحا مستقيما جدد في داخلي) (مزمور 51 : 10) . وإذ نصير شركاء في هذه الهبة السماوية نتقدم إلى الكمال حيث أننا ( بقوة الله محروسون ، بإيمان ) (1 بطرس 1 : 5) . AA 409.1

ومع ذلك فإن علينا عملا نعمله لمقاومة التجربة . إن من لا يريدون أن يسقطوا فرائس لمكائد الشطيان عليهم أن يحرسوا مداخل النفس حراسة مشددة وعليهم أن تيجنبوا قراءة أو مشاهدة أو سماع أي شيء يقود النفس إلى الأفكار النجسة . ينبغي ألا يطلق العنان للعقل ليهيم من غير تدبر في مجاهل الأفكار التي يقترحها عليه عدو النفوس . إن بطرس الرسول يقول : ( لذلك منطقوا أحقاء ذهنكم صاحين .. لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم ، بل نظير القدوس الذي دعاكم ، كونوا أنتم أيضا قديسين في كل سيرة ) (1 بطرس 1 : 13 — 15) . وبولس الرسول يقول : ( كل ما هو حق ، كل ما هو جليل ، كل ما هو عادل ، كل ما هو طاهر ، كل ما هو مسر ، كل ما صيته حسن ، إن كانت فضيلة وإن كان مدح ، ففي هذه افتكروا ) (فيليبي 4 : 8) . لا شك في أن هذا يتطلب صلاة حارة وسهرا دائما . كما أنه ينبغي لنا أن نستعين بقوة الروح القدس الساكن فينا ، تلك القوة التي تسمو بالعقل إلى الأعالي وتعوده التفكير في الأشياء الطاهرة المقدسة . كذلذك علينا أن ندرس كلمة بكل اجتهاد ( بم يزكي الشاب طريقه ؟ بحفظه إياه حسب كلاكمك ) وكما يقول المرنم : ( خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطئ إليك ) (مزمور 119 : 9 ، 11) . AA 409.2

إن خطية إسرائيل عند بعل فغور جلبت على الأمة ضربات الله . مع أن نفس هذه الخطايا التي ترتكب في هذه الأيام لا تنال جزاءها السريع كتلك ، غير أنه لا بد من قصاص في النهاية ( إن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله ) (1 كورنثوس 3 : 17) . إن الطبيعة قد ربطت بين هذه عاجلا أو آجلا . إن هذه الخطايا أكثر من باقي الخطايا الأخرى هي التي سببت الانحطاط المريع لجنسنا ، وأثقال المرضى والتعاسة التي صارت لعنة على العالم . قد يفلح الناس في إخفاء خطاياهم من عيون بني جنسهم ، ومع ذلك فلا بد من أن يحصدوا النتيجة بما يصيبهم من الآلام أو الأمراض أو البلاهة أو الموت . وبعد هذه الحياة سينصب عرش الدينونة ويحكم الديان بالقصاص الأبدي . ( الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله ) بل مع الشيطان والملائكة الأشرار سيكون نصيبهم في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت الذي هو الموت الثاني (غلاطية 5 : 21 ، رؤيا 20 : 14) . AA 410.1

( لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلا ، وحنكها أنعم من الزيت ، ولكن عاقبتها مرة كالأفسنتين ، حادة كسيف ذي حدين ) (أمثال 5 : 3 ، 4) . ( أبعد طريقك عنها ، ولا تقرب إلى باب بيتها ، لئلا تعطي زهرك لآخرين ، وسنينك للقاسي . لئلا تشبع الأجانب من قوتك ، وتكون أتعابك في بيت غريب . فتنوح في أواخرك ، عند فناء لحمك وجسمك ) (أمثال 5 : 8 — 18) . ( لأن بيتها يسوخ إلى الموت ... كل من دخل إليها لا يؤوب ) (أمثال 2 : 18 ، 19) . ( .... وأن في أعماق الهاوية ضيوفها ) (أمثال 9 : 18) . AA 410.2

* * * * *