الأنبياء والملوك
الفصل الأول —سليمان
في إبان حكم داود وسليمان غدت الأمة الإسرائيلية قويةً بين الأمم. كانت لديها فرص كثيرة لتحسن استخدام نفوذها العظيم على أفضل وجه في سبيل الحق والعدل و تمجيد اسم الرب وإكرامه. كان الغرض الذي من أجله استقرّوا في أرض الموعد يبشّر بأنّه سيتمُ. وقد أزيلت الحواجز ولم يرجع من ابتغى الحق من البلدان الوثنية خائباً فاهتدى كثيرون إلى الله واتّسعت كنيسته على الأرض و نجحت. AM 21.1
وقد مُسح سليمان ونُوديَ به ملكاً في أواخر سنين حياة الملك داود أبيه الذي تنازل له عن العرش. وكانت سنواته الأولى مشرقة وتبشّر بالخير. كان قصد الله أن يتقدّم سليمان من قوّة إلى قوّة و من مجد إلى مجد وأن يزداد تشبّهاً بالله مع الوقت. بذلك كان يلهم شعبه لإتمام عهدته المقدّسة بوصفه مستودعاً للحق الإلهي. AM 21.2
وقد أدرك داود أن قصد الله السامي من نحو شعبه يمكن إتمامه على قدر ما يجتهد الحكّام والشعب في الوصول إلى المقياس الموضوع أمامهم بيقظة مستمرّة وسهر متواصل وعرف أنه لكي يقوم ابنه سليمان بواجبه نحو الأمانة كاملاً التي سر الله بأن يكرمه بإسنادها إليه، يتعين على ذلك الملك الشاب ألّا يكون محارباً وجبار بأس وسياسياً وملكاً وحسب، بل عليه أيضاً أن يكون رجلاً قوياً وصالحاً ومعلّماً للبر ومثالاً في الولاء. AM 21.3
التمس داود من سليمان بكل غيرة ولطف أن يكون رجلاً شهماً نبيلاً يعامل رعاياه بالرحمة والرأفة والحنان. وفي كل معاملاته مع أمم الأرض يكرم اسم الله ويمجّده ويظهر جمال القداسة. فالتجارب والاختبارات الكثيرة القاسية التي جاز فيها داود مدى حياته علّمته قيمة الفضائل النبيلة وجعلته يُعلن في وصيّته التي أوصاه بها عند موته قائلاً: ”إذا تسلّط على الناس بار يتسلك بخوف الله. وكنور الصباح إذا أشرقت الشمس. كشعب من الأرض في صباح صحو مضيء غب المطر“ (2 صموئيل 3:23، 4). AM 22.1
يا لها من فرصة ذهبية أُتيحت لسليمان فلو اتّبع وصيّة أبيه التي تلقاها بوحي من الله، لكان ملكه صار ملك البرّ الوارد وصفه في المزمور الثاني والسبعين حيث يقول: ”اللهم أعط أحكامك للملك وبرّك لابن الملك. يدين شعبك بالعدل ومساكينك بالحق .. ينزل مثل المطر على الجزاز ومثل الغيوث الذارفة على الأرض. يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام إلى أن يضمحل القمر. ويملك من البحر إلى البحر و من النهر إلى أقاصي الأرض .. ملوك ترشيش و الجزائر يرسلون تقدمه ملوك سبأ يقدمون هدية. ويسجد له كل الملوك. كل الأمم تتعبد له لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين إذ لامعين له .. ويصلي لأجله دائماً. اليوم كله يباركه .. يكون اسمه الدهر. قدام الشمس يمتد اسمه. ويتباركون به. كل أمم الأرض يطوبونه“. AM 22.2
”مبارك الرب الله الصانع العجائب وحده. ومبارك اسم مجده إلى الدهر ولتمتلئ الأرض كلها من مجده. آمين ثم آمين“ (مزمور 72). AM 22.3
اختار سليمان في شبابه ما اختاره داود أبوه فسار بالاستقامة سنين كثيرة فامتازت حياته بالطاعة الدقيقة لوصايا الله. و في أوائل سني حكمه ذهب مع مشيري حكومته إلى جبعون حيث كانت خيمة الإجتماع التي كانت مقامة في البرية سابقاً وهناك اشترك مع مشيريه المختارين ”رؤساء الألوف والمئات والقضاة و كل رئيس في كل إسرائيل رؤوس الأباء“ (2 أخبار الأيام 2:1). اشتركوا معاً في تقديم محرقات لله وفي تكريس ذواتهم بالتمام لخدمة الرب وإذ سليمان يدرك شيئاً عن جسامة الواجبات المرتبطة بوظيفته كملك علم أن من يحملون أحمالاً ثقيلة عليهم أن يتّجهوا إلى نبع الحكمة في طلب الإرشاد إذا أرادوا أن يضطلعوا بمسؤولياتهم بكيفيّة مقبولة مما حمله على تشجيع مستشاريه للاشتراك معه بكل إخلاص في التأكد من قبولهم لدى الله. AM 22.4
كان الملك يشتاق إلى الحصول على الحكمة والفهم أكثر من أي خير زمني لأجل إتمام العمل الذي قد أوكله الله إليه. كان يشتاق للحصول على سرعة البديهة والقلب الكبير وروح الحنو وتراءى الربُّ لسليمان في حلم في تلك الليلة وقال له: ”اسأل ماذا أُعطيك“. وقد عبّر ذلك الملك الشاب غير المحنك في جوابه عن شعوره بالضعف والعجز واشتياقه إلى المساعدة فقال: ”انك قد فعلت مع عبدك داود أبي رحمة عظيمة حسبما سار أمامك بأمانة وبرّ واستقامة قلب معك فحفظت له هذه الرحمة العظيمة وأعطيته ابناً يجلس على كرسيه كهذا اليوم“. AM 23.1
”والآن أيها الرب إلهي أنت ملكت عبدك مكان داود أبي وأنا فتى صغير لا أعلم الخروج والدخول. وعبدك في وسط شعبك الذي اخترته شعب كثير لا يحصى ويعد من الكثرة فأعط عبدك قلباً فهيماً لأحكم على شعبك وأميّز بين الخير و الشر لأنه من يقدر أن يحكم على شعبك العظيم هذا؟“. AM 23.2
”فحسن الكلام في عيني الرب لأن سليمان سأل هذا الأمر“. ”فقال له الله من أجل أن هذا كان في قلبك ولم تسأل غنى ولا أموالاً ولا كرامة ولا أنفس مبغضيك ولا سألت أياماً كثيرة بل إنما سألت لنفسك حكمة ومعرفة تحكم بهما على شعبي“. ”هوذا قد فعلت حسب كلامك. هوذا أعطيتك قلباً حكيماً و مميزاً .. و قد أعطيتك أيضاُ ما لم تسأله غنى و كرامة“، ”لم يكن مثلها للملوك الذين قبلك ولا يكون مثلها لبعدك“. ”فإن سلكت في طريقي وحفظت فرائضي ووصاياي كمل سلك داود أبوك فإني أطيل أيامك“ (1 ملوك 5:3 — 4، 2 أخبار الأيام 7:1 — 12). AM 24.1
لقد وعد الله سليمان أن يكون معه كما كان من داود فإذا سار الملك باستقامة أمام الرب وأنجز أوامره فإن كرسيه سيكون ثابتاً وسيكون ملكه سبب تعظيم لشعب الله ”كشعب حكيم وفطن“ (تثنية 6:4) ونوراً للأمم المحيطة به. AM 24.2
كشفت اللغة التي استعملها سليمان وهو يصلي إلى الله أمام المذبح القديم في جبعون عن وداعته وشوقه الشديد لإكرام الله. فقد تحقق من أنه من دون معونة الله كان عاجزاً كفتى صغير عن القيام بالمسؤوليات الموكلة إليه. وأدرك أنه يعوزه التمييز وقد قاده الإحساس بحاجته العظمى إلى طلب الحكمة من الله. لم يكن في قلبه أي مطمح أناني في طلب معرفة ترفع من قدره فوق الآخرين. كان يصبو إلى القيام بكل أمانة بالواجبات التي آلت إليه فاختار الهبة التي ستكون سبباً في جعل ملكه ممجداً لله. AM 24.3
لم يكن سليمان قط غنياً أو حكيماً أو عظيماً مثلما كان عندما اعترف قائلاً: ”فتى صغير لا أعلم الخروج والدخول“ (1ملوك 7:3). AM 24.4
يجب على أولئك الذين يشغلون اليوم مراكز ذات مسؤولية السعي في تعلّم الدرس من صلاة سليمان. فعلى قدر ما يكون المركز الذي يشغله الإنسان سامياً ثقلت عليه المسؤولية التي يضطلع بها. وكلّما اتّسع مدى تأثيره عظمت حاجته إلى الإعتماد على الله. عليه أن يذكر دائماً أن الدعوة للعمل ترافقها الدعوة إلى الإعتماد على الله. عليه أن يذكر دائماً أن الدعوة للعمل ترافقها الدعوة للسلوك بتدقيق أمام بنى جنسه وان يقف أمام الله موقف من يريد أن يتعلم. فالمركز لا يكسب الخلق قداسة فالإنسان إذ يكرم الله ويطيع أوامره يمكنه أن يصير عظيماً حقاً. AM 24.5
إن إلهنا الذي نخدمه لا يحابي الوجوه فذاك الذي منح سليمان روح التمييز الحكيم يرغب في منح هذه البركة ذاتها لأولاده اليوم. فكلمته تعلن قائلة: ”وإنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير فسيعطى له“ (يعقوب 5:1). عندما يطلب ذوو المسؤوليات الحكمة أكثر مما يطلبون الغنى أو السلطان أو الشهرة فلن يخيبوا. مثل هؤلاء سيتعلمون من المعلم الأعظم ليس فقط ما يجب عليهم فعله بل كيف يفعلونه بالطريقة التي تظفر باستحسان الله. AM 25.1
الإنسان الذي منحه الله تمييزاً ومقدرة لن يبدي شغفاً للحصول على مركز سام طالما بقي مكرساً لله وهو لن يحاول أن يحكم أو يتسلط. على الناس تحمل التبعات بالضرورة، ولكن الذي هو قائد بالحق سيصلي طالباً الفهم للتمييز بين الخير والشر بدلاً من السعي في طلب السيادة. AM 25.2
الطريق الذي يسير فيه أولئك ليس سهلاً أو ممهداً. عليهم أن يروا في كل صعوبة أو معضلة نداءً للصلاة وألّا يتوانوا في استشارة نبع الحكمة العظيم. فإذا يتقوّون ويستنيرون بالالتجاء إلى المسيح المبدع السيد فذلك يعينهم على الثبات في وجه التأثيرات الشريرة و تمييز الصواب من الخطأ والخير من الشر و يستحسنون ما يستحسنه الله ويجاهدوا بكل غيرة ضد إدخال المبادئ الباطلة إلى دعوته وعمله. AM 25.3
لقد منح الله سليمان الحكمة التي طلبها وفضلها على الغنى والكرامة وطول الأيام وما ألح في طلبه من سرعة بديهة ورحابة قلب وحنو وعطف أعطي له، وأعطى الله سليمان حكمة وفهما كثيراً جداً ورحبة قلب وكالرمل الذي على شاطئ البحر وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر. ”وكان أحكم من جميع الناس.. وكان صيته في جميع الأمم حواليه“ (1 ملوك 29:4 — 31). AM 26.1
”وجميع إسرائيل خافوا الملك لأنهم رأوا حكمة الله فيه لإجراء الحكم“ (1 ملوك 28:3). لقد اتجهت قلوب الشعب إلى سليمان كما اتجهت من قبل إلى داوود فأطاعوه في كل شيء: ”وتشدد سليمان .. على مملكته وكان الرب إلهه معه و عظمه جداً“ (2 أخبار الأيام 1:1). AM 26.2
وعلى مدى سنوات كثيرة تميزت حياة سليمان بالتعبد والتكريس لله والاستقامة والمبدأ الثابت والدقة في إطاعة أوامره. كان هو الموجه في كل مشروع هام وأدار الشؤون التجارية الخاصة بالمملكة بحكمة فائقة. هذا وأن ثروته وحكمته والمباني الفخمة والمشاريع العامة التي أقامها في غضون سنوات حكمه الأولى والنشاط والتقوى والعدل والشهامة التي كشف عنها بالكلام والعمل أكسبته ولاء رعاياه وإعجاب حكّام بلدان كثيرة واكرامهم. AM 26.3
ثم إنه اكرم اسم الرب إكراماً عظيماً إبّان الفترة الأولى من حكمه كما أن الحكمة و العدل اللذين أظهرهما شهدا لكل الأمم بعظمة صفات الإله الذي كان يخدمه. وقد أضاء شعب الله قديماً لبعض الوقت كمشعل وهاج للعالم بإذاعته عظمة الرب. ولم ينحصر مجد الملك سليمان في سنيه الأولى فبحكمته الفائقة أو غناه الذي لا يصدق أو في قوته وسلطانه وشهرته الذائعة، بل في الكرامة التي جلبها لاسم الله بسبب استخدامه الحكيم لهبات السماء. AM 26.4
وإذ مرت السنوات وزادت شهرة سليمان فقد طلب أن يكرم الله بالاستزادة من قوّته الذهنية و الروحية والمداومة على اشراك الآخرين معه في البركات التي حصل عليها. ولم يدرك أحد أفضل منه أن امتلاكه للسلطان والحكمة والفهم مرجعه رضى الرب، وأن هذه الهبات منحت له ليقدم معرفة ملك الملوك أمام كل العالم. AM 27.1
و قد شغف سليمان واهتم اهتماماً خاصاً بالتاريخ الطبيعي إلا أن بحوثه لم تنحصر في أي فرع من فروع العلم بذاته فعن طريق دراسته باجتهاد لكل المخلوقات الحية منها والجمادات حصل على إدراك جلي عن الخالق. ففي قوات الطبيعة وفي المملكة المعدنية والحيوانية وفي كل شجر وشجيرة وزهرة رأى إعلاناً لحكمة الله. وإذ كان يطلب المزيد من العلم فإن معرفته بالله ومحبته له ظلت تتزايد يوماً بعد يوم. AM 27.2
إن حكمة سليمان الموحى إليه بها من الله عبر عنها في أناشيد الحمد وكثير من الأمثال التي كتبها ”تكلم بثلاثة ألاف مثل وكانت نشائده ألفاً وخمساً. وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط. وتكلّم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك“ (1 ملوك 32:4، 33). AM 27.3
وقد لخّص سليمان بأمثاله مبادئ الحياة المقدسة والسعي السامي التي هي وليدة السماء وتقود إلى التقوى بحيث ينبغي أن تسود على كل أعمال الحياة. فالذي جعل سنوات الملك سليمان الأولى تتسم بالسمو الخُلُقي والنجاح المادي هو نشر مثل هذه المبادئ إلى مدى بعيد والاعتراف بالله الذي له وحده يليق الحمد والكرامة والسجود. AM 27.4
وقد كتب يقول: ”طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم لأن تجارتها خير من تجارة الفضّة وربحها خير من الذهب الخالص. هي أثمن من اللآلئ وكل جواهرك لا تساويها. في يمينها طول أيام وفي يسارها الغنى والمجد. طرقها نعم وكل مسالكها سلام. هي شجرة حياة لممسكيها والمتمسك بها مغبوط“ (أمثال 13:3 — 18). AM 28.1
”الحكمة هي الرأس. فاقتن الحكمة وبكل مقتناك أقتن الفهم“. ”رأس الحكمة مخافة الرب“ (أمثال 7:4، مزمور 10:111) ”مخافة الرب بغض الشر. الكبرياء والتعظّم طريق الشر وفم الأكاذيب أبغضت“ (أمثال 13:8). AM 28.2
ليت سليمان تنبّه في سنوات حكمه الأخيرة إلى أقوال هذه الحكمة العجيبة واتّخذ لنفسه منها درساً وعبرة وهو الذي أعلن قائلاً: ”شفاه الحكماء تذر معرفته“ (أمثال 7:15). وهو الذي علّم ملوك الأرض أن يقدّموا لملك الملوك الحمد الذي كانوا يرغبون في تقديمه لحاكم أرضي. وليته لم يتقلّد الكبرياء والتعظّم اللذان فاداه كي ينسب لنفسه المجد الذي لا يليق إلّا بالله وحده. AM 28.3