الأنبياء والملوك
الفصل السابع— يربعام
بعد أن تربّع يربعام الذي كان قبلاً عبداً لسليمان على عرش الأسباط العشرة الذين تمردوا على بيت داود كان في وضع يتيح له فرصة للقيام بإصلاحات في الشؤون المدنية والدينية. وقد أظهر مقدرة واستعداداً عظيمين تحت حكم سليمان. وأهّلته المعرفة التي حصل عليها في خلال سنّي خدمته الأمينة كي يحكم بتعقّل ودراية. ولكن يربعام لم يتّكل على الرب. AM 81.1
فأعظم ما كان يخشاه هو استمالة الملك الجالس على عرش داود في مستقبل الأيام قلوب رعاياه. فأخذ يفكّر قائلاً إنه إذا سمح للأسباط العشرة بزيارات متكرّرة لكرسي المملكة اليهودية القديم حيث ما تزال خدمات الهيكل تقام كما في أيام حكم سليمان، فقد يميل كثيرون لتجديد عهد ولائهم للحكومة التي مركزها أورشليم. فإذ استشار يربعام مشيريه عوّل على أن يضرب ضربة جريئة للتقليل قدر المستطاع من إمكانية قيام ثورة ضدّ حكمه. وهو سينفّذ هذا الأمر بتعيين مركزين للعبادة داخل تخوم مملكته المكوّنة حديثاً، أحدهما في بيت إيل وآخر في دان. وفي هذين المكانين كان يجب أن يدعي الأسباط العشرة للاجتماع، بدلاً من الذهاب إلى أورشليم لعبادة الله. AM 81.2
لقد فكر يربعام أن بتدبيره لهذا التحوّل فهو يلجأ إلى خيال الإسرائيليين بوضعه أمامهم شيئاً منظوراً يرمز إلى حضور الله غير المنظور. لذلك أمر بصنع عجلين من ذهب وضعا في الهيكلين المحددين كمركزين للعبادة. وبهذه المحاولة التي قصد بها يربعام تصوير الله، انتهك أمر الرب الواضح القائل: ”لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً .. لا تسجد لهن ولا تعبدهن“ (خروج 4:2-، 5). AM 81.3
كان يربعام شديد الرغبة في الحيلولة بين العشرة الأسباط والذهاب إلى أورشليم بحيث غاب عن باله الضعف الأساسي في خطته. فهو لم يفكر في الخطر العظيم الذي عرض له الإسرائيليين بوضعه أمامهم تمثالاً لوثني في مكان الله. تلك التماثيل التي كانت مألوفة لدى أسلافهم في أثناء القرون التي كانوا فيها مُستعبدين في مصر. ولا بد أن يربعام تعلم عندما كان يعيش في مصر منذ عهد قريب حماقة وضع مثل هذه التماثيل أمام الشعب. ولكن قصده الذي أصر عليه في إغواء أسباط المملكة الشمالية للانقطاع عن الزيارة السنوية المقدسة قاده إلى أتخاذ مثل هذا الإجراء الذي هو في منتهى الحماقة والغباء. فقال للشعب: ”كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم. هوذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر“ (1 ملوك 28:12). وهكذا أُمروا بالسجود أمام عجل الذهب فقبلوا طقوساً غريبة للعبادة. AM 82.1
وحاول الملك إقناع بعض اللاويين الموجودين في مملكته أن يخدموا بوصفهم كهنة من الهيكلين المقامين حديثاُ في بيت إيل ودان، لكنه أخفق في مسعاه. فاضطر لأن يرفع درجة الكهنوت بعضاً ”من أطراف (أحطّ) الشعب“ (1 ملوك 31:12). فكثيرون من الأمناء من بينهم عدد غفير من اللاويين، إذ أفزعهم هذا المنظر، هربوا إلى أورشليم حيث يمكنهم أن يعبدوا الله وفقاً للمطالب الإلهية. AM 82.2
”وعمل يربعام عيداُ في الشهر الثامن في اليوم الخامس عشر من الشهر كالعيد الذي في يهوذا وأصعد على المذبح. هكذا فعل في بيت إيل بذبحه للعجلين الذين عملهما. وأوقف في بيت إيل كهنة المرتفعات التي عملها“ (1 ملوك 32:12). AM 83.1
إن تحدي الملك الجريء في نبذه للقوانين التي وضعها الله لم يسمح أن يمر دون توبيخ. ففيما كان يخدم ويحرق البخور في أثناء تدشين ذلك المذبح الغريب في بيت إيل، ظهر أمامه رجل الله من مملكة يهوذا مرسلاً إليه لينذره ويشجبه لكونه تجرأ بإدخاله على العبادة طقوساً جديدة. ”فنادى نحو المذبح .. وقال يا مذبح يا مذبح هكذا قال الرب هوذا سيولد لبيت داود ابن اسمه يوشيّا ويذبح عليه كهنة المرتفعات الذين يوقدون عليه وتُحرق عليك عظام الناس“. AM 83.2
”وأعطى في ذلك اليوم علامة قائلاً هذه هي العلامة التي تكلم بها الرب هوذا المذبح ينشق ويذّرى الرماد الذي عليه“. وفي الحال ”انشقّ المذبح وذُرى الرماد من على المذبح حسب العلامة التي أعطاها رجل الله بكلام الرب“ (1 ملوك 2:13، 3، 5). AM 83.3
فإذ رأى يربعام هذا امتلأ قلبه بروح التحدي لله وحاول إيقاف من قدّم تلك الرسالة عند حده. ففي غضبه ”مد يربعام يده عن المذبح قائلاً امسكوه“ فقوبل عمله المتهور بتوبيخ سريع. فيبست يده حالما مدها نحو رسول الرب وصارت عاجزة ولم يستطع ردها ثانية. AM 83.4
وتوسل الملك إذ شمله الرعب إلى النبي كي يتضرع إلى الله لأجله وقال له: ”تضرع إلى وجه الرب إلهك وصلّ من أجلي فترجع يدي إليّ. فتضرّع رجل الله إلى وجه الرب فرجعت يد الملك إليه وكانت كما في الأول“ (1 ملوك 4:13،6). AM 83.5
عبثاً حاول يربعام أن يضفي على تدشين ذلك المذبح الغريب صفة الكرامة أو القداسة أو الاحترام الذي كان القصد منه جلب الاحتقار على عبادة الرب في هيكل أورشليم. كان ممكن أن تقود رسالة النبي ملك إسرائيل إلى التوبة ونبذ أغراضه الشريرة التي كانت ترمي إلى إبعاد الشعب عن العبادة الحقيقية لله. لكنه قسّى قلبه وصمم على اتّباع الطريق الذي اختاره لنفسه. AM 84.1
لم تكن قلوب الشعب في وقت ذلك العيد الذي أقيم في بيت إيل قد تقسّت تماماً. كثيرون كانوا قابلين لتأثير الروح القدس. فقد قصد الرب أن يتوقف الذين كانوا يسيرون نحو الارتداد بخطى سريعة عن متباعة السير قبل فوات الأوان. فأوفد رسوله لإيقاف الإجراءات الوثنية ولإنذار الملك والشعب بعواقب هذا الارتداد. كان انشقاق المذبح علامة سخط الله ضد هذا الرجس الذي يُصنع في وسط الشعب. AM 84.2
يطلب الرب أن يخلص لا أن يُهلك. إنه يسر بخلاص الخُطاة. وهو الذي قال: ”حي أنا يقول السيد الرب إني لا أسر بموت الشرير“ (حزقيال 11:33). فهو يدعوالعصاة بإنذاراته وتوسلاته ليكفوا عن فعل الشر ويرجعوا إليه ليحيوا. إنه يعطي رسله المختارين جرأة مقدسة لكي يخاف سامعوهم ويتوبوا. بأي ثبات وشجاعة وبخ رجل الله الملك. كان هذا الثبات لازماً إذ لم يكن ممكناً أن يوبخ الله الشرور الراهنة توبيخاً فعالاً بغير هذه الوسيلة. لقد أعطى الرب لخادمه جرأة لكي يدوم تأثير رسالته في قلوب السامعين. ينبغي لرسل الرب ألا يخافوا وجه إنسان بل أن يثبتوا إلى جانب الحق بلا وجل. وطالما هم يثقون في الله لا يوجد ما يدعو إلى الخوف لأن ذلك الذي يرسلهم يعطيهم يقين رعايته الحافظة. AM 84.3
بعدما انتهى النبي من تبليغ رسالته كان مزمعاُ على العودة من حيث أتى. وإذ يربعام يقول له: ”ادخل معي إلى البيت وتقوّت فأعطيك أجرة“. فأجابه النبي قائلا: ”لو اعطيتني نصف بيتك لا ادخل معك ولا آكل خبزاً ولا أشرب ماء في هذا الموضع لأني هكذا أُوصيت بكلام الرب قائلاً لا تأكل خبزاً ولا تشرب ماء ولا ترجع في الطريق الذي ذهب فيه“ (1 ملوك 7:13 — 9). AM 85.1
كان خيراً لذلك النبي لو التزم بعزمه للعودة إلى اليهودية بلا إبطاء. فإذ كان عائداُ إلى وطنه من طريق آخر لحق به رجل شيخ ادّعى أنه نبي. وقدم له تقريراً كاذباً يقول فيه: ”أنا أيضاً نبي مثلك وقد كلمني ملاك بكلام الرب قائلاً: ”ارجع به معك إلى بيتك فيأكل خبزاً ويشرب ماء“. فإذ ردد هذه الكذبة مراراً وتكراراً وألح عليه في قبول دعوته اقتنع أخيراً بالعودة معه. AM 85.2
فلكون النبي الحقيقي سمح لنفسه باتّخاذ طريق مغاير لطريق الواجب سمح الله بأن يقع عليه قصاص العصيان. فإذ كان هو والنبي الذي دعاه للعودة إلى بيت إيل جالسين معاً على المائدة حلّ الوحي على النبي الكاذب: ”فصاح إلى الرجل الذي جاء من يهوذا قائلاً هكذا قال الرب من أجل أنّك خالفت قول الرب ولم تحفظ الوصية التي أوصاك بها الرب إلهك .. لا تدخل جثتك قبر آبائك“ (1 ملوك 18:13 — 22). AM 85.3
وسرعان ما تمت هذا النبوة حرفياً إذ يقول الكتاب: ”ثم بعدما أكل خبزاً وبعد أن شرب شد له على الحمار .. وانطلق فصادفه أسد في الطريق وقتله وكانت جثته مطروحة في الطريق والحمار واقف بجانبها والأسد واقف بجانب الجثة. وإذا بقوم يعبرون فرأوا الجثة مطروحة في الطريق .. فأتوا وأخبروا في المدينة التي كان النبي الشيخ ساكناً بها. ولما سمع النبي الذي أرجعه عن الطريق قال هو رجل الله الذي خالف قول الرب“ (1 ملوك 23:13 — 26). AM 85.4
القصاص الذي أصاب الرسول غير الأمين كان برهاناً إضافياً على صدق النبوة التي قيلت على المذبح. فلو أن ذلك النبي سُمح له بالذهاب في طريقه بسلام بعدما خالف كلمة الرب لكان الملك يستخدم هذه الحقيقة محاولاً بها تزكية عصيانه. كان يجب أن يرى يربعام في المذبح الذي انشقّ وذراعه التي يبست، والمصير الرهيب الذي حل بمن تجرّأ على مخالفة أمر الرب الصريح، إن غضب الله السريع يحل على من يهينه. وكان ينبغي أن تكون هذه الأحكام رادعاً ليربعام يمنع من الإصرار في عمل الشر. ولكنه بدلاً من أن يتوب عاد ”فعمل من أطراف الشعب كهنة المرتفعات“. وهكذا لم يكتف بارتكاب خطايا عظيمة بنفسه بل ”جعل إسرائيل يخطئ“، ”وكان من هذا الأمر خطيئة لبيت يربعام وكان لإبادته وخرابه عن وجه الأرض“ (1 ملوك 33:13، 34، 16:14). AM 86.1
أصيب الملك يربعام قرب نهاية حكمه المزعزع الذي دام اثنتين وعشرين سنة، بهزيمة ساحقة في حربه مع أبيّا خليفة رحبعام: ”ولم يقو يربعام بعد في أيام أبيّا فضربه الرب ومات“ (أخبار الأيام 20:13). AM 86.2
الارتداد الذي ابتدأ به حكم يربعام صار ظاهراُ وتوضّحت معالمه تدريجياً حتى انتهى بخراب مملكة إسرائيل خراباً كاملاً. وحتى قبل موت يربعام أعلن أخيّا النبي الشيخ في شيلوه، والذي كان قد تنبأ قبل ذلك بسنوات طويلة، بارتقاء يربعام سدة الملك، قائلاً: ”ويضرب الرب إسرائيل كاهتزاز القصب في الماء. ويستأصل إسرائيل عن هذه الأرض الصالحة التي أعطاها لآبائهم ويبدّدهم إلى عبر النهر لأنهم عملوا سواريهم وأغاظوا الرب. ويدفع إسرائيل من أجل خطايا يربعام الذي أخطأ وجعل إسرائيل يخطئ“ (1 ملوك 15:14، 16). AM 86.3
ومع ذلك فالرب لم يدفع شعبه إلا بعد أن عمل كل ما يمكن عمله لإعادتهم إلى حالة الولاء له. فلمدى سنوات طويلة مظلمة كان يقف ملك بعد آخر يتحدّى إله السماء لإسقاط شعب الله إلى أعماق الوثنية، كان الله يرسل إلى شعبه المرتد رسولاً بعد آخر ويفتقدهم برحمته. وقدم لهم بواسطة أنبيائه كل فرصة ممكنة لوقف تيار الارتداد والرجوع إليه. وفي غضون السنوات التي تلت انقسام المملكة عاش إيليّا وإليشع وخدما وتعبا وكانت دعوات الأنبياء هوشع وعاموس وعوبديا الرقيقة سيرنّ في الأرض صداها. لم تكن مملكة إسرائيلل لتُترك من دون شهود نبلاء على قدرة الله العظيمة للخلاص من الخطيئة. وحتى في أحلك الساعات ظلّ بعض الناس مخلصين أمناء لمليكهم الإلهي، وعاشوا في وسط الوثنية بلا لوم أمام الإله القدوس. هؤلاء حُسبوا ضمن البقية الصالحة الذين كان قصد الله الأزلي سيتم أخيراً عن طريقهم. AM 87.1