الأنبياء والملوك
الفصل الثاني والعشرون —”نينوى المدينة العظيمة“
تعتبر نينوى من كُبريات المدن في العالم القديم في أيام مملكة إسرائيل المنقسمة، وهي عاصمة مملكة أشور. فإذ بُنيت هذه المدينة على شاطىء نهر دجلة الخصيب بعد تشتّت الناس الذين شرعوا في بناء برج بابل فقد ازدهرت على مدى العصور إلى أن صارت: ”مدينة عظيمة .. مسيرة ثلاثة أيام“ (يونان 3 : 3). AM 215.1
وفي إبّان نجاحها الزمني كانت نينوى مركزاً للجريمة والشر. وقد وصفها الوحي بأنها: ”مدينة الدماء .. كلها ملآنة كذباً وخطفاً“ (ناحوم 3 : 1). والنبي ناحوم يشبّه سكان نينوى بلغة مجازية على أنّهم يشبهون الأسد المفترس. ويسأل النبي قائلاً: ”على من لم يمرّ شرّك على الدوام“ (ناحوم 3 : 19). AM 215.2
ومع أن نينوى غدت شريرة فإنها لم تستسلم للشر كلياً فإن ذاك الذي ”رأى جميع بني البشر“ (مزمور 33 : 13)، ”وعينه ترى كل ثمين“ (أيوب 28 : 10)، رأى في تلك المدينة كثيرين ممن كانوا يتوقون إلى شيء أفضل وأسمى، الذين لو أعطيت لهم فرصة للتعلّم عن الإله الحي كانوا يطرحون عنهم أعمالهم الشريرة ويعبدونه. وهذا فالله في حكمته أعلن نفسه لهم بطريقة لا تخطئ ليقودهم إلى التوبة إن أمكن. AM 215.3
كان النبي يونان ابن أمتاي هو الوسيلة المختارة لهذا العمل. فقد صار إليه قول الرب: ”قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي“ (يونان 1 : 1، 2). AM 216.1
فإذ فكّر النبي في الصعوبات والمستحيلات المحتملة لهذه المأمورية جرب أن يتساءل عن الحكمة في هذه الدعوة. فقد بدأ، من وجهة النظر البشرية، أنه لا خير يرجى من إطلاق مثل هذا النداء أو إذاعة مثل هذه الرسالة في تلك المدينة المتكبرة وقد نسي في لحظة أن الله الذي يخدمه هو كلي الحكمة والقدرة وفيما كان متردداً وكانت الشكوك ماتزال تساوره ملأه الشيطان بالخوف فأصاب النبي رعب عظيم: ”فقام يونان ليهرب إلى ترشيش“. فإذ ذهب إلى يافا ووجد هناك سفينة مستعدة للاقلاع ”دفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم“ (يونان 1 : 3). AM 216.2
في المهمة المسلّمة ليونان أنيطت به مسؤولية ثقيلة ومع ذلك فالذي أمره بالذهاب كان قادراً على دعمه ومنحه النجاح. لو أطاع النبي دون تساؤل لوفّر على نفسه كثيراً من الاختبارات المرة وكان قد بورك بركة وافرة. ومع ذلك ففي ساعة يأسه لم يهجره الرب. وعن طريق سلسلة من التجارب وحوادث العناية الغريبة كان يجب أن تتثبت ثقة النبي في الله وفي قدرته اللامتناهية على الخلاص. AM 216.3
لو وقف يونان عندما جاءته الدعوة أول مرة يتأمل في هدوء لعرف مقدار الجهل والغباء في محاولته التهرّب من المسؤولية الموضوعة عليه. ولكن لم يُسمح له بالتوغل طويلاً في هروبه الجنوني دون إزعاج: ”فأرسل الرب ريحاً شديدة إلى البحر فحدث نوء عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر. فخاف الملاحون وصرخوا كل واحد إلى إلهه وطرحوا الأمتعة التي في السفينة إلى البحر ليخفّفوا عنهم. وأمّا يونان فكان قد نزل إلى جوف السفينة واضطجع ونام نوماً ثقيلاً“ (يونان 1 : 4، 5). AM 216.4
وإذ كان الملاحون يتوسلون إلى آلهتهم الوثنية في طلب العون فإن ربّان السفينة الذي كان متضايقاً ومغموماً إلى أقصى حد ذهب يبحث عن يونان ولما وجده قال له: ”مالك نائماً قم اصرخ إلى إلهك عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك“ (يونان 1 : 6). AM 217.1
ولكن صلاة الرجل الذي مال عن طريق الواجب لم تأت بأية معونة. وإذ كان الملاحون متأثرين بفكرة كون العاصفة الشديدة تشير إلى غضب آلهتهم لجأوا أخيراً إلى إلقاء القرعة كملجأ أخير يلودون به قائلين: ”لنعرف بسبب من هذه البليّة. فألقوا قرعاً فوقعت القرعة على يونان. فقالوا له أخبرنا بسبب من هذه المصيبة علينا. ما هو عملك؟ ومن أين أتيت؟ ما هي أرضك؟ ومن أي شعب أنت؟“. AM 217.2
”فقال لهم أنا عبراني وأنا خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبر“. AM 217.3
”فخاف الرجال خوفاً عظيماً وقالوا له لماذا فعلت هذا؟ فإن الرجال عرفوا أنه هارب من وجه الرب لأنه أخبرهم“. AM 217.4
”فقالوا له ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنّا؟ لأن البحر كان يزداد اضطراباً. فقال لهم خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم لأنني عالم أنه بسببي هذا النوء العظيم عليكم“. AM 217.5
”ولكن الرجال جذّفوا ليرجعوا السفينة إلى البر فلم يستطيعوا لأن البحر كان يزداد اضطراباً عليهم. فصرخوا إلى الرب وقالوا آه يا رب لا نهلك من أجل نفس هذا الرجل ولا تجعل علينا دماً بريئاً لأنك يا رب فعلت كما شئت. ثم أخذوا يونان وطرحوه في البحر فوقف البحر عن هيجانه. فخاف الرجال من الرب خوفاً عظيماً وذبحوا ذبيحة للرب ونذروا نذوراً“. AM 218.1
وأما الرب فأعد حوتاً ليبتلع يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال“. AM 218.2
”فصلى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت وقال: ”دعوت من ضيقي الرب فاستجابني. صرخت من جوف الهاوية فسمعت صوتي. لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار. فأحاط بي نهر. جازت فوقي جميع تياراتك ولججك. فقلت قد طردت من أمام عينيك ولكنني أعود وانظر إلى هيكل قدسك. قد اكتنفتني مياه إلى النفس. أحاط بي غمر. التف عشب البحر برأسي. نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض عليّ إلى الأبد. ثم اصعدت من الوهدة حياتي إيها الرب إلهي. حين أعيت فيّ نفسي ذكرت الرب فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك. الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون نعمتهم. أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك وأوفي بما نذرته. للرب الخلاص“ (يونان 1 : 7 — 2 : 9). AM 218.3
أخيراً تعلّم يونان أن: ”للرب الخلاص“ (مزمور 3 : 8). فبالتوبة والاعتراف بنعمة الله المخلّصة جاءه الخلاص. لقد نجا يونان من مخاطر الغمر العظيم فقُذف به إلى البر. AM 218.4
ومرة أخرى أُرسل خادم الله ليحذّر نينوى: ”ثم صار قول الرب إلى يونان ثانية قائلاً قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد لها المناداة التي أنا مكلمك بها“. ولكنه في هذه المرة لم يتساءل أو يشك بل أطاع دون تردّد ”فقام يونان وذهب إلى نينوى بحسب قول الرب“ (يونان 3 : 1 — 3). فإذ دخل يونان المدينة ابتدأ في الحال بالرسالة قائلاً: ”بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى“ (يونان 3 : 4). وجعل يجول من شارع إلى شارع منادياً برسالة الإنذار. AM 218.5
لم تكن الرسالة لتذهب هباء. فتلك الرسالة التي رنّ صداها في شوارع تلك المدينة الشريرة تناقلتها الألسنة حتى سمع بخبرها المفزع كل ساكن. وقد أدخل روح الله الرسالة إلى كل قلب فأخذت جماهير كثيرة من الناس ترتعد من خطاياهم وتتوب في تذلّل عميق. AM 219.1
”فآمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبسوا مسوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم. وبلغ الأمر ملك نينوى فقام عن كرسيه وخلع رداءه عنه وتغطّى بمسح وجلس على الرماد. ونودي وقيل في نينوى عن أمر الملك وعظائمه قائلاً لا تذق الناس ولا البهائم ولا البقر ولا الغنم شيئاً. لا ترع ولا تشرب ماء. وليتغطّ بمسوح الناس والبهائم ويصرخوا إلى الله بشدة ويرجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم. لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك“ (يونان 3 : 5 — 9). AM 219.2
وفيما الملك والنبلاء مع عامة الشعب العال والدون: ”تابوا بمناداة يونان“ (متى 12 : 41) واتّحدوا في الصراخ إلى إله السماء منحهم الله رحمته: ”فلمّا رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلّم أن يصنعه بهم فلم يصنعه“ (يونان 3 : 10) لقد تحوّلت الدينونة عنهم فلم يهلكوا وتمجّد الله وأُكرم في كل أنحاء العالم الوثني وأُكرمت شريعته. وقد مرت سنين طويلة بعد ذلك قبل أن تسقط نينوى وتصير غنيمة للأمم المحيطة بها بسبب نسيانها الله وبسبب الكبرياء والتفاخر. (لكي تحصل على بيان لإذلال مملكة آشور وسقوطها أنظر ما ورد في الفصل الثلاثين). AM 219.3
حين علم يونان بقصد الله في الإبقاء على المدينة التي برغم شرورها تابت في المسوح والرماد كان ينبغي له أن يكون أول من يفرح بسبب نعمة الله المدهشة ولكن بدلاً من ذلك فقد سمح لعقله بالاستنتاج أن الناس قد يحسبونه نبياً كاذباً. فإذ كان يغار على سمعته غابت عن ذهنه القيمة العظيمة التي لا تقدّر للفنوس التي في تلك المدينة التعسة. إن الرفق والإشفاق الذي أظهره الله لأهل نينوى التائبين: ”غم .. يونان غماً شديداً فاغتاظ“. وقد سأل الرب قائلاً: ”أليس هذا كلامي إذ كنت يعد في أرضي لذلك بادرت إلى الرهب إلى ترشيش لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم بطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر (يونان 4 : 1، 2). AM 220.1
ومرة أخرى استسلم للتساؤل والشكوك ومرة أخرى اكتنفه الخوف. فإذ غابت عنه مصالح الناس وأحس أن موته خير من حياته كيلا يرى المدينة التي أبقي عليها صرخ في تبرّمه وغيظة قائلاً: ”فالآن يا رب خذ نفسي مني لأني موتي خير من حياتي“. AM 220.2
فسأله الرب قائلاً: ”هل اغتظت بالصواب؟“ وخرج يونان من المدينة وجلس شرقي المدينة وصنع لنفسه هناك مظلّة وجلس تحتها في الظلّ حتى يرى ماذا يحدث في المدينة. فأعدّ الرب الإله يقطينة فارتفعت فوق يونان لتكون ظلاً على رأسه لكي يخلّصه من غمّه ففرح يونان من أجل اليقطينة فرحاً عظيماً“ (يونان 4 : 3 — 6). AM 220.3
حينئذ أعطى الرب ليونان درساً مرئياً. فقد ”أعدّ الله دودة عند طلوع الفجر في الغد فضربت اليقطينة فيبست وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعدّ ريحاً شرقية حارّة فضربت الشمس على رأس يونان فذبُل فطلب لنفسه الموت وقال موتي خير من حياتي“ (يونان 4 : 7، 8). AM 221.1
ومرة أخرى تكلّم الله مع نبيّه قائلاً: ”هل اغتظت بالصواب من أجل اليقطينة؟“ فقال ”اغتظت بالصواب حتى الموت“. AM 221.2
”فقال الرب أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها التي بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة“ (يونان 4 : 9 — 11). AM 221.3
مع أن يونان قد أصيب بالإذلال والحيرة وعجز عن إدراك قصد الله في الإبقاء على نينوى فقد تمّم المأمورية الموكلة إليه في إنذار تلك المدينة العظيمة. ومع أن الحادث الذي أنبأ به لم يتمّ فمع ذلك كانت رسالته من الله وقد حققت الغرض الذي قصده الله فيها وأعلن مجد نعمته بين الأمم. فالذين ظلّوا طويلاً جلوساً ”في الظلمة وظلال الموت موثقين بالذل والحديد“ ”صرخوا إلى الرب في ضيقهم فخلّصهم من شدائدهم. أخرجهم من الظلمة وظلال الموت وقطع قيودهم“ ”أرسل كلمته فشفاهم ونجاهم من تهلكاتهم“ (مزمور 107 : 10، 13، 14، 30). AM 221.4
لقد أشار المسيح خلال سنّي خدمته على الأرض إلى الخير الذي حدث بسبب كرازة يونان ومناداته في نينوى وقارن بين سكّان مركز الوثنية ذاك وبين من كانوا يعترفون بأنهم شعب الله في أيامه. فأعلن قائلاً: ”رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان وهوذا أعظم من يونان ههنا“ (متى 12 : 14). ففي وسط العالم الذي يضج بالحركة الممتلئ بضوضاء التجارة ومشاجرات الصناعة حيث كان الناس يجتهدون للحصول على ما يبتغون لأجل الذات جاء المسيح وقد ارتفع صوته فوق كل ضجة وارتباك كصوت بوق الله قائلاً: ”ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه“ (مرقس 8 : 36، 37). AM 221.5
وكما كانت كرازة يونان آية لأهل نينوى كذلك كانت كرازة المسيح آية لجيله. ولكن ما كان أعظم الفرق في قبول الناس للكلمة! ومع ذلك ففي وجه عدم الاكتراث والاحتقار ظل المخلّص يدأب على الخدمة إلى أن أتمّ رسالته. AM 222.1
الدرس موجه لرسل الله في هذه الأيام. فعندما تكون مدن الأمم بحاجة إلى معرفة صفات الإله الحقيقي ومقاصده كما كان أهل نينوى قديماً فعلى سفراء المسيح أن يوجهوا انتباه الناس إلى العالم الأكثر نبلاً وكرامة الذي غاب عن الأنظار إلى حد بعيد. وبناء على تعاليم كلمة الله المقدسة نعلم أن المدينة الوحيدة الباقية هي المدينة التي صانعها وبارئها الله. فبعين الإيمان يمكن للإنسان أن يرى أبواب السماء وقد غمرها مجد الله الحي. فالرب يسوع يدعو الناس بواسطة خدّامه لكي يجاهدوا بطموح مقدّس للظفر بالميراث الذي لا يفنى. وهو يلح عليهم أن يكنزوا كنوزهم بجوار عرش الله. AM 222.2
سيستقر الإثم والذنب بصورة تكاد تكون شاملة على سكان المدن برمتها بصورة أكيدة وسريعة بسبب تفاقم الشر المستمر والتصميم عليه. ولا يستطيع قلم إنسان بشري أن يصف الفساد السائد. فكل يوم يكشف لنا عن كثير من المنازعات والرشوة والاحتيال وكل يوم يأتينا بأخبار تسقم القلب عن ضروب القسوة والتمرّد وعدم المبالاة بآلام البشر وعن إهلاك الحياة البشرية بكيفية وحشية شيطانية. وكل يوم يشهد تكاثر الجنون وحوادث القتل والانتحار. AM 222.3
لقد حاول الشيطان من جيل إلى آخر إبقاء الناس في حالة الجهل بمقاصد الرب الرحيمة. وقد حاول أن يبعد عن أنظارهم شريعة الله ومبادئ العدل والرحمة والمحبة المدونة فيها. والناس يفخرون بالتقدم العجيب والإستنارة التي يتمتع بها هذا العصر الذي نعيش فيه ولكن الله يرى الأرض وقد امتلأت بالإثم والقسوة. والناس يعلنون أن شريعة الله قد ألغيت وأن الكتاب المقدس ليس كتاباً معتمداً أو صحيحاً وينتج عن ذلك تياراً للشر جارفاً، أكثر مما حدث في أيام نوح وأيام ارتداد إسرائيل، يكتسح العالم اليوم. لقد باع الناس نبل النفس وكرامتها واللطف والتقوى لكي يشبعوا نهمهم ورغائبهم الشهوانية للحصول على المحرمات وقائمة الجرائم السوداء التي ترتكب في سبيل الحصول على الربح تكفي لأن تجمّد الدم في العروق وتملأ النفس هلعاً ورعباً. AM 223.1
إن إلهنا هو إله الرحمة. وهو بكل صبر ورأفة يتعامل مع ناقضي شريعته. ومع ذلك ففي يومنا هذا عندما توجد لدى الرجال والنساء فرص كثيرة لمعرفة شريعة الله كما هي معلنة في السفر المقدس فإن سيد الكون العظيم لا يمكنه أن ينظر نظرة الرضى إلى المدن الشريرة التي تستبد بها القسوة والجرائم. إن نهاية صبر الله واحتماله نحو من يصرّون على العصيان قادمة سريعاً. AM 223.2
فهل يستغرب الناس حدوث تبدّل مفاجئ وغير منتظر في معاملات الحاكم الأعلى تجاه سكان العالم الساقط؟ وهل يستغربون عندما يلحق العقاب العصيان والجرائم المتزايدة؟ أيستغربون أن يجلب الله الهلاك والموت على الذين حصلوا على المكاسب الحرام بواسطة الخداع والاحتيال؟ إن كثيرين بالرغم من حقيقة كون النور المتزايد فيما يختص بمطالب الله قد أشرق على طريقهم فقد رفضوا الاعتراف بسلطان الرب وسيادته واختاروا البقاء تحت الراية السوداء راية مبتدع كل عصيان ضد حكم السماء. AM 223.3
إن صبر الله عظيم جداً بحيث نصاب بالدهشة عندما نفكّر في الإهانات المتكررة الموجهة إلى وصاياه المقدسة. وقد ضبط الله الكلي القدرة غضبه بصورة عظيمة ليبقى ضمن مميزات صفاته المتأنية. ولكن لابد له من أن يقوم ليعاقب الأشرار الذين يتحدون مطالب الوصايا العشر العادلة بكل جرأة. AM 224.1
إن الله يقدّم للناس فرصة اختبار ولكن يوجد حد ينفذ بعده صبر الله. ولابد من أن تقع أحكام الله أخيراً. فالرب يصبر على الناس طويلاً وكذلك على المدن ويقدّم لهم الإنذارات لإنقاذهم من غضبه. ولكن سيأتي وقت فيه لا تُسمع بعده التوسلات في طلب الرحمة وعنصر العصيان الذي يمعن في رفض نور الحق سيُمحى ويدمّر، رحمة بالعصاة وبالذين لو لا هذا القضاء لتأثروا بمثالهم. AM 224.2
قريب هو الوقت الذي سيعمم العالم فيه حزن ليس له شفاء. إن روح الله ينسحب والكوارث والفواجع في البحر والبر تأتي أحدها في إثر الأخرى في تتابع سريع. فكم من المرات سمعنا عن حدوث زلازل وأعاصير وحرائق وفياضانات تبعتها خسائر فادحة في الأرواح والأموال! يبدو أن هذه الكوارث هي ثورات متقلّبة الأطوار لقوى الطبيعة المشوّشة غير المنضبطة وهي فوق سلطان الإنسان بالكلية، ولكن يمكننا أن نرى فيها كلها قصد الله. إنها من ضمن الوسائل التي يحاول الله بواستطها أن ينبّه الرجال والنساء للشعور بخطرهم. AM 224.3
على رسل الله الذين يخدمون في المدن الكبرى ألا يخافوا أو تضعف هممهم بسبب الشر والظلم والانحطاط الذين يدعون لمواجهته وهم يسعون إلى إذاعة بشرى الخلاص السارّة. فالرب يشجّع كل خادم من أولئك الخدّام بالرسالة ذاتها التي قدّمها لبولس الرسول وهو في مدينة كورنثوس الشريرة إذ قال له: ”لا تخف بل تكلّم ولا تسكت لأني أنا معك ولا يقع بك أحد ليؤذيك لأن لي شعباً كثيراً في هذه المدينة“ (أعمال 18 : 9، 10). ليذكر الذين يعملون في خدمة ربح النفوس وتخليصها أنه في حين يوجد كثيرون ممكن لا يعيرون مشورة الله اهتماماً كما جاءت في كلمته، فلن يرتدّ العالم كلّه عن النور والحق أو عن دعوات المخلّص الصبور الطويل الأناة. ففي كل مدينة مهما تكن ممتلئة بالقسوة والجريمة يوجد كثيرون ممن يمكنهم أن يصيروا أتباعاً ليسوع عن طريق التعليم الصحيح. ويمكن أن تصل رسالة الحق والإخلاص إلى آلاف من الناس ويمكنّهم أن يقبلوا المسيح مخلّصاً شخصياً لهم. AM 224.4
إن رسالة الله لسكان الأرض اليوم هي: ”كونوا أنتم أيضاً مستعدين لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان“ (متى 24 : 44). فالأحوال السائدة في المجتمع وعلى الخصوص في المدن الكبرى في الأمم تُعلن بأصوات كالرعد أن ساعة دينونة الله قريبة وقد حانت، وأن نهاية كل الأشياء الأرضية قريبة. إننا واقفون على باب أزمة الأجيال وأحكام الله ستتبع إحداها الأخرى في تتابع سريع كالحرائق والفيضانات والزلازل والحروب وسفك الدماء. ولا نستغرب في هذا الزمن الحوادث العظيمة الحاسمة. لأن ملاك الرحمة لا يمكنه أن يظلّ أكثر من ذلك يحمي غير التأبين. AM 225.1
”لأنه هوذا الرب يخرج من مكانه ليعاقب إثم سكان الأرض فيهم فتكشف الأرض دماءها ولا تغطّي قتلاها في ما بعد“ (إشعياء 26 : 21). إن عاصفة غضب الله تجتمع، فالذين يستجيبون لدعوة الرحمة هم وحدهم الذين يثبتون كما فعل سكان نينوى إذ سمعوا مناداة يونان وتقدّسوا عن طريق الطاعة لشرائع ملك السماء. والأبرار وحدهم يستترون مع المسيح في الله إلى أن ينتهي الخراب فليكن هذا لسان حالنا AM 225.2
يا إلهي يا إلهي
أنت عزّي وارتياحي
ليس لي حصن سواك
في متاهات الكفاح
كن بقربي كل حين
في كروب واجتياح
واسترني حين يقسو
فعل هاتيك الرياح
واخفني من كل شر
دائماً تحت الجناح
اعطني قلباً نقياً
واهدني درب الفلاح
وامح زلأتي وذنبي
أ نت للزلات ماح
AM 226.1