مشتهى الأجيال
الصليب المحتجب
ذهل الملائكة وهم يرون عذابات المخلص ويأسه. وحجب الأجناد السماويون وجوههم حتى لا يروا ذلك المنظر المخيف . بل حتى الطبيعة الجامدة عبرت عن عطفها على مبدعها المهان وهو يحتضر . فالشمس رفضت أن تنظر إلى ذلك المشهد الرهيب . لقد كانت أشعتها تملأ الأرض نورا في وقت الظهيرة ، ولكنها فجأة بدت أنها اختفت عن الوجود وقد غطت الصليب ظلمة داجية كما لو كانت غطاء بعش . “ كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة” (لوقا 23: 44). لم يكن كسوف الشمس أو أي سبب آخر طبيعي هو علة هذا الظلام الذي كان كثيفا كظلام نصف الليل دون أن يضيء فيه القمر أو النجوم ، بل كان شهادة معجزية قدمها الله لأجل تثبيت إيمان الأجيال القادمة. ML 715.1
النجوم ، بل كان شهادة معجزية قدمها الله لأجل تثبيت إيمان الأجيال القادمة. في الظلمة الداجية استتر وجه الله . إنه يجعل الظلمة مظلته ويخفي مجده عن العيون البشرية . لقد كان الله وملائكته الأبرار بجوار الصليب . وكان الآب مع ابنه ، ومع ذلك فهو لم يعلن حضوره . فلو كان مجده قد أشرق من خلف السحابة لهلك كل من رآه من الناس . وفي تلك الساعة الرهيبة لم يكن المسيح ليجد عزاء بحضور الآب . لقد داس المعصرة وحده ومن الشعوب لم يكن معه أحد. ML 715.2
أخفى الله في ذلك الظلام الدامس آخر عذاب بشري يقاسيه ابنه. إن كل من قد رأوا المسيح في آلامه اقتنعوا بألوهيته ، فذلك الوجه إذ قد رآه الناس لم ينسوه قط . وكما ارتسم على وجه قايين سيماء جريمة القتل كذلك وجه المسيح ارتسم عليه سيماء البرارة والوقار والمحبة والإحسان - أي صورة الله . ولكن المشتكين عليه لم يلقوا بالا إلى مصادقة السماء . لقد كانت تلك الجموع الساخرة تحملق فيه مدى ساعات عذابه الطويلة . أما الآن فها الرحمة الإلهية تخفيه تحت رداء الله. ML 715.3
وقد بدا وكأن صمت القبور قد شمل جبل جلجثة. واكتنف ذلك الجمع الواقف عند الصليب رعب لم يعرف أحد كنهه ، فتوقف الناس عن لعناتهم وشتائمهم إذ جمدت على ألسنتهم التعابير بينما هم ينطقون بها ، وانطرح الرجال والنساء والأولاد على الأرض ، وومضت البروق من قلب تلك السحابة من آن لآخر وكشفت عن الصليب والفادي المصلوب ، فكان الكهنة والرؤساء والكتبة والجلادون والرعاع جميعهم يعتقدون أن وقت العقاب قد حان. وبعد قليل جعل البعض يتهامسون قائلين إن يسوع ينزل الآن عن الصليب . وبعض منهم حاولوا أن يتلمسوا طريقهم إلى المدينة وهم يقرعون صدورهم ويولولون رعبا. ML 715.4
وفي الساعة التاسعة انقشعت الظلمة عن الناس ولكن المخلص ظل مكتنفا بها . كانت تلك الظلمة رمزا للعذاب والرعب اللذين كانا يضغطان على قلبه ولم يستطع أي إنسان أن يخترق ببصره الظلام الذي كان يحيط بالصليب . ولم يمكن لبشر أن يخترق الظلام الأعمق الذي التف حول نفس المسيح المتألمة . وقد بدا وكأن البروق الغاضبة كانت ترشقه وهو معلق على الصليب . حينئذ: “صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي، إيلي، لما شبقتني؟ أي: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟” (متى 27 : 46). وإذ استقرت الظلمة الخارجية على المخلص صرخ كثيرون قائلين : لقد حلت عليه نقمة السماء . إن سهام غضب الله تنتشب فيه لأنه ادعى أنه ابن الله . وكثيرون ممن آمنوا بيسوع سمعوا صرخة اليأس التي نطق بها ، وقد تركهم الرجاء . فإذا كان الله قد ترك يسوع ففيم يثق تابعوه ؟ ML 716.1