مشتهى الأجيال
عظام وقبور
ثم عاد يسوع يقول: “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تعشّرون النعنع والشبث والكمون، وتركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك” (متى 23 : 23). وفي كل هذا الكلام يدين المسيح مرة أخرى إساءة استخدام الالتزامات المقدسة . وهذا الالتزام نفسه لا يغفله ، فالله هو الذي فرض نظام العشور وقد حفظ منذ أقدم العصور . فإبراهيم أبو المؤمنين قدم عشرا من كل أمواله . وكان رؤساء إسرائيل يسلمون بضرورة دفع العشور ، وكان هذا العمل صوابا ، ولكنهم لم يتركوا الشعب ليتحملوا بأنفسهم تبعة اقتناعهم بالواجب ، بل وضعت قوانين تعسفية لكل حالة . وقد تعقدت كل المطاليب بحيث غدا من المستحيل حفظها . ولم يكن أحد يعرف متى تتم عهوده . كان ذلك النظام عادلا ومقبول بحسب ما أعطاه الله ، ولكن الكهنة والرؤساء جعلوه عبئا مملا ثقيلا. ML 582.1
إن كل ما يأمر به الله له أهميته . فلقد اعتبر المسيح تقديم العشور واجبا ، غير أنه أبان لسامعيه أن هذا لا يعفيهم من مسؤولية إهمالهم للواجبات الأخرى . كان الفريسيون مدققين جدا في تعشير الأعشاب النامية في البساتين كالنعنع والشبث والكمون ، فهذا لم يكن ليكلفهم كثيرا ، بل قد جعلهم يشتهرون بالتدقيق والقداسة . وفي نفس الوقت فإن أوامرهم ونواهيهم التي لا نفع منها ضايقت الشعب وأضاعت توقير الناس لذلك النظام المقدس الذي قد أقره الله نفسه . لقد شحنوا عقول الناس بفروق تافهة ، وأبعدوا تفكيرهم عن الحقائق الجوهرية ، فالأمور العظيمة الأهمية في الناموس ، كالحق والرحمة والإيمان أغفلت . وقد قال لهم يسوع: ” كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك”. ML 582.2
وهنالك قوانين أخرى أفسدها المعلمون على هذا النحو . ففي الأوامر المعطاة للشعب بواسطة موسى نهاهم الله عن أكل كل شيء نجس . فأكل لحم الخنزير وبعض الحيوانات الأخرى كان محرماً لاحتمال كونه يملأ الدم بالنجاسة ويقصر العمر . ولكن الفريسيين لم يتركوا هذه النواهي كما قد أعطاها الله بل تطرفوا إلى الحدود غير الجائزة وكان ضمن الأشياء المطلوب من الشعب عملها أن يصفوا كل الماء الذي يستعملونه لئلا تكون فيه أصغر حشرة يمكن حسبانها ضمن الحيوانات النجسة . وإذ قارن يسوع بين هذه النواهي التافهة وبين هول خطاياهم الفعلية قال للفريسيين: “أيها القادة العميان! الذين يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل” (متى 23 : 24). ML 582.3
قال لهم أيضاً: “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تشبهون قبوراً مبيضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة” (متى 23 : 27). فكما أن القبر المبيض والمزين من الخارج يخفي في داخله الجثث المتعفنة ، فكذلك القداسة الظاهرية التي كان يتباهى بها الكهنة والرؤساء كانت تخفي وراءها الآثام والمفاسد . ثم قال أيضاً: ML 583.1
“ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! لأنكم تبنون قبور الأنبياء وتزيّنون مدافن الصدّيقين، وتقولون: لو كنا في أيام آبئنا لما شاركناهم في دم الأنبياء” (متى 23 / 29 — 31). إن اليهود لكي يظهروا تقديرهم للأنبياء الذين ماتوا جعلوا بكل اهتمام وحماسة يزينون مدافنهم ، ولكنهم لم يستفيدوا من تعاليمهم ولا ألقوا بالا إلى توبيخاتهم. ML 583.2
ففي أيام المسيح اهتم الناس اهتماما خرافيا بمدافن الموتى وأنفقت مبالغ طائلة من المال على تزيينها . وكان هذا عبادة أوثان في نظر الله . وذلك أن الناس في توقيرهم المبالغ فيه وغير اللائق بالموتى برهنوا على أنهم لم يحبوا الله من كل القلب ولا أحبوا القريب كالنفس ونفس هذه الوثنية متفشية بين الناس في هذه الأيام . كثيرون مجرمون في كونهم يهملون الأرامل واليتامى والمرضى والفقراء لكي يبنوا أنصابا وتماثيل غالية الثمن للموتى . فهم ينفقون الوقت والمال والجهود بسخاء لأجل هذه الاغراض ، في حين أنهم يهملون واجبهم نحو الأحياء . فتلك الواجبات التي قد فرضها المسيح بكل صراحة قد تركت وأغفلت. ML 583.3
لقد بنى الفريسيون قبور الأنبياء وزينوا مدافنهم وقال أحدهم للآخر: لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في سفك دم خدام الله . ولكنهم كانوا في نفس الوقت يتآمرون لسفك دم ابنه . ونحن ينبغي أن نتخذ من هذا درسا لنفوسنا ، ويجب أن نفتح عيوننا للتحقق من قوة الشيطان على خداع العقول التي تبتعد عن نور الحق . كثيرون يسيرون في إثر خطوات الفريسيين . فهم يكرمون أولئك الذين ماتوا في سبيل إيمانهم . وهم يندهشون من عمى اليهود في رفضهم للمسيح . ثم يعلنون قائلين: لو عشنا في أيامه لكنا بكل سرور قبلنا تعاليمه وما كنا اشتركنا قط في جريمة من قد رفضوا المخلص . ولكن عندما تستلزم الطاعة لله إنكار الذات والتواضع فإن نفس هؤلاء الناس يخدمون اقتناعهم ويرفضون الطاعة . وهكذا يظهرون نفس الروح التي اتصف بها الفريسيون الذين دانهم المسيح. ML 583.4