مشتهى الأجيال
وحيد ولكن غير متروك
كثيرون يعتبرون مصير المعمدان سرا غامضا فيتساءلون قائلين لماذا يترك رجل كهذا ليضعف ويذبل ثم يموت. إن أبصارنا البشرية لا يمكنها أن تخترق الحجب وتكتشف السر في هذا المصير المؤلم الذي قد سمحت به عناية الله . ولكن ثقتنا بالله لا تتزعزع متى ذكرنا أن يوحنا كان شريك المسيح في آلامه . إن كل من يتبعون المسيح لا بد لهم من أن يلبسوا إكليل التضحية . فالناس الأنانيون سيسيئون فهمهم حتما وسيصيرون هدفا لهجمات الشيطان العنيفة . إن مملكة ذلك العدو قد أقيمت لهدم مبدأ التضحية ، وهو سيحاربه أينما وجده. ML 203.1
لقد امتازت سنو حداثة يوحنا وشبابه ورجولته بالثبات والقوة الأدبية. وعندما سمع صوته في البرية يقول: “أعدّوا طريق الرب. اصنعوا سبله مستقيمة” (متى 3 : 3). خشي الشيطان على سلامة مملكته . لقد كشف يوحنا عن شر الخطية بكيفية جعلت الناس يرتعبون . لقد انسحق سلطان الشيطان الذي ظل كثيرون يئنون تحته ، ولم يكل الشيطان من بذل مساعيه ليحول بين المعمدان وحياة التسليم الكامل بلا تحفظ . ولكن كل تلك المساعي باءت بالفشل . وقد أخفق في الانتصار على يسوع . لقد انهزم الشيطان حين جرب المسيح في البرية فاحتدم غيظه . فقصد الآن أن يجلب المتاعب والأحزان على يسوع بكونه يضرب يوحنا . فذاك الذي لم يستطع إبليس أن يغويه ليرتكب الخطية يجعله يتألم. ML 203.2
لم يتدخل يسوع لإنقاذ حياة خادمه ، فلقد عرف أن يوحنا سيصمد أمام تلك المحنة .كان المخلص يريد بكل سرور أن يأتي إلى يوحنا لينير ظلام السجن بحضوره ، ولكن لم يكن يحسن به أن يلقي بنفسه بين أيدي الأعداء ويعرض عمله للخطر. كان يريد بكل سرور أن ينقذ خادمه الأمين ، ولكن لأجل تشجيع الآلاف ممن سيقاسون فيما بعد من السجن والموت كان على يوحنا أن يشرب كأس الاستشهاد . فحينما يتألم أتباع يسوع في السجون أو يموتون قتلا بالسيف أو على آلات التعذيب أو حرقا بالنار ، متروكين حسب الظاهر من الله والناس فكم ستُسند قلوبهم وتتشجع إذ يفكرون بأن يوحنا المعمدان الذي قد شهد المسيح نفسه بأمانته جاز في ضيقات وآلام مماثلة ! ML 204.1
لقد سمح للشيطان بأن يقضي على الحياة الأرضية لخادم الله ، أما تلك الحياة التي هي “مستَترةٌ مع الْمسيحِ في الله” (كولوسي 3 : 3) فالمهلك لم يستطع أن يمسها . ابتهج إبليس لكونه قد جلب الحزن إلى قلب المسيح ولكنه لم يستطع الانتصار على يوحنا ، إذ الموت ذاته قد أبعده فقط إلى الأبد عن متناول قوة التجربة . وفي هذه الحرب كان الشيطان يكشف القناع عن صفاته . وأمام الشهود من كل المسكونة أعلن عن عداوته لله والإنسان. ML 204.2
ومع إنه لم تجرِ معجزة لإنقاذ يوحنا فهو لم يكن متروكا ، فلقد كان ملائكة السماء يرافقونه دائما ، وهم الذين كشفوا له عن النبوات الخاصة بالمسيح ومواعيد الله العظمى والثمينة ، وكانت تلك المواعيد سندا لقلبه. كما أنها ستكون سندا لقلوب شعب الله في الأجيال القادمة . وقد قدم ليوحنا المعمدان كما قدم لمن أتوا بعده هذا الوعد: “ها أَنا معكُم كُلَّ الأَيامِ إِلى انْقضاءِ الدهرِ” (متى 28 : 20). ML 204.3
إن الله لا يقود أولاده أبداً في طريق غير الطريق الذي كانوا يختارونه لأنفسهم لو كانوا يعرفون النهاية من البداية ويفطنون إلى مجد الغرض الذي يتممونه كعاملين معه. فلا أخنوخ الذي نقل إلى السماء وإيليا الذي أخذته إلى هناك مركبة نارية كان أعظم أو حصل على كرامة أوفر من يوحنا المعمدان الذي قتل وحده في السجن: “لأَنَّه قَد وُهب لَكُم لأَجلِ الْمسيحِ لاَ أَنْ تؤْمنُوا بِه فَقطْ ، بلْ أَيضا أَنْ تَتأَلَّموا لأَجله” (فيلبي 1 : 29). ومن بين كل الهبات التي تمنحها السماء لبني الإنسان نجد أن مشاركة المسيح في آلامه تضفي على أصحابها أعظم كرامة وأسمى مجد. ML 204.4