طريق الحياة

11/14

التعرُّف بالله

كثيرة هي الطرق التي بها يطلب الله أن يقودنا إلى معرفته، و إلى الوئام و الشركة معه، فهذه الطبيعة التي تناجي مدركاتنا اناء الليل و أطراف النهار تؤثر في كل قلب مفتوح و تهمس في كل أذن صاغية مخبرة بمحبة صانعها و معلنة مجده، فكأني بالحقول الخضراء و الأشجار الباسقة، و بالسحب المارة و الغيوث السارة، و بخرير السيل و جمال السماء و هي تحدثنا عن خالقها و تدعونا إلى التعرف به SC 64.1

لقد مثل مخلصنا تعاليمه بما في الطبيعة، و قارن الحقائق الأبدية الثمينة التي نطق بها بالأشجار و الأطيار و بزهور الوهاد و كروم النجاد، و بالبحيرات الرائقة و السماوات الرائعة، و ألحقها بحوادث الحياة العادية و أحوالها اليومية لكيلا تغرب عن ذاكرة سامعيه بل يتعظوا بها وسط انهماكات الحياة و أتعابها الكثيرة SC 65.1

يريد الله أن يستمع أولاده بحسن صنعته و يبتهجوا بالجمال البسيط المحتشم الذي زين به مسكننا الأرضي هذا، لان الله يحب الجمال، و لا سيما جمال الأخلاق الذي يفضله على كل زينة خارجية مهما كانت، و يشتاق إلى أن برانا مرتدين جمالاً كجمال الزهور الهادي العجيب SC 65.2

لو تأملنا أعمال الله لتعلمنا منها دروسًا ثمينة في الطاعة له و الاتكال عليه، من كل ما في الطبيعة من الأجرام الفلكية الكبيرة التي على مدى الأجيال تتبع مداراتها المتسعة المعينة لها، و كل ما في الكون من ذرات صغيرة أيضًا، تطيع إرادة خالقها وهو يعتني بها و يقوم بحاجتها، و إن الذي يحمل العوالم الكثيرة السابحة في الفضاء الفسيح، هو الذي يعتني أيضًا بالعصافير التي تغرّد تمجيدًا لخالقها بلا خوف أو وجل، وهو الذي يهيمن على العامل إذ يخرج لعمله اليومي كما يهيمن عليه في المخدع و في أثناء رقاده و حين قيامه من النوم، و انه لا يفتأ يراقب الغني إذ يولم في قصره الولائم الفاخرة كما يراقب الفقير إذ يجمع أولاده حول مائدته الحقيرة ليقاسمهم خبزه الحاف، فليس من دمعة تذرف إلا و يراها الله، و ليس من ابتسامة إلا و يلاحظها بشوق و اهتمام SC 65.3

لو آمنا بهذه القدرة و وثقنا بهذه العناية لطرحنا عنا كل اهتمام زائد و لأبعدنا عنا كل خيبة أمل، بل و تركنا جميع أمورنا صغيرة أكانت أم كبيرة، بين يدي القدير الذي لا تحيره كثرة العناية و لا يثقله تعب الرعاية، و لكنا نمتع نفوسنا بالراحة التي طالما اشتقنا إليها SC 65.4

إذ تبتهج مداركك بجمال الأرض الخلاَّب اجتهد أن تتصوَّر في مخيلتك الأرض الجديدة التي لا تشوبها خطية و لا تمتد إليها سلطة الموت و لا يظهر عليها ظل اللعنة، ثم إذا بلغت الحد في تصوّرك اعلم أنها ستكون اجمل و امجد بكثير من كل تصوّراتك، لأنك لا تستطيع أن ترى الآن، مع تنوّع عطايا الله، إلا لمحة خاطفة من مجده السني، كما هو مكتوب “ما لم ترَ عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على بال إنسان ما اعده الله للذين يحبونه”، ١ كورنثوس ٢ : ٩ SC 66.1

قد يفصح الشعراء في وصف جمال الطبيعة و يبالغ العلماء في الكلام عن غرائبها، و أما الذي يتمتع بها تمتعًا مشبعًا فهو المؤمن لأنه يرى فيها عمل يد أبيه و يميز دلائل حبه تعالى في زهورها و أشجارها و أثمارها. و أما الذي لا يميز محبة الله في النجاد و الوهاد، و في الأنهر و الأبحر، فلا يعرف معناها و لا تناجيه بما تكنه له من محبة و عناية SC 66.2

يكلمنا الله أيضًا في عنايته بنا و يناجينا بفعل روحه القدوس فينا، فان حوادث الحياة و التقلبات التي نشاهدها من يوم إلى يوم، لو فطنا لها، لتعلمنا عن محبة بارينا، كما انشد المرنم في ذلك واصفًا العناية الإلهية الدائمة قائلاً، “امتلأت الأرض من رحمة الرب” و “من كان حكيما يحفظ هذا و يتعقل مراحم الرب” مزمور ٣٣ : ٥ و ٧ و ١ : ٤٣ SC 66.3

يخاطبنا الله كذلك في كلمته المنزلة، و فيها يعلن صفاته بصيغة واضحة جلية إذ يعرفنا فيها بأعماله العظيمة في فداء الإنسان و يسرد أمامنا تاريخ الآباء و الأنبياء القديسين الذين كانوا تحت الآلام مثلنا و جاهدوا في أحوال كأحوالنا الصعبة، و ولوا هاربين منهزمين مثلنا، ثم عادوا و تشجعوا و انتصروا بنعمة الله، و نحن إذ نراهم نتشجع أيضًا في سعينا وراء البر، و إذ نقرأ عن اختباراتهم الثمينة و تمتعهم بالنور و المحبة و البركة، و عن العمل الذي قاموا به بنعمة الله و عن الروح الذي اظهروه، يضطرم في قلوبنا لهيب الاشتياق إلى أن نقتدي بهم و أن نكون مثلهم و أن نسير مع الله كما ساروا معه SC 66.4

قال يسوع عن كتب العهد القديم أنها “هي التي تشهد لي”، يوحنا ٥ : ٣٩، و ما قاله عن العهد العتيق يصدق بالأحرى عن كتب العهد الجديد، لان الكتاب المقدس كله لا يخبرنا إلا بالفادي الذي بدونه يكون الجنس البشري الهالك عديم الأمل في الحياة الأبدية. إن المسيح هو موضوع إعلان الله، فمن الكلمة الأولى، “في البدء خلق الله السموات و الأرض” إلى الأخيرة في الرؤيا “ها أنا آتي سريعًا” لا تقرأ إلا عن أعماله و لا تسمع إلا صوته، فإذا أردت أن تتعرَّف بيسوع عليك بقراءة الكتب المقدسة SC 66.5

املأ قلبك إذن بكلمة الله، لأنها الماء الحي الذي يروي لظى عطشك كما و أنها الخبز الحي من السماء الذي يشبع فرط جوعك، و لقد صرح يسوع بذلك قائلاً “إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان و تشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم” يوحنا ٦ : ٥٤، ثم اردف موضحًا معناه “الكلام الذي أكلمكم به هو روح و حياة”، عدد ٦٣، فكما أن أجسادنا تتغذى و تبنى مما تتعاطاه من مأكل و مشروب، كذلك أرواحنا أيضًا، فإنها تستمد قوة و شجاعة مما نتأمل فيه من الأمور الروحية الأبدية SC 67.1

إن موضوع الفداء العجيب لموضوع “تشتهي الملائكة أن تطَّلع عليه” وهو سيكون موضوع دراسة المفديين و موضوع ترنمهم و تهللهم مدى الدهور الأبدية. إذن أفليس هو الآن جديرا بالتفكير العميق و الاعتبار الجدي الدقيق؟ بلى، لان محبة المسيح و رحمته و تضحيته العظيمة من اجلنا لتستلزم أعمق التأمل و أوفر التفكير، بل و يجب أن نطيل التبصر في صفات فادينا و شفيعنا و نديم النظر في رسالة ذاك الذي أتى ليخلص شعبه من خطاياهم فان التأمل في هذه المواضيع السماوية يقوي محبتنا و يزيد إيماننا و يملأنا ثقة و محبة، فتصعد صلواتنا إذ ذاك مقبولة عند الله لأنها تصدر عن ذهن مستنير و عاطفة مضطرمة و ثقة ثابتة بيسوع و اختبار حي في قوّته القادرة أن تخلص “إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله” SC 67.2

عندما نتأمل مليًا في كمالات المخلص يتولد فينا شوق شديد إلى تغيير كامل و تجديد شامل لنشترك في قداسته و طهارته، ذلك لأننا نزداد جوعًا و عطشًا إلى التشبه به، حتى إذا صار الفادي الموضوع الشاغل في أفكارنا نلهج به في كلامنا و نظهره للعالم في حياتنا و أعمالنا SC 69.1

هذا و ليست الكتب المقدسة للعلماء فقط، بل قد خصصت أيضًا لعامة الناس و جاءت فيها الحقائق العظمى بشأن الخلاص واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار حتى لا يخطئ احد الطريق و لا يضلّ عن سواء السبيل إلاّ من استقلَّ برأيه و حاد عمدًا عن مشيئة الله المعلنة الجلية SC 69.2

يجب ألا نكتفي من شهادة إنسان ما بما يقول الكتاب المقدس، بل يجب أن نطالع كلمة الله بأنفسنا، لان اتكالنا على دراسة غيرنا يفلّ نشاطنا و يميت مواهبنا و يضعف فينا القوى العقلية الثمينة التي لا تنمو إلا باستخدامها في مواضيع سامية يتطلب استيعابها مجهودًا عظيمًا متوصلاً، و إذا حدث ذلك نفشل في إدراك معنى كلمة الله، أن العقل إذا استعمل في درس مواضيع الكتب المقدسة و في مقابلة الآية بالآية و مقارنة الروحيات بالروحيات ليتَّسع اتساعًا عجيبًا بينًا SC 69.3

ليس ما يقوّي الإدراك مثل درس كلمة الله، و ليس ما يرفع الأفكار و يكسب العقل حذاقة مثل التأمل في الحقائق الكتابية العميقة المهذبة، فلو درس الإنسان الكلمة كما يجب لوجد فيها سعة عقل و سمو أخلاق و ثبات عزم قلما نراها في هذه الأيام SC 69.4

على أن الفائدة من قراءة الكتاب المقدس قراءة عاجله بدون ترو ضئيلة جدًا، فقد يقرأ المرء الكتاب كله، من التكوين إلى الرؤيا، و لا يرى شيئًا من جماله و لا يسير شبرًا من غوره، و أما إذا أطال التأمل في آية واحدة فقط إلى أن أدرك معناها و فهم مغزاها في تدبير الخلاص فيستفيد اكثر بكثير مما لو تلا فصولاً عديدة دون هدف و لا منفعة، إذن خذ كتابك معك و اقرأ فيه كلما وجدت لذلك فرصة سانحة، و استذكر آياته التي تقرأها، لأنه من الممكن أن يتأمل في الآيات و انت ماشٍ في الشارع فتثبتها في ذاكرتك SC 69.5

إننا لن نصير ذوي حكمة إلا إذا اعرنا الكتاب المقدس التفاتًا جديًا و درسناه دراسة مصحوبة بالصلاة، لأنه، و إن كان في الكتاب فصول لا يخطئ احد في فهمها إلا أن فيه أيضًا فصولاً ذات معنى عميق بعيد الغور، لا يسهل فهمها لأول وهلة، فيجب إذن مقارنة الآيات بالآيات مع توخي الدقة في البحث و التعميق في التفكير و الصلاة، و بذلك تعود علينا دراسة الكتاب المقدس بالخير العميم و النفع الجزيل، فكما يبحث المعدّن عن الأحجار الثمينة في جوف الأرض، هكذا يجب أن ننقب في كلمة الله عن كنز ثمين حتى نجد فيها حقائق ذات قيمة عظمى مما قد أخفي عن عيون كثيرين من الذين يقرؤون الكتاب قراءة عجلى، فان كلمة الوحي إذا وعيناها في قلوبنا و تدبرناها كانت بمثابة جداول تتدفق من ينبوع الحياة SC 70.1

و حذار من الإقدام على دراسة الكتاب دون أن تستعين بالصلاة، فقبل أن تتصفحه يجب أن تطلب الاستشارة من الروح القدس، و متى طلبت فلا بد من أن تنال، فان يسوع حين رأى نثنائيل مقبلاً إليه قال عنه “هو ذا إسرائيلي حقًا لا غش فيه، فقال له نثنائيل من أين تعرفني، أجاب يسوع و قال له قبل أن دعاك فيلبس و انت تحت التينة رأيتك” يوحنا ١ : ٤٧ و ٤٨، فيسوع الذي رأى نثنائيل وهو يصلي تحت التينة يراك أيضًا و انت تصلي في مخدعك إن كنت تتلمس منه النور لمعرفة الحق بل إن ملائكة النور انفسهم سيرافقونك و يأخذون بيدك إن كنت تطلب الهداية و الإرشاد بروح الاتضاع و الانقياد SC 70.2

إن عمل الروح القدس هو أن يعظم المخلص و يمجده إذ ان الروح هو الذي يقدم لنا المسيح و برّه و خلاصه كما قال يسوع عنه “ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي و يخبركم” يوحنا ١٦ : ١٤، فإنما روح الحق دون سواه هو المعلم المؤثر الفعّال الذي يستطيع أن يعلمنا الحق الإلهي SC 70.3

فيا لعظم تقدير الله لجنسنا البشري، إذ أعطانا ابنه ليبذل حياته لأجلنا و وهبنا الروح القدس ليكون معلمنا و مرشدًا لنا SC 71.1

اقرب ما دمت إلى مخلصي القدير
مع أن قلبي معه في طريقه يسير
لما رأيت أولاً جماله القدسي
سقيت كأس حبه فانتعشت نفسي
يا طيب ساعات بها أخلو مع الحبيب يجري حديثي معه سرًا و لا رقيب
SC 71.2