طريق الحياة
العَمل
إن الله لمصدر الحياة و النور و السعادة للعالمين، تنبثق منه البركات لجميع مخلوقاته كما تنبثّ من الشمس أشعتها المنعشة و كما تنفجر من العين مياهها الحية، و عندما تملأ حياء الله قلب الإنسان تفيض منه حاملة المحبة و البركة للآخرين أيضًا SC 58.1
اغتبط المسيح أن يفدى الإنسان الهالك و تهلل أن يرفعه إلى الله، و لم يحسب حياته ثمينة عنده لإنجاز هذا العمل، بل بذلها “و احتمل الصليب مستهينًا بالخزي” و هكذا الملائكة أيضًا، فانهم يسعون دائمًا في إسعاد الآخرين، و في عملهم هذا يجدون لذة و سرورًا، فالخدمة التي يحسبها كل محب لذاته بالعمل المشين له، خدمة التعساء الذين هم دونه أخلافًا و مقامًا، إنما هي الخدمة التي يقوم بها ملائكة الله الاطهار، و روح المحبة الذي يقومون به بفرح و ابتهاج SC 58.2
متى حلت محبة المسيح في القلب تكون فيه كالمسك الذي لا تخفى رائحة بائعه بل تفوح منه فتنعش كل من يقاربه، و متى ساد روح المسيح في القلب يكون فيه كالعين في القفر تفيض مياهها لتنعش المعي و تولد فيه الشوق إلى الاستقاء من ينبوع الحياة الأبدية SC 59.1
من مظاهر المحبة ليسوع أن يسعى المحب في النسج على منواله فيعمل عمله في إسعاد الناس، و من خصائصها أن تبدي العطف و الشفقة و المؤاساة لكل من تشمله العناية الإلهية الأبوية SC 59.2
لم يعش المخلص على الأرض عيشة الدعة و الراحة و لم ينهمك في خدمة نفسه، بل كانت حياته إجهادًا دائمًا و نضالاً دائبًا لخلاص المنكوبين الهالكين و لم يعرف من المذود إلى الجلجثة إلا التضحية و إنكار النفس، فلم يطلب يومًا العفو من واجب مضنٍ، و لم يحاول التخلص من وعثاء سفر، و لم يهرب من عمل شاق، إذ انه “لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم و ليبذل نفسه فدية عن كثيرين” متى ٢٠ : ٢٨، فالخدمة كانت غاية حياته العظمى و الوحيدة، و ما عداها كان ثانويًا و مما يستخدم في سبيل بلوغ الغاية المنشودة، و لم يكن من شيء ليشبع نفسه و يروي ظمأه كعمل مشيئة الآب، حتى أن حياته خلت من الاثرة و محبة الذات خلوًّا تامًا مطلقًا SC 59.3
كل من يقبل نعمة المسيح فمثله يكون على استعداد للقيام بأية تضحية حتى يتسنى لجميع الذين مات عنهم يسوع أن يشتركوا في قبول الهبة السماوية، و انه يسعى أيضًا إلى جعل العالم، بفضل حياته فيه، احسن مما كان عليه، فمثل هذه الخدمة هي من الأثمار الطيبة التي يأتي بها المتجدد الحقيقي الذي إذ اقبل إلى المسيح تولدت في نفسه الرغبة في المناداة بالصديق الحميم الذي وجده و في إعلان الحق الذي خلصه و قدسه و الذي لا يمكن إخفاؤه في قلبه، لان الذي قد لبى برّ المسيح و امتلأ قلبه من فرح الروح لا يستطيع السكوت عما اختبره بعد أن ذاق و عرف “ما أطيب الرب”، كما فعل فليبس الذي إذ وجد المسيح ذهب توًّا و فتش عن نثنائيل و دعاه قائلاً : تعال و انظر” و كذلك يحاول كل متجدد أن يعرض على الناس فضائل المسيح و أن يعرّفهم بغنى العالم غير المنظور و هو في ذلك يشتاق اشتياقًا عظيمًا إلى أن يرى الجميع فيه “حمل الله الذي يرفع خطية العالم” SC 59.4
لا شك في أن كل مسعى نبذله لإسعاد الآخرين يعود علينا بالبركات المضاعفة حسب قصد الله من إشراك الإنسان معه في إنجاز عمل الفداء، لأنه تعالى قد وهب للناس أن يصيروا شركاء الطبيعة الإلهية “و أن يعملوا، هم في دورهم، على إشراك بني جنسهم في هذه البركة. إن هذا لأسمى شرف و اعظم فرح يستطيع الله القدير أن يجود بهما على المخلوقات، فالذين يساهمون الله في أعمال المحبة هم إليه اقرب المقربين SC 60.1
كان من الممكن أن يسند الله الكرازة بالإنجيل إلى الملائكة السماوية و أن يكل اليهم أمر توزيع بركات المحبة، أو أن يستخدم وسيلة أخرى من الوسائل المتوفرة لديه لإنجاز مقاصده، و لكنه تعالى، اختارهم أن يكونوا هم العاملين معه و مع المسيح و الملائكة ليكون لهم أيضًا نصيب وافر من البركات و الأفراح و الرفعة التي تنجم عن هذه الخدمة الجليلة SC 60.2
و من بركات الشركة في آلام المسيح أنها تولد في قلب الشعور بروح المسيح، فالتضحية في الخدمة تقوّي الإنسان على الجود و الإحسان و توثق حلفه مع فادي الانام الذي افتقر و هو الغني لكي يستغني البشر بفقره، و ما لم يتم هكذا قصد الله في خلق الإنسان لا تكون الحياة بركة لصاحبها SC 60.3
إن خصصت نفسك لعمل كلّ ما يريده المسيح من تلاميذه، و سعيت إلى ربح النفوس الهالكة، لا بد من أن تشعر بحاجة إلى اختبار انجع و معرفة أوسع، لأنك تجوع و تعطش إلى البرّ و تتوسل إلى الله أن يقوّي إيمانك و يسقيك جرعات أغزر من ينبوع الخلاص، و أما المقاومة و الصعاب التي تلا قيها فإنها تقودك إلى درس كلمة الله و إلى المداومة على الصلاة فتنمو في نعمة المسيح و معرفته و تسعد باختبارات ثمينة غنية SC 60.4
إن التضحية في العمل لأجل الغير، التضحية الخالية من الاثرة، لتكسب الأخلاق عمقًا و ثباتًا و جمالاً مسيحيًا، و تملأ القائم بها سلامًا و سعادة، و ترفع الأماني و تطهرها و لا تترك مجالاً للتراخي و الإهمال، لأنه من شأن الفضائل المسيحية أن تنمي قوى ممارسها و تمنحه بصيرة ثاقبة و إيمانًا وطيدًا متزايدًا و قدرةً مقتدرةً في الصلاة، فالروح القدس، إذ يعزف على أوتار النفس يخرج منها نغمًا يتجاوب مع النغمة الإلهية، و أولئك الذين يقفون حياتهم على السعي إلى نفع الآخرين إنما هم في الواقع يعملون على خلاص انفسهم SC 60.5
على أن الطريقة المثلى للنمو في النعمة هي أن نشتغل بإخلاص في العمل المفروض علينا، و أن نبذل قصارى جهدنا لمساعدة من هم في حاجة إلى معونتنا، فإنما تتزايد قوتنا، بالمران و العمل، لان النشاط هو من مستلزمات الحياة و ضروراتها، فأولئك الذين يسعون إلى المحافظة على الحياة المسيحية بقبولهم البركات التي تأتيهم عن طريق وسائط النعمة، دون أن يعملوا شيئًا لأجل المسيح، مثلهم كمثل من يحاول أن يأكل دون أن يشتغل أو يعمل. فهذه الحالة، تأثيرها الروحي كتأثيرها الطبيعي، لأن الإنسان الذي يرفض أن يستخدم أعضاءه لا بد من أن يفقد القدرة على استعمالها، و لذلك فان المسيحي الذي لا يستخدم القوى المعطاة له من الله لا يتوقف فقط عن النمو بل هو يفقد القوة التي كانت له SC 61.1
و قد جعل الله كنيسة المسيح أداة لتخليص البشر، و وكل إليها مهمة تبليغ الإنجيل في كل أنحاء العالم، فهذه المسؤولية ملقاة على عاتق المسيحيين أجمعين، و يتعين على كل إنسان أن يعمل على تحقيق هذه المهمة بحسب ما يتيسر له من الفرص و المواهب، لان المحبة التي أعلنها لنا المسيح، تجعلنا مديونين لكل الذين لم يعرفوا المخلص بعد، إذ أن الله قد وهبنا نورًا، لا لكي نستأثر به لأنفسنا، بل لنضيء به على الآخرين SC 61.2
فلو أن اتباع المسيح كانوا متنبهين لواجبهم و حريصين على أداء مهمتهم، لكان الذين يقومون اليوم بنشر رسالة الإنجيل في البلاد الوثنية يُعدّون بالألوف بدلاً من الآحاد القلائل الذين يعملون اليوم، و لكان أولئك الذين لا يستطيعون أن يندمجوا في سلك العمل التبشيري بأنفسهم يخدمون قضية المسيح بأموالهم، و عطفهم، و صلواتهم، و لوجدنا في البلدان المسيحية، غيرة اكثر و اجتهادًا لربح النفوس SC 61.3
و لسنا في حاجة إلى أن نذهب إلى تلك الأقطار الوثنية البعيدة لنخدم المسيح، أو نغادر محيطنا الضيق الذي نعيش فيه، إن كان هو المكان الذي يجب علينا أن نعمل فيه، فنستطيع أن نخدم و نحن في المحيط العائلي، و في الكنيسة، و نستطيع أن نخدم أيضًا بين من نخالطهم و نزاملهم و نعمل معهم SC 62.1
قضى مخلصنا الشطر الأكبر من حياته، و هو يعمل في حانوت نجار بمدينة الناصرة، و قد كانت الملائكة تخدمه، و هو يسير جنبًا إلى جنب مع الفلاحين و العمال الذين لم يلقوا عليه بالاً و لم يعيروه التفاتًا، و كان يؤدي رسالته بكل صبر و أمانة في حرفته المتواضعة، كما كان يؤديها و هو يشفي مريضًا، أو و هو يمشي على بحر الجليل الهائج المائج، و هكذا يوكن لكل إنسان أن يكون في خدمة يسوع، وهو يمارس أوضع الحرف و احقر الأعمال SC 62.2
و لذلك يقول الرسول، “ما دُعي كل واحد فيه أيها الإخوة، فليلبث في ذلك مع الله”، ١ كورنثوس ٧ : ٢٤، فالتاجر يستطيع أن يدير عمله بكيفية تمجد سيده، إذا راعى الأمانة في شغله و جعل ديانته تتخلل كل معاملاته، و اظهر روح المسيح في كل تصرفاته، و الصانع يمكنه أن يكون مجدّا و أمينًا، ممثلاً سيده الذي كان يكدح، مؤديًا رسالته في ابسط الأعمال و اصغرها، و هكذا يجب على كل من يسمي اسم المسيح، أن يؤدي عمله، على الوجه الذي يقود الآخرين إلى تمجيد خالقهم و فاديهم SC 62.3
غير أن الكثيرين يعتذرون عن تقديم خدماتهم للمسيح، بحجة انهم ليسوا كغيرهم ممن خصهم الله بمزايا عظمى، و مواهب ممتازة، حتى لقد ساد عند بعضهم الاعتقاد بأن التكريس للخدمة يستلزم كفاءات نادرة و مؤهلات خاصة لا تتوفر إلا في فئة قليلة من الناس الذين خصهم الله دون سواهم بالمساهمة في الخدمة و الجزاء، و لكن هذه الفكرة لا تتوفر و المثل الذي ضربه المسيح، إذ أوضح “أن رب البيت دعا عبيده، و أسند إلى كل واحد منهم عمله الخاص”، مرقس ١٣ : ٣٤ SC 62.4
فان كان لنا روح المحبة، يمكن أن نؤدي احقر واجبات الحياة، “من القلب كما للرب”، كولوسي ٣ : ٢٣، و إذا كانت محبة الله في قلوبنا، فإنها تتجلى في حياتنا، فتنبعث منا رائحة المسيح الزكية، و يكون تأثيرها في الآخرين عاملاً على رفعتهم و إسعادهم SC 63.1
فما عليك أن تنتظر حتى تتهيأ لك فرص عظيمة، تحصل على مواهب خارقة العادة لكي تستطيع أن تخدم الله، و لا يجب أن تكون مشغولاً بما يفتكر به العالم عنك، لأنه إذا كانت حياتك تشهد بطهارة إيمانك، و إخلاص بواعثك، و شدة رغبتك في خدمة الناس و نفعهم، فان جهودك لن تضيع هباءً SC 63.2
و هكذا يستطيع افقر إنسان و احقر مخلوق من تلاميذ يسوع أن يكون بركة للآخرين، و قد لا يشعر بانه يأتي عملاً يذكر في هذه الحياة، و مع ذلك فانه بتأثيره الخفي يحدث نتائج بعيدة المدى، إذ تتبارك، بسبب حياته و قدوته جموع غفيرة من الناس، و ربما يظل غير شاعر بمثل هذا التأثير في حياة الآخرين حتى ذلك اليوم الذي يكافأ من الله، فأمثال هذا لا يشغلون انفسهم بمدى النجاح الذي يمكن أن يصيبوه، و إنما هم يسيرون في هذه الحياة قُدُمًا، مؤدين عملهم في هدوء و أمانة، بحسب الدعوة التي دعوا إليها، فهؤلاء لن يضيعوا حياتهم سدى، بل هم سيظلون في نمو مطرد حتى يصبحوا مشابهين لصورة المسيح و مثاله، و إذ هم عاملون مع الله في هذه الحياة، فهم بذلك إنما يهيئون انفسهم لذلك العمل الأسمى، و الفرح الخالص المعدَّين لهم في الحياة الأخرى SC 63.3