الصراع العظيم

52/424

فيض من البركات

تلك الحركة العظيمة التي بدأها ويكلف، والتي كانت مزمعة ان تطلق العقول والضمائر من أسرها وتحرر الامم التي ظلت امدا طويلا موثقة الى مركبة روما الظافرة، بدأت ونبعت من الكتاب المقدس . ففي الكتاب كان نبع نهر البركة الذي فاض كماء الحياة وسال مدى الاجيال منذ القرن الرابع عشر . لقد قبل ويكلف الكتب المقدسة بايمان ثابت كالاعلان الموحى به عن ارادة الله والقانون الكافي للايمان والاعمال . كان قد تعلم ان يعتبر كنيسة روما السلطة الالهية المعصومة وان يقبل، بوقار، التعاليم والعادات المصطلح عليها مدى الف سنة، لكنه ترك ذلك كله ليصغي الى ما تقوله كلمة الله المقدسة . هذه هي السلطة التي ألح على الشعب ان يعترف به ا. فبدلا من كون الكنيسة تتكلم على لسان البابا اعلن ان السلطة الحقيقية الوحيدة هي صوت الله متكلما في كتابه . وهو لم يُعَلِّم ان الكتاب المقدس هو الاعلان الكامل لارادة الله وحسب، بل قال أيضا ان الروح القدس هو المفسر الوحيد للكلمة الالهية، وان كل من يدرس تعاليم الكتاب سيعرف واجبه بنفسه ولنفسه . وهكذا حوَّل افكار الناس من البابا وكنيسة روما الى كلمة الله. GC 104.3

لقد كان ويكلف احد اعاظم رجال الاصلاح . ففي اتساع ذهنه وسمو تفكيره، وفي عزمه الثابت على حفظ الحق وجرأته في الدفاع عنه لم يكن يباريه غير القليلين ممن اتوا بعده . ان طهارة الحياة، والنشاط الذي لا يكل في الدرس والكد، والنزاهة التي لا غبار عليها، والمحبة المسيحية والا مانة في الخدمة كانت هي الصفات التي امتاز بها اول المصلحين، وهذا كله على رغم الظلام العقلي والفساد الاخلاقي الذي استشرى في عصره. GC 105.1

ان صفات ويكلف هي شهادة لقوة كلمة الله المهذِّبة والمغيِّرة . فالكتاب المقدس هو الذي صاغه ووسم شخصيته المحببَّة . والسعي الى فهم ح قائق الوحي الالهي يضفي على قوى النفس نشاطا وقوة وهو يوسع الذهن ويشحذ المدارك وينضج التمييز . ودراسة الكتاب تسمو بالافكار والمشاعر والمُثُل اكثر من اي دراسة اخرى، وتُكسب المرء ثبات القصد والصبر والشجاعة والجلد، وتطهِّر الخُلُق، وتقدس النفس . دراسة كتاب الله بروح الغيرة والوقار اذ تقرب بين عقل التلميذ وفكر الله غير المحدود تمنح العالم رجالا أقوى وأنشط عقولا وذوي مبادئ انبل من كل ما قد نتج من اعظم تعليم قد تتضمنه الفلسفة البشرية . يقول صاحب المزامير ”فتح كلامك ينير يعقِّل الجهال“ (مزمور ١١٩ : ١٣٠). GC 105.2

ظلت تعاليم ويك لف تنتشر بعض الوقت . وأتباعه الذين لُقبوا بالويكلفيين واللولارديين لم يكتفوا بالتجول في انحاء انجلترا بل تشتتوا في بلدان اخرى، حاملين معرفة الانجيل . أما الان وقد أُخذ منهم قائدهم فقد خدموا بغيرة اعظم مما فعلوا من قبل، فتقاطرت جماهير الناس تستمع الى تعاليمهم . وبعض النبلاء وحتى الملكة نفسها كانوا ضمن المهتدين . وفي كثير من الاماكن كان هنالك إصلاح ملحوظ في عادات الناس، وحتى الرسوم والرموز الوثنية البابوية أزيلت من الكنائس. ولكن سرعان ما هبت عاصفة الاضطهاد القاسية على اولئك الذين تجرأوا على قبول الكتاب المقدس مرش دا لهم . فاذ كان ملوك الانجليز يتوقون الى توطيد سلطانهم بالحصول على معاضدة روما لم يترددوا في التضحية بأولئك المصلحين. ولأول مرة في تاريخ انجلترا تقرر حرق تلاميذ الانجيل بالنار . وقد جاء استشهاد في اثر آخر . فالمحامون عن الحق الذين نُفوا او عذبوا لم يسعهم الا ان يسكبوا صرخاتهم في اذني رب الجنود . واذ طوردوا كاعداء للكنيسة وخونة ضد المملكة كانوا يبشرون في الاماكن الخفية وعلى قدر الإمكان كانوا يلجأون الى بيوت الفقراء الوضيعة، وكثيراً ما كانوا يلجأون الى المغاور والكهوف في بطون الجبال. GC 105.3

ولكن على الرغم من هول الاضط هاد فقد رُفع احتجاج هادىء مقدس غيور صبور ضد الفساد المتفشي في الايمان والعقيدة الدينية مدى قرون طويلة . ان المسيحيين الذين عاشوا في تلك العصور القديمة كانوا يعرفون جزءا من الحق، ومع هذا فقد تعلموا أن يحبوا كلمة الله ويطيعوها، وبكل صبر احتملوا الآلام في سبيلها. ومثل التلاميذ في العصر الرسولي ضحى كثيرون منهم باملاكهم واموالهم في سبيل دعوة المسيح . والذين منهم سُمح لهم بالسكنى في بيوتهم آووا معهم بكل سرور اخوتهم المنفيين . ولكن عندما طُردوا هم ايضا قبلوا بكل فرح ان يكونوا شريدين . نعم، ان آلافا منهم اذ ارعبهم اهتي اج مضطهديهم اشتروا حريتهم بتضحية ايمانهم فأطلق سراحهم من السجون والبسوا مسوح التائبين ليعلنوا على الملأ انكارهم للايمان . لكنّ عدد الذين حملوا مشعل الشهادة في السجون المظلمة في معاقل اللولارد لم يكن قليلا . وكان بينهم جماعة من النبلا ء من اصل عريق، كما كان بينهم ايضا ا لفقراء والوضعاء. وفي وسط العذاب، والنيران تلتهم اجسامهم، كانوا متهللين لانهم قد حُسبوا اهلا لان يعرفوا ”شركة آلامه“. GC 106.1

لقد اخفق البابويون في تنفيذ ارادتهم مع ويكلف في حياته، ولم يشفوا غليلهم منه حتى عندما كان جثمانه راقدا مستريحا وساكنا في قبره . فبناء على مرسوم اصدره مجمع كونستانس بعد موت ويكلف بأكثر من أربعين عاما نُبش قبره واحرقت عظامه على ملأ من الناس، والقي برماده في نهر قريب . وقد قال كاتب قديم: ”ان هذا النهر قد حمل رماده الى نهر الافون، ونهر الاف ون حمله الى نهر السفرن وحمله السفرن الى البحار الضيقة وهذه بدورها حملته الى الاوقيانوس العظيم . وهكذا كان رماد ويكلف رمزا لتعاليمه التي هي الآن منتشرة في كل العالم“ (١٧). ولم يكن اعداؤه يفهمون مغزى فعلتهم الخبيثة. GC 107.1

وبواسطة مؤلفات ويكلف نبذ جون هس من بوهيميا كثيرا من الضلالات البابوية، وشرع في عمل الاصلاح . وهكذا ففي هذين البلدين المتباعدين المنفصلين القي بذار الحق . ومن بوهيميا امتد الاصلاح الى بلدان اخرى . واتجهت افكار الناس الى كلمة الله التي كانت قد نُسيت وأهملت طويلا . أن يدا الهية كانت تعد الطربق للاصلاح العظيم. GC 107.2