الصراع العظيم

339/424

شر ينجم عن الهرطقة

ليس في مقدور العقل البشري ان يقدر الشر العظيم الذي حدث بسبب ضلالة العذاب الابدي . ان دين الكتاب المقدس، المفعم بالحب والصلاح والفائض بالرحمة، يكتنفه ظلام الخرافات ويحاط بالرعب . وعندما نتأمل في أي من الالوان الخادعة التي صور بها الشيطان صفات الله فهل نستغرب اذا كان الناس يخشون من الخالق الرحيم ويرهبون جانبه ويرتعبون منه بل يبغضونه ؟ إن الآراء المرعبة عن الله، التي تُفهم من التعاليم التي تلقى من على المنابر في كل انحاء العالم، قد خلقت آلافا بل ملايين من المتشككين والملحدين. GC 583.1

ان نظرية العذاب الابدي هي احدى العقائد الكاذبة التي منها تتكون خمر رجس بابل التي تجعل كل الامم تشرب منها (رؤيا ١٤ : ٨ ؛ ١٧ : ٢). ان كون خدام المسيح قد قبلوا هذه الضلالة وجاهروا بها من المنابر المقدسة هو سر يعسر فهمه . لقد اخذوها عن روما كما قد أخذوا السبت الزائف . نحن لا ننكر ان الذين قد علَّموا بها هم عظماء واخيار، لكنّ النور الخاص بهذا الموضوع لم يصل اليهم كما قد وصل الين ا. لقد كانوا مسؤولين عن النور الذي أشرق في أيامهم من دون سواه، أما نحن فمسؤولون عن النور الذي ينير في أيامن ا. فاذا ارتددنا عن شهادة كلمة الله وقبلنا التعاليم الكاذبة لأن آباءنا علَّموا بها فاننا نقع تحت الدينونة التي نطق بها الرب ضد بابل اذ نحن نشرب من خمر رجاساتها. GC 583.2

ينساق فريق كبير ممن تثيرهم وتنفرهم عقيدة العذاب الابدي الى الضلالة المضادة له ا. فهم يرون ان الكتاب المقدس يصور الله ككائن محب رحيم، ولذلك فلا يمكنهم ان يعتقدوا ان الله سيحبس خلائقه في نيران الجحيم المتقد ة الى الابد. ولكن لكونهم يعتقدون ان النفس خالدة بالطبع، فهم لا يرون بديلا سوى ان يستنتجوا ان كل بني الانسان سيخلصون اخير ا. وكثيرون يعتبرون ان التهديدات المذكورة في الكتاب قُصد بها اخافة الناس لتسوقهم الى الطاعة ولم يكن المقصود تنفيذها حرفي ا. وهكذا يمكن للخ اطئ ان يعيش في المسرات النفسانية مزدريا بمطالب الله ومع ذلك ينتظر ان يتلقّاه الله في النهاية بالرضى والقبول. مثل هذا التعليم الذي يجترئ على رحمة الله ويتجاهل عدالته في الوقت نفسه يسر القلب البشري ويشجع الاشرار على السير في طريق الاثم. GC 584.1

ولكي نبرهن كيف يحرف المعتنقون عقيدة الخلاص العام كلمة الله لتأييد عقائدهم المهلكة لنفوسهم يلزمنا فقط ان نقتبس اقوالهم . ففي حفل تأبين شاب غير متدين كان قد قُتل في حادث في التو والساعة اختار احد معتنقي عقيدة الخلاص العام هذه الآية الواردة عن داود: ”تعزى عن أمنون حيث أنه مات“ (٢ صموئيل ١٣ : ٣٩). GC 584.2

قال الخطيب: ”كثيرا ما أسأل هذا السؤال: ما هو مصير اولئك الذين يتركون العالم وهم في خطاياهم ويموتون ربما وهم في حالة السكر ومخمورون، ويموتون وايديهم ملوثة بدماء ضحايا جرائهم، ولم يغسلوا ثيابهم، أو يموتون كما قد مات هذا الشاب الذي لم يقدم اعترافا ولا مرة واحدة او تمتع باختبار ديني ؟ اننا مكتفون بما ورد في الكتاب فجوابه فيه حل للمشكلة الخطيرة . لقد كان أمنون شريرا جدا ولم يتب عن خطاياه وكان قد سكر، وهو في حالة السكر قُتل . وكان داود نبيا لله، ولا بد أن يكون قد عرف ما اذا كان سيصيب أمنون خير أو شر في العالم الآتي . فماذا كانت خلجات قلبه؟ ”وكان داود يتوق الى الخروج الى أبشالوم لأنه تعزى عن أمنون حيث أنه مات“ (٢ صموئيل ١٣ : ٣٩ ). GC 584.3

”وما هي النتيجة التي نخرج بها من هذا الكلام ؟ الا نفهم من هذا أن العذاب اللانهائي لم يكن ضمن عقيدته الدينية ؟ وهكذا نحن ندرك وهنا نكتشف حجة ظافرة لتأييد نظرية الطهارة والسلام النهائيين الشاملين، تلك النظرية الاعظم سرورا ونورا وتسامحا وحبا واحسان ا. لقد تعزى حيث أن ابنه مات . ولماذا هذا ؟ لأنه أمكنه بعين النبوة ان يرى ما سيحدث فيما بعد، يرى المستقبل المجيد، ويرى ذلك الابن بعيدا عن متناول كل التجارب ومتحررا من العبودية ومطهرا من مفاسد الخطيئة، وبعدما صار مقدسا ومستنيرا بالكفاية سُمح له بالانضمام الى محفل الارواح الصاعدة المتهللة . كان عزاءه الوحيد انه اذ نُقل ابنه الحبيب من حال الخطيئة والالم تُسكب اسمى أشواق الروح القدس على نفسه المكتنفة بالظلام حيث ينكشف لعقله حكمة السماء وفرط السرور العذب الذي للمحبة الخالدة، وهكذا يؤهل بطبيعته المقدسة ليتمتع براحة الميراث السماوي وعشرة الابرار. GC 585.1

”ونحن بهذه الافكار نريد أن يُفهم عنا أننا نعتقد أن خلاص السماء لا يتوقف على أي شيء نفعله في هذه الحياة، لا على تغيير حالي في القلب ولا على عقيدة حالية او اعتراف حالي بالدين“. GC 585.2

وهكذا نحن نسمع احد المدعوين خدام المسيح يردد الاكذوبة نفسها التي نطقت بها الحية في عدن حين قالت : ”لن تموتا“، ”وم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله“. وهو يعلن ان انجس الخطاة، سواء كان قاتلا أو لصا او زانيا، سيكون بعد الموت مستعدا للدخول الى السعادة الابدية. GC 585.3

ولكن من اين يستنبط هذا المحرف لأقوال الله استنتاجاته هذه ؟ من عبارة واحدة نطق بها داود معبرا بها عن خضوعه لتصاريف العناية: ”كان داود يتوق الى الخروج الى أبشالوم لانه تعزى عن أمنون حيث انه مات“. فبما ان شدة حزنه كانت قد خفت بمرور الوقت اتجهت افكاره من ابنه الميت الى ابنه الحي الذي قد نفى نفسه خوفا من قصاص جريمته العادل . وهذا هو البرهان على ان امنون، الذي كان قد ارتكب الفحشاء مع اخته والذي كان مخموراً، نقل ح ال موته الى مواطن الغبطة والسعادة حيث يتطهر ويؤهل لمعاشرة الملائكة الاطهار ! هذه خرافة لذيذة حقا كفيلة بأن تشبع القلب البشري . وهذه هي عقيدة الشيطان نفسها، وهي تنجز عمله بكل نجاح . فهل نستغرب انه مع وجود هذا التعليم يكثر الشر ويتفاقم ؟ GC 585.4

ان الطريق الذي يسلك في ه هذا المعلم المحتكر الكاذب هو مثال لما يفعله كثيرون غيره . فبعض اقوال الكتاب تُفصل عن قرينتها التي في حالات كثيرة تبرهن على ان المعنى هو على عكس ما قد فُسر به تماما، ومثل هذه الفصول المفككة تُحرَّف وتستخدم كبرهان لاثبات تعاليم لا أساس لها في كلمة الله . ان الشهادة المقتبسة على أن أمنون الذي كان سكرانا هو في السماء انما هي اشارة تناقض على خط مستقيم التصريح الكتابي الايجابي القائل بأن السكيرين لا يرثون ملكوت الله (١ كورنثوس ٦ : ١٠). وبهذه الطريقة يحوِّل المتشككون وغير المؤمنين والملحدون حق الله الى كذب . وقد انخدع كثيرون بمغالطاتهم وهُزهزوا ليناموا في مهد الطمأنينة الشهوانية. GC 586.1

فلو كان حقا ان ارواح كثيرين من الناس تنتقل الى السماء مباشرة في ساعة الموت لكان لنا ان نشتهي الموت ونفضله على الحياة . لقد ساق هذا الاعتقاد كثيرين من الناس الى القضاء على حياتهم بالانتحار . فعندما تغمرهم الضيقات والمتاعب والارتباك والخيبة فانه يبدو امرا سهلا ان يفصموا ربط الحياة الواهنة ويصعدوا الى السعادة في دنيا الابد. GC 586.2