المُعلّم الأعظم
١٧ - « اتْرُكْهَا هذِهِ
السَّنَةَ أَيْضًا ”
(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في لوقا ١٣: ١-٩). COLAr 193.1
إنّ المسـيح في تعليمــه ربط دعـوة الرحـمة بالإنذار بالدينونة. فلقد قال: « لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ » (لوقا ٥٦:٩). « لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ » (يوحنا ٣: ١٧). أن رسالة رحمته في علاقتها بعدل الله ودينونته نجدها مصورة في مثل التينة العقيمة. COLAr 193.2
كان المسيح ينذر الشعب بمجيء ملكوت الله وقد وبخهم توبيخا صارما على جهلهم وعدم اكتراثهم. فالعلامات التي كانت تُرى في السماء منبئة عن الطقس سرعان ما كانوا يقرأونها، أما علامات الأزمنة التي أشارت بكل وضوح إلى رسالته فلم يميزوها. COLAr 193.3
ولكن الناس كانوا مستعدين، آنئذ كما هي الحال مع الناس اليوم، لأن يظنوا أنهم محاسيب السماء وأنّ رسالة التوبيخ موجهة إلى أناس آخرين. لقد أخبر السامعون يسوع عن حادثة سببت كثيرا من الاهتياج منذ عهد قريب. ذلك أنّ بعض الإجراءات التي قام بها بِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ أغضبت الشعب. فقد حدث في أورشليم شغب عام وحاول بِيلاَطُسُ أن يقمعه بالعنف. ففي مرّة دخل جنوده تخوم الهيكل وقتلوا بعض الحجاج القادمين من الجليل في نفس الوقت الذي كانوا فيه يذبحون ذبائحهم. كان اليهود يعتبرون الكوارث أحكاما من الله تقع على أصحابها بسبب الخطية. والذين أخبروا عن هذه القسوة فعلوا ذلك وهم راضون عن أنفسهم في أعماقهم. فقد كانوا يرون أن حظّهم الحسن يبرهن على أنهم أفضل بكثير من غيرهم ولذلك فهم أكرم لدى الله من هؤلاء الجليليين. وكانوا ينتظرون أن يسمعوا من يسوع كلام الذم والإدانة لهؤلاء الناس الذين لم يكن لهم شكّ في أنّهم يستحقون هذا الجزاء الصارم. COLAr 193.4
ولم يجرؤ تلاميذ المسيح على التعبير عن آرائهم حتى يسمعوا رأي معلمهم. كان قد قدم لهم دروسا سديدة فيما يختص بالحكم على أخلاق الغير وقياس الجزاء بموجب حكمهم المحدود. ومع ذلك فقد كانوا ينتظرون أن المسيح سيحكم على هؤلاء الناس بأنهم خطاة أكثر من غيرهم. وما كان أعظم دهشتهم عندما سمعوا جوابه. COLAr 194.1
فإذ نظر المُخَلِّص إلى الجمع قال: « أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ » (لوقا ١٣: ٢، ٣). لقد كان القصد من هذه الكوارث المفزعة أن يتضعوا بقلوبهم ويتوبوا عن خطاياهم. كانت عاصفة الانتقام تتجمع وكانت موشكة أن تنقضّ على كل من لم يحتموا في المسيح. COLAr 194.2
وإذ كان يسوع يحدث تلاميذه والجمع نظر إلى الأمام بعين النبوة ورأى أورشليم محاطة بجيوش وسمع وقع أقدام الأمم وهم يصطفون على المدينة المختارة ورأى ألوفا فوق ألوف يهلكون في الحصار. وكثيرون من اليهود ذُبحوا في رواق الهيكل كأولئك الجليليين، وهم يقدمون ذبائحهم. لقد كانت الكوارث التي حلت بالأفراد إنذارات من الله للأمة التي كانت مذنبة مثلهم. قال يسوع: « إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ ». إنّ يوم إمهالهم تأخّر قليلا. فقد كان باقيا لهم زمان ليعرفوا ما هو لسلامهم. COLAr 194.3
ثم استطرد يقول: « كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ، فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَرًا وَلَمْ يَجِدْ. فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَرًا فِي هذِهِ التِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا! لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضًا؟ » (لوقا ١٣: ٦، ٧). COLAr 195.1
إن سامعي المسيح لم يجهلوا تطبيق أقواله. لقد تغنى داود عن إسرائيل كالكرمة التي نُقلت من مصر. كما سبق إِشَعْيَاء فكتب يقول: « إِنَّ كَرْمَ رَبِّ الْجُنُودِ هُوَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ، وَغَرْسَ لَذَّتِهِ رِجَالُ يَهُوذَا » (إِشَعْيَاء ٥٠: ٧). وأهل الجليل الذين جاءهم المسيح شُبهوا بشجرة التين في كرم الرب في داخل حدود رعايته وبركته الخاصة. COLAr 195.2
إنّ قصد الله نحو شعبه والإمكانيات المجيدة التي كانت أمامهم أوضحـت في هـذا القول الجميل: « فَيُدْعَوْنَ أَشْجَارَ الْبِرِّ، غَرْسَ الرَّبِّ لِلتَّمْجِيدِ » (إِشَعْيَاء ٦١: ٣). ويعقوب عند احتضاره قال مسوقاً بروح الإلهام عن ابنه الحبيب: « يُوسُفُ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ عَلَى عَيْنٍ. أَغْصَانٌ قَدِ ارْتَفَعَتْ فَوْقَ حَائِطٍ » ثم قال: « إِلهِ أَبِيكَ … يُعِينُكَ … الْقَادِر عَلَى كُلِّ شَيْءٍ » يباركك ببركات « السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَبَرَكَاتُ الْغَمْرِ الرَّابِضِ تَحْتُ » (تكوين ٤٩: ٢٢، ٢٥). وهكذا غرس الله شعبه ككرمة طيبة بجانب ينابيع الحياة. لقد جعله على « أَكَمَةٍ خَصِبَةٍ » و « نَقَبَهُ وَنَقَّى حِجَارَتَهُ وَغَرَسَهُ كَرْمَ سَوْرَقَ » (إِشَعْيَاء ٥: ١، ٢). « فَانْتَظَرَ أَنْ يَصْنَعَ عِنَبًا فَصَنَعَ عِنَبًا رَدِيئًا » (إِشَعْيَاء ٥: ٢). إنّ الناس في أيام المسيح كان تظاهرهم بالتقوى أعظم من تظاهر اليهود في العصور السالفة ولكنهم كانوا أكثر من أولئك تجرّدا من فضائل روح الله الجميلة. فثمار الخلق الثمينة التي جعلت حياة يوسف عطرة وجميلة جدّا لم يكن لها وجود في الأمة اليهودية. COLAr 195.3
والله في شخص ابنه ظلّ يطلب ثمراً ولم يجد. لقد كان إسرائيل مبطّلا للأرض. لقد كان نفس وجوده لعنة لأنَّه شغل مكانا في الكرم كان يمكن أن تشغله شجرة مثمرة. لقد سلب من العالم البركات التي قصد الله أن يمنحها له. ولقد شوّه الإسرائيليون صورة الله وصفاته بين الأمم. إنّهم لم يكونوا عديمي النفع وحسب ولكنّهم كانوا معطّلا صريحا. لقد كان دينهم مضللا بدرجة كبيرة وتسبب في الهلاك بدل الخلاص. COLAr 196.1
نجد في المثل أنّ الكرام لا يشك في الحكم بقطع الشجرة لو بقيت بلا ثمر ولكنه يعرف اهتمام صاحب الكرم بالشجرة العقيمة ويشاركه في ذلك الاهتمام. فليس ما يبهجه أكثر من أن يراها نامية ومثمرة. وهو يجيب على رغبة صاحب الكرم بقوله: « اتْرُكْهَا هذِهِ السَّنَةَ أَيْضًا، حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَرًا … » (لوقا ١٣: ٨، ٩). COLAr 196.2
إنّ البستاني لا يرفض خدمة مثل هذه الشجرة التي لا رجاء فيها. إنّه يقف مستعدّا لأن يوليها عناية أعظم. وهو سيجعل بيئتها أكثر نفعا وسيسخو عليها بكل اهتمام. COLAr 196.3
إنّ صاحب الكرم والكرّام متحدان في اهتمامهما بشجرة التين. وكذلك كان الآب والابن متّحدَين في حبهما للشعب المختار. كان المسيح يقول لسامعيه إنّ فرصا أكثر ستُعطى لهم. وكلّ وسيلة أمكن لمحبة الله أن تبتكرها ستعمل حتى يصيروا أشجار البرّ يثمرون ليباركوا العالم. COLAr 197.1
إنّ يسوع في هذا المثل لم يخبرهم عن نتيجة عمل الكرام. فعند هذا الحد قطع القصة. فقد كانت خاتمتها متوقفة على جموع الشعب الذين سمعوا أقواله. فقد قُدّم إليهم هذا الإنذار الخطير: « وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا ». كان يتوقف عليهم ما إذا كان الحكم الذي لا يُردّ سيقع عليهم. لقد كان يوم الغضب قريباً. وفي الكوارث التي وقعت على إسرائيل كان صاحب الكرم ينذرهم مقدّما رحمة منه بهلاك الشجرة العقيمة. COLAr 197.2
وإنّ نفس الإنذار يرنّ صداه عبر العصور حتى يصل إلينا في عصرنا هذا. فيا أيها القلب المهمل هل أنت شجرة عقيمة في كرم الرب؟ وهل ستسمع حكم الدينونة بعد قليل؟ وكم من الزمن ظللت تتمتع بعطاياه؟ وكم من الزمن ظل هو يراقب وينتظر أن يجد تجاوبا مع محبته؟ فإذ أنت مغروس في كرمه وتحت رعاية الكرّام الساهرة، أيّة امتيازات هذه التي لك! وكم مرّةً هزّت رسالة الإنجيل الرقيقة قلبك! لقد اتّخذت اسم المسيح وأنت، ظاهرَيّا، عضوٌ في الكنيسة التي هي جسده، ومع ذلك فأنت لا تحسّ باتصال حيّ بين قلبك وقلب المحبة الكبير. إنّ فيض حياته لا يجري فيك. وفضائل صفاته « ثَمَرُ الرُّوحِ » لا يُرى في حياتك. COLAr 197.3
إنّ الشجرة العقيمة تتمتع بالمطر والشمس ورعاية الكرام. وهي تمتص الغذاء من التربة، ولكنّ أغصانها العقيمة تظلم الأرض بحيث أنّ النبتات المثمرة لا تستطيع أن تزدهر بسبب الظلال التي تلقيها عليها. وكذلك هبات الله التي يغدقها عليك لا تحمل بركة للعالم. أنت تسلب الآخرين الامتيازات التي لولاك لكانت تصير من نصيبهم. COLAr 198.1
إنّك تدرك وإن يكن بغير وضوح أنّك مُبطّل للأرض. ومع ذلك فالله في رحمته العظيمة لم يقطعك. إنّه لا ينظر إليك بفتور وهو لا ينصرف عنك في غير اكتراث ولا يتركك للهلاك. فإذ ينظر إليك يصرخ كما قد صرخ منذ عصور طويلة مضت عن إسـرائيل قـائلا: « كَيْفَ أَجْعَلُكَ يَا أَفْرَايِمُ، أُصَيِّرُكَ يَا إِسْرَائِيلُ … لاَ أُجْرِي حُمُوَّ غَضَبِي. لاَ أَعُودُ أَخْرِبُ أَفْرَايِمَ، لأَنِّي اللهُ لاَ إِنْسَانٌ » (هوشع ١١: ٨، ٩). إن المُخَلِّص الرحيم يقول عنك: أتركها هذه السنة أيضا حتى أنقب حولها وأضع زبلا. COLAr 198.2
بأي محبة لا تكلّ خدم المسيح إسرائيل في أثناء فترة الإمهال التي أضيفت لهم. فإذ كان على الصليب صلى قائلا: « يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ » (لوقا ٢٣: ٢٤). وبعد صعوده كُرز بالإنجيل في أورشليم أولا وهناك انسكب الرُّوح الْقُدُس. وهناك أعلنت كنيسة الإنجيل الأولى قوة المُخَلِّص المُقَام. وهناك استفانوس — إذ كان « وَجْهَهُ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَلاَكٍ » (أعمال ٦: ١٥). قدم شهادته وبذل حياته. فكل ما أمكن للسماء نفسها أن تقدمه مُنح لهم. قال المسيح: « مَاذَا يُصْنَعُ أَيْضًا لِكَرْمِي وَأَنَا لَمْ أَصْنَعْهُ لَهُ؟ » (إِشَعْيَاء ٥: ٤). وهكذا رعايته لك وتعبه لأجلك لم ينقصا بل زادا. وهو لا يزال يقول: « أَنَا الرَّبُّ حَارِسُهَا. أَسْقِيهَا كُلَّ لَحْظَةٍ. لِئَلاَّ يُوقَعَ بِهَا أَحْرُسُهَا لَيْلاً وَنَهَارًا » (إِشَعْيَاء ٢٧: ٣). COLAr 199.1
« إِنْ صَنَعَتْ ثَمَرًا، وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ ” COLAr 199.2
إنّ القلب الذي لا يستجيب للقوى الإلهية يتقسّى حتى لا يعود يحسّ بتأثير الرُّوح الْقُدُس، وحينئذ ينطق بالحكم: « اِقْطَعْهَا! لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضًا؟ » COLAr 199.3
واليوم هو يدعوك قائلا: « اِرْجِعْ يَا إِسْرَائِيلُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِكَ … أَنَا أَشْفِي ارْتِدَادَهُمْ. أُحِبُّهُمْ فَضْلاً … أَكُونُ لإِسْرَائِيلَ كَالنَّدَى. يُزْهِرُ كَالسَّوْسَنِ، وَيَضْرِبُ أُصُولَهُ كَلُبْنَانَ … يَعُودُ السَّاكِنُونَ فِي ظِلِّهِ يُحْيُونَ حِنْطَةً وَيُزْهِرُونَ كَجَفْنَةٍ … مِنْ قِبَلِي يُوجَدُ ثَمَرُكِ » (هوشع ١٤: ١-٨). COLAr 199.4