المُعلّم الأعظم

40/61

الأمة اليهودية

لقد تبع مثَلُ الابنين مثَلَ الكَرْم. ففي المثَل الأول وضع المسيح أمام معلمي اليهود أهمية الطاعة. أما في المثل الثاني فقد أشار إلى البركات الغنية الممنوحة لإسرائيل، وفي هذه أبان حقَّ الله في طلب طاعته. وقد وضع أمامهم قصد الله المجيد الذي كان يمكنهم إتمامه بالطاعة. وإذ أزاح الستار عن المستقبل أراهم كيف أنّ الأمة كلها بسبب إخفاقها في إتمام قصده خسرت بركته وجلبت على نفسها الدمار. COLAr 260.1

قال المسيح: « كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْمًا، وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً، وَبَنَى بُرْجًا، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ » (متى ٢١: ٣٣). COLAr 260.2

لقد قدم إِشَعْيَاء وصفا لهذا الكرم فقال: « لأُنْشِدَنَّ عَنْ حَبِيبِي نَشِيدَ مُحِبِّي لِكَرْمِهِ. كَانَ لِحَبِيبِي كَرْمٌ عَلَى أَكَمَةٍ خَصِبَةٍ. فَنَقَبَهُ وَنَقَّى حِجَارَتَهُ وَغَرَسَهُ كَرْمَ سَوْرَقَ، وَبَنَى بُرْجًا فِي وَسَطِهِ، وَنَقَرَ فِيهِ أَيْضًا مِعْصَرَةً، فَانْتَظَرَ أَنْ يَصْنَعَ عِنَبًا » (إِشَعْيَاء ٥: ١، ٢). COLAr 260.3

إنّ الكرام يختار قطعة أرض من البرّية، ويحيطها بسياج وينقّبها ويفلحها ويغرسها بأجود أنواع الكرم منتظرا محصولا غنيا. إنّه ينتظر أنّ بقعة الأرض هذه في تفوّقها على القفر القاحل ستكرمه بكونها تبيـّن نتائج عنايته وتعبه في إصلاحها وزرعها. وهكذا اختار الله لنفسه شعبا من بين العالم ليدرّبه المسيح ويعلّمه. والنبي يقول: « إِنَّ كَرْمَ يَهْوَهِ ٱلْجُنُودِ هُوَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ، وَغَرْسَ لَذَّتِهِ رِجَالُ يَهُوذَا » (إِشَعْيَاء ٥: ٧). لقد أغدق الله على هذا الشعب بركاتٍ وامتيازاتٍ عظيمةً مباركا إياهم بغنى من فيض جوده. وقد انتظر أنّهم يكرمونه بكونهم يأتون بثمر. كان عليهم أن يُظهروا مبادئ ملكوته. ففي وسط العالم الساقط الشرير كان عليهم أن يُظهروا صفاتِ الله. COLAr 261.1

فككرم الرب كان عليهم أن يثمروا ثمرا يختلف اختلافا كليا عن الأمم الوثنية. فهذه الشعوب الوثنية كانت قد أسلمت نفسها لعمل الشر. فقد انغمس الناس في القسوة والجرائم والطمع والظلم وأفسدوا الأعمال النجسة بغير مانع. فقد كان الإثم والانحطاط والشقاء هي ثمار هذه الشجرة الفاسدة. ولكن الكرم الذي هو من غرس يدي الله كان يجب أن يثمر ثمرا يختلف عن هذه الثمار اختلافا ملحوظا. COLAr 261.2

وقد كان امتيازٌ للأمة اليهودية أن تُظهر صفات الله كما قد أظهِرت لموسى. وقد اسـتجاب الرب لطِلبة موسى: « أَرِنِي مَجْدَكَ » بأن وعده قائلا : « أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ » (خروج ٣٣: ١٨، ١٩). « فَاجْتَازَ الرَّبُّ قُدَّامَهُ، وَنَادَى الرَّبُّ: الرَّبُّ إِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ. حَافِظُ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ » (خروج ٣٤: ٦، ٧). هذا هو الثمر الذي طلبه الله من شعبه. ففي طهارة أخلاقهم وقداسة حيـاتهم، في رحمـتـهم ورأفـتـهم وإشـفـاقهم كان عليـهم أن يبرهنـوا على أنّ « نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ » (مزمور ١٩: ٧). COLAr 261.3

فعن طريق الأمة اليهودية قصد الله أن يوزع بركاتِه على كل الشعوب. وعن طريق إسرائيل كان يجب إعداد الطريق حتى يشعّ نور الله على كل العالم. إنّ أمم العالم بمزاولتها أعمالا فاسدة أضاعت معرفةَ الله. ومع ذلك فإنّ الله في رحمته لم يمحُها من الوجود. فقد قصد أن يعطيهم فرصة للتعرف به عن طريق كنيسته. وقد قصد أنّ المبادئ المعلنة بواسطة شعبه تكون وسيلةَ إعادة صورة الله الأدبية إلى الإنسان. COLAr 262.1

ولأجل إتمام هذا الغرض دعا الله إِبْرَاهِيم من بين عشيرته الوثنية وأمره بالسكنى في أرض كنعان. فقال له: « أَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأعظم اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً » (تكوين ١٢: ٢). COLAr 262.2

وقد نزل نسل إِبْرَاهِيم، يعقوب وأولاده، إلى مصر حتى وهُم في وسط تلك الأمة العظيمة الشريرة يعلنون مبادئ ملكوت الله. هذا وإنّ استقامة يوسف ونزاهته وعمله العجيب في حفظ حياة الشعب المصري كله كانت تصويرا لحياة المسيح. وقد كان موسى وكثيرون غيره شهوداً لله. COLAr 262.3

وعند إخراج إسرائيل من مصر أظهر الرب قدرته ورحمته مرة أخرى. وعجائبه التي أجراها في إنقاذهم من العبودية ومعاملاته معهم أثناء ترحالهم في البرية لم تكن لأجل منفعتهم وحدهم. فقد كان القصد منها أن تكون مثلا منظورا للأمم المجاورة. لقد أعلن الرب نفسه كالإله الذي يسمو فوق كل سلطان وعظمة بشرية. والآيات والعجائب التي أجراها لأجل شعبه برهنت على أن له سلطاناً على الطبيعة وعلى أعظم العظماء الذين عبدوا الطبيعة. لقد اجتاز الله ففي وسط أرض مصر المتكبّرة كما سيجتاز في الأرض في الأيام الأخيرة. فبالنار والعواصف والزلازل والموت افتدى أهيه العظيم شعبه. لقد أخرجهم من أرض العبودية. سار بهم في « الْقَفْرِ الْعَظِيمِ الْمَخُوفِ، مَكَانِ حَيَّاتٍ مُحْرِقَةٍ وَعَقَارِبَ وَعَطَشٍ » وأخرج لهم « مَاءً مِنْ صَخْرَةِ الصَّوَّانِ » (تثنية ٨: ١٥)، « وَبُرَّ السَّمَاءِ أَعْطَاهُمْ » (مزمور ٧٨: ٢٤). فقد قال موسى: « إِنَّ قِسْمَ الرَّبِّ هُوَ شَعْبُهُ. يَعْقُوبُ حَبْلُ نَصِيبِهِ. وَجَدَهُ فِي أَرْضِ قَفْرٍ، وَفِي خَلاَءٍ مُسْتَوْحِشٍ خَرِبٍ. أَحَاطَ بِهِ وَلاَحَظَهُ وَصَانَهُ كَحَدَقَةِ عَيْنِهِ. كَمَا يُحَرِّكُ النَّسْرُ عُشَّهُ وَعَلَى فِرَاخِهِ يَرِفُّ، وَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَيَأْخُذُهَا وَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنَاكِبِهِ، هكَذَا الرَّبُّ وَحْدَهُ اقْتَادَهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلهٌ أَجْنَبِيٌّ » (تثنية ٣٢: ٩-١٢). وهكذا أتى بهم إلى نفسه ليسكنوا في ظل القدير. وقد كان المسيح هو القائد لبني إسرائيل في رحلاتهم عبر البرية. فإذ كان محتجبا في عمود السحاب في النهار وعمود النار في الليل قادهم وهداهم. وقد حفظهم من مخاطر البرية، وأتى بهم إلى أرض الموعد، وأمام عيون كل الأمم التي لم تعترف بالله ثبَّت إسرائيل كخاصته المختارة وكرّم الرب. COLAr 262.4

هذا الشعب أستؤُمن على أقوال الله. وقد أُقيم حولهم سياج من وصايا شريعته — مبادئ الحق والعدل والطهارة. فكانت حمايتهم في إطاعتهم لهذه المبادئ لأنّ ذلك كان يحفظهم من إهلاك أنفسهم بالأعمال الشريرة. وكالبرج الذي بُني في الكرم أقام الله في وسط الأرض هيكله المقدس. COLAr 263.1

ثم إنّ المسيح كان معلّما لهم. فكما كان معهم في البرية كذلك كان سيظل معلّمهم ومرشدهم. فقد حل مجده في الشَّكَينا المُقَدَّس فوق غطاء الرحمة في الخيمة وفي الهيكل. وقد كشف لهم عن غنى محبته وصبره على الدوام. COLAr 264.1

كان الله يتوق لأن يجعل شعبه إسرائيل تسبيحة ومجداً. فقد أعطى لهم كل امتياز روحي. فالله لم يمنع عنهم شيئا موافقا أو مساعدا لتكوين الخلق الكفيل بأن يجعلهم نوابا عنه. COLAr 264.2

إنّ طاعتهم لشريعة الله كانت عتيدة أن تجعلهم معجزات للنجاح أمام أمم العالم. فذاك الذي يستطيع أن يمنحهم حكمة ومهارة في كل أعمال الصناعة الحاذقة كان يمكن أن يظل معلّما لهم ويسمو بهم ويرفعهم عن طريق الطاعة لنواميسه. فلو أطاعوا كانوا يُحفظون من الأمراض التي ابتُليت بها الأمم الأخرى وكانوا يبارَكون بالنشاط الفكري. وكان مجد الله وجلالُه وقدرتُه تُعلَن في كل نجاحهم. وكانوا يصيرون مملكة كهنة ورؤساء. وقد أمدّهم الله بكل ما يساعدهم على أن يكونوا أعظم أمة على الأرض. COLAr 264.3

لقد أعلمهم المسيح على لسان موسى قصد الله بكيفية ثابتة ومحددة، وأوضح لهم شروط نجاحهم فقال: « أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ … فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ اللهُ، الإِلهُ الأَمِينُ، الْحَافِظُ الْعَهْدَ وَالإِحْسَانَ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ إِلَى أَلْفِ جِيل … فَاحْفَظِ الْوَصَايَا وَالْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ الَّتِي أَنَا أُوصِيكَ الْيَوْمَ لِتَعْمَلَهَا. « وَمِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ تَسْمَعُونَ هذِهِ الأَحْكَامَ وَتَحْفَظُونَ وَتَعْمَلُونَهَا، يَحْفَظُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ الْعَهْدَ وَالإِحْسَانَ اللَّذَيْنِ أَقْسَمَ لآبَائِكَ. وَيُحِبُّكَ وَيُبَارِكُكَ وَيُكَثِّرُكَ وَيُبَارِكُ ثَمَرَةَ بَطْنِكَ وَثَمَرَةَ أَرْضِكَ: قَمْحَكَ وَخَمْرَكَ وَزَيْتَكَ وَنِتَاجَ بَقَرِكَ وَإِنَاثَ غَنَمِكَ، عَلَى الأَرْضِ الَّتِي أَقْسَمَ لآبَائِكَ أَنَّهُ يُعْطِيكَ إِيَّاهَا. مُبَارَكًا تَكُونُ فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ … ويَرُدُّ الرَّبُّ عَنْكَ كُلَّ مَرَضٍ، وَكُلَّ أَدْوَاءِ مِصْرَ الرَّدِيئَةِ الَّتِي عَرَفْتَهَا لاَ يَضَعُهَا عَلَيْكَ » (تثنية ٧: ٦، ٩، ١١-١٥). COLAr 264.4

فإذا حفظوا وصايا الله فقد وعد بأن يعطيهم أجود الحنطة ويخرج لهم من الصخرة عسلا. ومن طول الأيام يشبعهم ويريهم خلاصه. COLAr 265.1

إن آدم وحواء قد أضاعا عدن بسبب عصيانهما لله، وبسبب الخطية لُعِنت الأرض كلها. ولكن إذا اتبع شعب الله وصاياه فإنّ أرضهم سيُرَدّ إليها الخصب والجمال. وقد أعطاهم الله نفسُه توجيهاتِ عن زرع الأرض، وكان عليهم أن يتعاونوا معه على استردادها. وهكذا تصير الأرض، تحت سلطان الله مثلا ملموسا لتعلم الحق الروحي. فكما أنّه بالطاعة لنواميس الله الطبيعية تخرج الأرض للإنسان خيراتِها وكنوزَها فكذلك في الطاعة لناموسه الأدبي كانت قلوب الشعب ستعكس صفاتِ الله وحتى الوثنيون يعترفون بسمو وتفوق من خدموا الإله الحيّ وعبدوه. COLAr 265.2

وقد قال موسى: « اُنْظُرْ. قَدْ عَلَّمْتُكُمْ فَرَائِضَ وَأَحْكَامًا كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ إِلهِي، لِكَيْ تَعْمَلُوا هكَذَا فِي الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ دَاخِلُونَ إِلَيْهَا لِكَيْ تَمْتَلِكُوهَا. فَاحْفَظُوا وَاعْمَلُوا. لأَنَّ ذلِكَ حِكْمَتُكُمْ وَفِطْنَتُكُمْ أَمَامَ أَعْيُنِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كُلَّ هذِهِ الْفَرَائِضِ، فَيَقُولُونَ: هذَا الشَّعْبُ الْعَظِيمُ إِنَّمَا هُوَ شَعْبٌ حَكِيمٌ وَفَطِنٌ.لأَنَّهُ أَيُّ شَعْبٍ هُوَ عَظِيمٌ لَهُ آلِهَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْهُ كَالرَّبِّ إِلهِنَا فِي كُلِّ أَدْعِيَتِنَا إِلَيْهِ؟ وَأَيُّ شَعْبٍ هُوَ عَظِيمٌ لَهُ فَرَائِضُ وَأَحْكَامٌ عَادِلَةٌ مِثْلُ كُلِّ هذِهِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَنَا وَاضِعٌ أَمَامَكُمُ الْيَوْمَ؟ » (تثنية ٤: ٥-٨). COLAr 265.3

كان على بني إسرائيل أن يحتلوا كل الإقليم الذي عيّنه الله لهم. والأمم التي رفضت أن تعبد الإله الحقيقي وتخدمه كانت ستُطرد من الأرض. ولكن قصد الله كان أنه بواسطة إعلان صفاته عن طريق إسرائيل يُجتذب الناس إليه. وكان يجب أن تُقدّم دعوة الإنجيل لكل العالم. وبواسطة تعليم الخدمة الكفارية كان المسيح سيُرفع أمام الأمم وكل من ينظرون إليه يحيون. وكل من يهجرون عبادة الأوثان ليعبدوا الإله الحقيقي كراحاب الكنعانية وراعوث المؤابية ينضمون إلى شعبه المختار. وبقدر ما نما عدد بني إسرائيل وتكاثروا كان يجب عليهم أن يوسعوا تخومهم حتى تشمل مملكتهم العالم. COLAr 266.1

كان الله يريد أن يجمع كل الشعوب تحت حكمه الرحيم، كانت بغيته أن تمتلئ الأرض بالفرح والسلام. لقد خلق الإنسان ليسعد ، وهو يشتاق لأن يملأ قلوب الناس بسلام السماء، وهو يرغب أن تكون الأسرة التي على الأرض رمزاً للأسرة العظيمة في السماء. COLAr 266.2

ولكن إسرائيل لم يتمم قصد الله. فقد أعلن الرب قائلا: « وَأَنَا قَدْ غَرَسْتُكِ كَرْمَةَ سُورَقَ، زَرْعَ حَقّ كُلَّهَا. فَكَيْفَ تَحَوَّلْتِ لِي سُرُوغَ جَفْنَةٍ غَرِيبَةٍ؟ » (إرميا ٢: ٢١). « إِسْرَائِيلُ جَفْنَةٌ مُمْتَدَّةٌ. يُخْرِجُ ثَمَرًا لِنَفْسِهِ » (هوشع ١٠: ١٠). « وَالآنَ يَا سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ وَرِجَالَ يَهُوذَا، احْكُمُوا بَيْنِي وَبَيْنَ كَرْمِي.مَاذَا يُصْنَعُ أَيْضًا لِكَرْمِي وَأَنَا لَمْ أَصْنَعْهُ لَهُ؟ لِمَاذَا إِذِ انْتَظَرْتُ أَنْ يَصْنَعَ عِنَبًا، صَنَعَ عِنَبًا رَدِيئًا؟ فَالآنَ أُعَرِّفُكُمْ مَاذَا أَصْنَعُ بِكَرْمِي: أَنْزِعُ سِيَاجَهُ فَيَصِيرُ لِلرَّعْيِ. أَهْدِمُ جُدْرَانَهُ فَيَصِيرُ لِلدَّوْسِ. وَأَجْعَلُهُ خَرَابًا لاَ يُقْضَبُ وَلاَ يُنْقَبُ، فَيَطْلَعُ شَوْكٌ وَحَسَكٌ. وَأُوصِي الْغَيْمَ أَنْ لاَ يُمْطِرَ عَلَيْهِ مَطَرًا... فَانْتَظَرَ حَقًّا فَإِذَا سَفْكُ دَمٍ، وَعَدْلاً فَإِذَا صُرَاخٌ » (إشعياء ٥: ٣-٧). COLAr 266.3

وقد أوضح الرب لشعبه على لسان موسى النتائج المترتبة على عدم الأمانة. فإذا رفضوا إطاعة عهده فسيبترون أنفسهم من حياة الله ولن تحل عليهم بركته. فقال موسى: « اِحْتَرِزْ مِنْ أَنْ تَنْسَى الرَّبَّ إِلهَكَ وَلاَ تَحْفَظَ وَصَايَاهُ وَأَحْكَامَهُ وَفَرَائِضَهُ الَّتِي أَنَا أُوصِيكَ بِهَا الْيَوْمَ. لِئَلاَّ إِذَا أَكَلْتَ وَشَبِعْتَ وَبَنَيْتَ بُيُوتًا جَيِّدَةً وَسَكَنْتَ، وَكَثُرَتْ بَقَرُكَ وَغَنَمُكَ، وَكَثُرَتْ لَكَ الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ، وَكَثُرَ كُلُّ مَا لَكَ، يَرْتَفِعُ قَلْبُكَ وَتَنْسَى الرَّبَّ إِلهَكَ ... وَلِئَلاَّ تَقُولَ فِي قَلْبِكَ: قُوَّتِي وَقُدْرَةُ يَدِيَ اصْطَنَعَتْ لِي هذِهِ الثَّرْوَةَ ... وَإِنْ نَسِيتَ الرَّبَّ إِلهَكَ، وَذَهَبْتَ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَعَبَدْتَهَا وَسَجَدْتَ لَهَا، أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ أَنَّكُمْ تَبِيدُونَ لاَ مَحَالَةَ ... كَالشُّعُوبِ الَّذِينَ يُبِيدُهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِكُمْ كَذلِكَ تَبِيدُونَ، لأَجْلِ أَنَّكُمْ لَمْ تَسْمَعُوا لِقَوْلِ الرَّبِّ إِلهِكُمْ » (تثنية ٨: ١١-١٤، ١٧، ١٩، ٢٠). COLAr 267.1

ولم يكترث الشعب اليهودي للإنذار. فقد نسوا الله وغاب عن أنظارهم أمتيازهم السامي كنوّاب عنه. والبركات التي أغدقت عليهم لم يتبارك بها العالم وقد خصصوا كل امتيازاتهم لتمجيد ذواتهم. وقد سلبوا الله الخدمة التي طلبها منهم وسلبوا بني جنسهم القيادة الدينية والمثال المقدس. فكسكان العالم قبل الطوفان اتبعوا كل تصورات قلوبهم الشريرة. وهكذا جعلوا الأشياء المقدسة تبدوا وكأنها مهزلة « قَائِلِينَ: هَيْكَلُ الرَّبِّ، هَيْكَلُ الرَّبِّ، هَيْكَلُ الرَّبِّ هُوَ » (إرميا ٧: ٤)، وفي نفس الوقت كانوا يشوهون صفات الله ويهينون اسمه وينجسون مقدِسه. COLAr 267.2

إنّ الكرّامين الذين سلم إليهم كرم الرب خانوا الأمانة. فالكهنة والمعلمون لم يكونوا معلمين أمناء للشعب. فهُم لم يجعلوا نُصْب عيونهم صلاح الله ورحمته وحقه في محبتهم وخدمتهم. هؤلاء الكرامون طلبوا مجد أنفسهم. فقد أرادوا الاستيلاء على ثمار الكرم. وقد اجتهدوا في تحويل أنظار الناس وولائهم إلى أنفسهم. COLAr 268.1

إن ذنب هؤلاء القادة في إسرائيل لم يكن كذنب أي خاطئ عادي. فهؤلاء الرجال كانوا تحت أقدس التزام ومسؤولية أمام الله. فقد تعهدوا بأن يعلّموا الناس ما قاله الرب وأن يطيعوا الله طاعة دقيقة في حياتهم العملية. ولكنهم بدلا من هذا كانوا يحرّفون الكتب المقدسة. فكانوا يحمِّلون الناس أحمالا ثقيلة ويفرضون عليهم طقوسا تناولت كل خطوة في الحياة. وقد عاش الشعب في انزعاج دائم إذ لم يستطيعوا إتمام كل المطاليب التي فرضها عليهم الأحبار. فإذ رأوا استحالة حفظ وصايا الناس أهملوا في حفظ وصايا الله. COLAr 268.2

وقد أوصى الرب شعبه وعلّمهم بأنّه هو صاحب الكرم وأنّ كل ما يملكونه قد أُعطيَ لهم كأمانة ليستخدموا لأجله. ولكن الكهنة والمعلمين لم يقوموا بأعمال وظيفتهم المقدسة كما لو كانوا يتصرفون في ملك الله. وبانتظام كانوا يسلبون الله أمواله وخيراته وهي التي أودعت بين أيديهم لأجل تقدم عمله. إنّ طمعهم وجشعهم جعلاهم محتقرين حتى في نظر الوثنيين. وهكذا أُعطيت فرصة للعالم الأممي ليشوّه صفاتِ الله وقوانين ملكوته. COLAr 268.3

ولكن الله احتمل شعبه وصبر عليهم بقلب الآب الصفوح الرحيم. فقد توسّل إليهم بالمراحم التي منحها لهم والمراحم التي أخذها منهم. وبكل صبر جعل خطاياهم أمام عيونهم وبطول أناة انتظر اعترافهم. وقد أرسل إليهم الأنبياء والرسل ليلحوا بحق الله على الكرامين، ولكن بدلا من الترحيب بهم عوملوا معاملة الأعداء. فقد اضطهدهم الكرَّامون وقتلوهم. وقد عاد الله فأرسل رسلا آخرين ولكنهم عوملوا بنفس معاملة الأولين، بل ذاد الكرَّامون في عدوانهم العنيد. COLAr 269.1

وقد أرسل الله أبنه كحل أخير قائلا: « يَهَابُونَ ابْنِي » (متى ٣٧:٢١). ولكن مقاومتهم جعلتهم ناقمين فقالوا فيما بينهم: « هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ » (متى ٢١: ٣٨). وحينئذ سنُترك لنستمتع بالكرم ونتصرف في ثمره كما نشاء. COLAr 269.2

إن رؤساء اليهود لم يحبوا الله، ولذلك قطعوا صلتهم به، ورفضوا كل العروض للوصول إلى تسوية عادلة. فالمسيح حبيب الله أتى ليثبت حقوق صاحب الكرم، ولكن الكرامين عاملوه بازدراء ملحوظ قائلين لا نريد أن هذا يملك علينا. وقد حسدوا المسيح على جمال خلُقه. وطريقته في التعليم كانت أسمي بكثير من طريقتهم وكانوا يخشون من نجاحه. وقد آلمتهم توبيخاته التي لم يستطيعوا إسكاتها. وقد أبغضوا مقياس البرّ السامي الذي قدمه المسيح على الدوام. ورأوا أن تعليمه وضعهم في كشف عن أنانيتهم فعوَّلوا على قتله. لقد أبغضوا مثاله في الصدق والتقوى والروحانية السامية الظاهرة في كل ما فعل. وقد كانت بجملتها توبيخا لأثرتهم، وعندما جاء الامتحان الأخير، الامتحان الذي كان معناه إما الطاعة للحياة الأبدية أو العصيان للهلاك الأبدي، رفضوا قدوس إسرائيل. وعندما قُدّمت لهم الفرصة ليختاروا إما المسيح أو باراباس صرخوا قائلين: « أَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ » (لوقا ٢٣: ١٨). وعندما سألهم بِيلاَطُسُ قائلا: « فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ » صرخوا بشدّة قائلـين: « ليُصْلَب » (متى ٢٧: ٢٢). فلما سألـهم بِيلاَطُسُ قائلا: « أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟ » جاء الجواب من أفواه الكهنة والرؤساء: « ليس لنا ملك إلاّ قيصر » (يوحنا ١٩: ١٥). وعندما غسل بِيلاَطُسُ يديه قائلا: « إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ » أشترك الكهنة مع الرعاع الجهلة مصرِّحين بانفعال: « دمه علينا وعلى أولادنا » (متى ٢٧: ٢٤، ٢٥). COLAr 269.3

وهكذا تم اختيار رؤساء اليهود. وقد سُجِّلَ قرارهم هذا في السفر الذي رآه يوحنا في يد الجالس على العرش، السفر الذي لم يستطع أحد أن يفتحه. هذا القرار بكل ما ينطوي عليه من حقد وحب انتقام سيظهر أمامهم في اليوم الذي فيه سيفتحُ هذا السفر الأسدُ الذي من سبط يهوذا. COLAr 270.1

كان اليهود يعتزون بفكرة كونهم أحبّاء السماء ومحاسيبها وأنهم سيتمجدون دائما ككنيسة الله. وقد أعلنوا أنهم أولاد إِبْرَاهِيم، وقد بدأ أساس نجاحهم ثابتا بحيث كانوا يتحدّون الأرض والسماء عن أن تحرماهم من حقوقهم. ولكنّهم بحياة عدم الأمانة كانوا موشكين على الوقوع تحت دينونة السماء والانفصال عن الله. COLAr 270.2

فبعدما صوَّر المسيح أمام الكهنة آخر أعمالهم الشريرة في مثل الكرم قدم لهم هذا السؤال: « فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين؟ » كان الكهنة يتتبعون القصة باهتمام عظيم وبدون أن يلاحظوا علاقة الموضوع بأنفسهم اشتركوا مع الشعب في الإجابة قائلين: « أُولئِكَ الأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلاَكًا رَدِيًّا، وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا » (متى ٢١: ٤٠، ٤١). COLAr 270.3

بدون علمهم نطقوا على أنفسهم بحكم الدينونة. فنظر يسوع إليهم، وأمام نظرته الفاحصة علموا أنه كان يقرأ خفايا قلوبهم. لقد تألّقت ألوهيتُه أمامَهم بقوة واضحة جليّة فقد رأوا في الكرّامين صورةً لأنفسهم وعلى رغمهم صرخوا قائلين: « حاشا ”! (لوقا ٢٠: ١٦). COLAr 271.1

فسألهم المسيح بوقار وأسف قائلا: « أما قرأتم قط في الكتب. الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية. أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا! لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ. وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هذَا الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ » (متى ٢١: ٤٢-٤٤). COLAr 271.2

كان يمكن للمسيح أن يبعد الدينونة عن الأمة اليهودية لو كان الشعب قد قبله. ولكن الحسد والغيرة جعلتهم متصلبين. لقد أصروا على عدم قبول يسوع الناصري كمسيا. وقد رفضوا نور العالم ومنذ ذلك الحين اكتنفت حياتَهم ظلماتٌ داجيةٌ كظلمة منتصف الليل. والدينونة التي أُنبيء بها حاقت بالأمة اليهودية. ففي غضبهم الأعمى أهلكوا بعضُهم بعضا. فكبرياؤهم المتمرّدة العنيدة جلبت عليهم غضب قاهريهم الرومان. فلقد خُرّبت أورشليم وصار الهيكل خرابا وحرث موقعه كحقل. وقد هلك بنو يهوذا بأرهب الميتات، وملايين منهم بيعوا ليخدموا كعبيد في بلدان وثنية. COLAr 271.3

لقد أخفق اليهود كشعب في إتمام غرض الله فنُزع الكرم منهم. والميزات التي أساءوا استعمالها والعمل الذي استخفوا به استُودع بين أناس آخرين. COLAr 272.1