المُعلّم الأعظم

38/61

٢٢ - القَـول والعَمَــل

(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في متى ٢١: ٢٣-٣٢).

« كَانَ لإِنْسَانٍ ابْنَانِ، فَجَاءَ إِلَى الأَوَّلِ وَقَالَ: يَا ابْنِي، اذْهَب الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي. فَأَجَابَ وَقَالَ: مَا أُرِيدُ. وَلكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيرًا وَمَضَى. وَجَاءَ إِلَى الثَّاني وَقَالَ كَذلِكَ. فَأَجَابَ وَقَالَ: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ. فَأَيُّ الاثْنَيْنِ عَمِلَ إِرَادَةَ الأَبِ؟ قَالُوا لَهُ: الأَوَّلُ » (متى ٢١: ٢٨-٣١). COLAr 248.1

قال المسـيح في الموعظـة على الجبل: « لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ » (متى ٧: ٢١). إنّ الإخلاص لا يُختبر بالأقوال بل بالأعمال. إنّ المسيح لا يقول لأي إنسان: ماذا تقول أكثر من الآخرين؟ بل: « أَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ » (متى ٤٧:٥). إنّ قوله: « إِنْ عَلِمْتُمْ هذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ » (يوحنا ١٣: ١٧) هو قول غني بالمعنى. إنّ الكلام لا قيمة له ما لم تصحبه الأعمال اللائقة. هذا هو الدرس الذي نتعلمه من مثل الابنين. COLAr 248.2

نطق المسيح بهذا المثل عندما زار أورشليم آخر مرة قبل موته. كان قد طرد من الهيكل من كانوا يشترون ويبيعون. وقد تكلم صوته إلى قلوبهم بقوة الله. فإذ ذُهلوا وارتعبوا أطاعوا أمرَه بدون اعتذار أو مقاومة. COLAr 248.3

فبعدما هدأت مخاوفهم وعاد الكهنة والشيوخ إلى الهيكل وجدوا المسيح يشفي المرضى والمحتضرين. لقد سمعوا صوت الفرح وأغاني الحمد. وفي الهيكل نفسه كان الأولاد الذين عادت إليهم الصحة يلوحون بسعف النخل ويهتفون قائلين أوصنا لابن داود. والأطفال كانوا يلهجون بأصوات الحمد للشافي القدير. ومع ذلك فإن هذا كله لم يكن كافيا لقهر تعصّب الكهنة والشيوخ وحسدهم. COLAr 249.1

وفي اليوم التالي فيما كان المسيح يعلم في الهيكل تقدم إليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وقالوا له: « بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هذَا؟ وَمَنْ أَعْطَاكَ هذَا السُّلْطَانَ؟ » (متى ٢١: ٢٣). COLAr 249.2

لقد أُعطِيَ للكهنة والشيوخ برهانٌ لا يُدحض على قدرة المسيح. ففيما كان يطهر الهيكل رأوا سلطان السماء يتألق في وجهه. ولم يستطيعوا أن يقاوموا السلطان الذي كان يتكلم به. ثم أيضا عندما كان يقوم بأعمال الشفاء العجيبة كان في ذلك الجواب على سؤالهم. لقد قدّم عن سلطانه البرهان الذي لم يمكن أن يجادل فيه. ولكن ما كان مطلوباً لم يكن هو البرهان. لقد كان الكهنة والشيوخ يتوقون إلى أن يعلن يسوع نفسه كمَسيَّا حتى يمكنهم أن يحِّرفوا أقواله ويثيروا الشعب ضدّه. كانوا يريدون أن يقضوا على نفوذه ويقتلوه. COLAr 249.3

وقد علم يسوع أنّهم إذا لم يستطيعوا أن يميزوا الله في ذاته هو أو يروا في أعماله البرهان على صفته الإلهية فلن يصدقوا شهادتَه بأنه المسيح. ففي جوابه تجنّب النتيجة التي كانوا يرجون الوصول إليها وجعل الاتّهام يرتدّ على رؤوسهم COLAr 249.4

فقال لهم: « وَأَنَا أَيْضًا أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ قُلْتُمْ لِي عَنْهَا أَقُولُ لَكُمْ أَنَا أَيْضًا بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا: مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنْ أَيْنَ كَانَتْ؟ مِنَ السَّمَاءِ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟ » COLAr 250.1

وقد ارتبك الكهنة والرؤساء: « فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: إِنْ قُلْنَا: مِنَ السَّمَاءِ، يَقُولُ لَنَا: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ، نَخَافُ مِنَ الشَّعْبِ، لأَنَّ يُوحَنَّا عِنْدَ الْجَمِيعِ مِثْلُ نَبِيٍّ. فَأَجَابُوا يَسُوعَ وَقَالُوا: لاَ نَعْلَمُ. فَقَالَ لَهُمْ هُوَ أَيْضًا: وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا. » COLAr 250.2

« لا نعلم » لقد كان هذا الجواب كذباً. ولكنّ الكهنة رأوا المركز الحرج الذي كانوا فيه فكذبوا لكي يحموا أنفسهم. لقد أتى يوحنا المعمدان شاهداً للذي كانوا الآن يشكّون في سلطانه. وقد أشار إليه قائلا: « هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ » (يوحنا ١: ٢٩). وقد عمّده وبعد المعمودية فيما كان المسيح يصلي انفتحت السَّمَاوَات وروح الله مثل حمامة حَّل عليه بينما سُمع صوت من السَّمَاوَات قائلا: « هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ » (متى ٣: ١٧). COLAr 250.3

إنّ الكهنة والرؤساء إذ ذكروا كيف كان يوحنا يردّد النبوات الخاصة بالمسيح، وإذ ذكروا المشهد الذي رُئيَ عند عماد المسيح لم يجرؤوا على أن يقولوا إنّ معمودية يوحنا كانت من السماء. فلو اعترفوا بأن يوحنا نبي كما كانوا يعتقدون، فكيف كان يمكنهم أن ينكروا شهادته بأنّ يسوع الناصري هو ابن الله؟ كذلك لم يستطيعوا أن يقولوا إنّ معمودية يوحنا كانت من الناس بسبب الشعب الذين كانوا يؤمنون بأن يوحنا نبيّ. ولذلك قالوا: « لَا نَعْلَمُ ». COLAr 250.4

حينئذ قدم المسيح مثل الأب والابنين. فعندما جاء الأب إلى الابن الأول وقال له: « اذْهَب الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي » أجابه الابن قائلا على الفور: « مَا أُرِيدُ » رفض أن يطيع وأسلم نفسه إلى طرق شريرة وسار مع عشراءُ أشرار. ولكنه بعد ذلك ندم وأطاع الدعوة. COLAr 250.5

ثم ذهب الأب إلى الابن الثاني بنفس الأمر قائلا: « اذْهَب الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي » فأجابه هذا الابن قائلا: « هَا أَنَا يَا سَيِّدُ » ولكنه لَمْ يَمْضِ. COLAr 251.1

نجد في هذا المثل أنّ الأب يرمز إلى الله والكرم رمز إلى الكنيسة. والابنان يرمزان إلى فريقين من الناس. والابن الذي رفض إطاعة الأمر قائلا: « مَا أُرِيدُ » يرمز إلى من يعيشون في العصيان العلني والذين لا يَّدعون التقوى، والذين يجاهرون برفضهم الخضوع لنير الردع والطاعة الذي تفرضه شريعة الله. ولكن كثيرين من هؤلاء ندموا بعد ذلك وأطاعوا دعوة الله. فعندما جاءهم الإنجيل في رسالة يوحنا المعمدان قائلا: « تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ » تابوا معترفين بخطاياهم (متى ٣: ٢). COLAr 251.2

أما الابن الذي قال: « هَا أَنَا يَا سَيِّدُ » ولم يمض فقد ظهرت فيه صفات الفريسيين. إنّ رؤساء اليهود كانوا قساة القلوب ومتكلين على أنفسهم كهذا الابن. لقد صارت الحياة الدينية بالنسبة إلى الأمة اليهودية مجرّد ادعاء. فعندما أعلنت الشريعة على جبل سيناء بصوت الله تعهد جميع الشعب بأن يطيعوها. فقد قالوا: « هَا أَنَا يَا سَيِّدُ » ولكنّهم لم يمضوا. وعندما جاء المسيح بنفسه ليضع أمامهم مبادئ الشريعة رفضوه، وقد قدم المسيح لرؤساء اليهود في أيامه البرهان الكافي على سلطانه وقدرته الإلهية ولكن مع أنهم اقتنعوا فقد رفضوا قبول البرهان. أراهم المسيح أنهم ظلوا سادرين في عدم إيمانهم لأنّه لم تكن عندهم الروح التي تقود إلى الطاعة. وقد أعلن لهم قائلا: « فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ بِسَبَب تَقْلِيدِكُمْ … وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَني وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ » (متى ١٥: ٦، ٩). COLAr 252.1

وكـان بين الجمع الذين كانوا أمام المسـيح كتبة وفريســيون وكهنــة ورؤسـاء، فبعـدما قـدّم مثـل الابنين وجَّــه المســيح إلى سـامعيه هـذا الســـؤال: « فَأَيُّ الاثْنَيْنِ عَمِلَ إِرَادَةَ الأَبِ؟ » فإذ نسي الفريسيون أنفسهم أجابوه قائلين: « الأَوَّلُ ». قالوا هذا وهم لا يدرون أنّهم إنّما يحكمون على أنفسهم. وحينئذ نطق المسيح بهذا الإنذار: « الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَ ّالْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ. لأَنَّ يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَمَّا الْعَشَّارُونَ وَالزَّوَاني فَآمَنُوا بِهِ. وَأَنْتُمْ إِذْ رَأَيْتُمْ لَمْ تَنْدَمُوا أَخِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِهِ. » COLAr 252.2

لقد جاء يوحنا المعمدان كارزا بالحق وبواسطة كرازته تبكّت الخطاة وتجدّدوا. هؤلاء يسبقون إلى ملكوت السَّمَاوَات من قد قاوموا الإنذار المقدس متّكلين على برّ أنفسهم. كان العشارون والزواني جهلة. أما هؤلاء العلماء فكانوا يعرفون طريق الحق. ومع هذا فقد رفضوا السير في الطريق المؤدي إلى فردوس الله. فالحقّ الذي كان ينبغي أن يكون لهم رائحة حياة لحياة أمسى رائحة موت لموت. فالذين كانوا يخطئون جهارا وكانوا يكرهون أنفسهم قبلوا المعمودية على يدي يوحنا، أمّا هؤلاء المعلمون فكانوا مرائين. لقد كانت قلوبهم العنيدة هي العقبة التي منعتهم من قبول الحق. لقد رفضوا تبكيت روح الله. ورفضوا الطاعة لوصايا الله. COLAr 253.1

إنّ المسيح لم يقل لهم: أنتم لا تستطيعون دخول ملكوت السَّمَاوَات، بل أراهم أنّ العقبة التي منعتهم هي من صنع أيديهم. كان الباب لا يزال مفتوحا أمام رؤساء اليهود هؤلاء، وكانت الدعوة لا تزال مقدمة. وقد تاق المسيح لأن يراهم متبكتين متجددين. COLAr 253.2

لقد قضى كهنة إسرائيل وشيوخه حياتهم في ممارسة طقوس دينية اعتبروها أقدس من أن ترتبط بالأعمال الدنيوية. ولذلك كان من المفروض أن تكون حياتهم بجملتها حياة دينية. ولكنهم كانوا يمارسون طقوسهم ليراهم الناس ليظن العالم أنهم أتقياء ومكرسون. ففي حين كانوا عاملين بالحق الذي كانوا يعلّمون به. COLAr 254.1

وقد أعلن المسيح أنّ يوحنا المعمدان نبي من أعظم الأنبياء، وأبان لسامعيه أنه قد قُدم لهم البرهان الكافي على أنّ يوحنا مرسل من الله. فلقد كان نبي البرية يتكلم بقوة وقد حمل رسالته بلا تراجع، موبخا خطايا الكهنة والرؤساء وموصيا إياهم بأن يعملوا أعمال ملكوت السَّمَاوَات. وقد وجه أنظارهم إلى احتقارهم الآثم لسلطان أبيهم برفضهم القيام بالعمل المعين عليهم. إنّه لم يجارِ الخطية وقد رجع كثيرون عن آثامهم. COLAr 254.2

ولو كان رؤساء اليهود صادقين في ادعائهم لقبلوا شهادة يوحنا وقبلوا يسوع كمسيا. ولكنهم لم يظهروا ثمار التوبة والبرّ. ونفس الناس الذين كانوا يحتقرونهم تقدموا نحو ملكوت الله قبلهم. COLAr 254.3

إنّ الابن المذكور في المثل والذي قال: « هَا أَنَا يَا سَيِّدُ » ادَّعى أنه أمين ومطيع، ولكنّ الزمن برهن على أنّ اعترافه لم يكن حقيقيا. لم يكن يحب أباه محبة صادقة. وهكذا كان الفريسيون يفخرون بقداستهم، ولكن لدى الامتحان وُجدت ناقصةً. فعندما قضت مصلحتهم أن يفعلوا هكذا جعلوا مطاليب الناموس صارمةً جدّاً، ولكن عندما كان يُطلب منهم أن يطيعوا فإنّهم بسفسطاتهم الماكرة أفقدوا وصية الله قوتها. وقد أعلن المسيح عنهم قائلا: « حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا، لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ » (متى ٢٣: ٣). فلم تكن في قلوبهم محبة صادقة لله أو الإنسان. لقد دعاهم الله ليكونوا عاملين معه في جلب البركات إلى العالم، ولكن في حين أنهم قبلوا الدعوة بأفواههم فإنهم بأعمالهم رفضوا الطاعة. لقد اتكلوا على ذواتهم وافتخروا بصلاحهم ولكنهم تحدّوا أوامر الله. وقد رفضوا العمل المعين لهم من الله وبسبب عصيانهم كان الرب مزمعا أن يفصل نفسه عن الأمة العاصية. COLAr 254.4

إنّ البر الذاتي ليس برّا حقيقيا والذين يتعلقون به سيُتركون ليحصدوا نتائج التمسك بخدعة قاتلة. إنّ كثيرين اليوم يدَّعون أنهم يطيعون وصايا الله ولكن ليست لهم محبة الله في قلوبهم لتفيض على الآخرين. فالمسيح يدعـوهم لمشـاركته في عمـلــه لأجل خـلاص العالم ولكنهم يكتفون بالقـول: « هَا أَنَا يَا سَيِّدُ » ولكنهم لا يمضون. وهم لا يتعاونون مع من يقومون بخدمة الله. إنّهم متكاسلون. فكالابن الخائن يقدمون لله مواعيد كاذبة. فإذ أخذوا على أنفسهم عهدَ الكنيسة المقدس تعهّدوا بقبول كلمة الله وإطاعتها، وأن يكرّسوا ذواتهم لخدمة الله ولكنهم لا يفعلون هذا. إنّهم بالاعتراف يدّعون أنّهم أبناء الله ولكنهم في حياتهم وأخلاقهم ينكرون هذه العلاقة. وهم لا يسلّمون الإرادة لله. فهم يحيون حياة الادعاء. COLAr 255.1

ويبدو أنهم يتمّمون الوعد بالطاعة عندما لا ينطوي هذا على أية تضحية، ولكن عندما يتطلّب الأمر إنكار الذات والتضحية، وعندما يرون الصليب الذي يجب أن يحملوه يتراجعون. وهكذا يتلاشى الاقتناع بالواجب ويصير العصيان السافر لوصايا الله عادة عندهم. فقد تسمع الأذن كلمة الله ولكن القوى الروحية الواعية قد تركت الإنسان. لقد صار القلب قاسيا والضمير موسوما. COLAr 255.2

لا تظنّ أنّك لكونك لا تبدي للمسيح عداوة صريحة فأنت تقدم له خدمة. فنحن بهذا نخدع أنفسنا. فإذ نمسك عن الله ما قد أعطاه لنا لنستخدمه في خدمته سواء أكان ذلك وقتا أو مالا أو أيّ هبة من الهبات المودعة لدينا فإنّنا بذلك نحاربه. COLAr 255.3

إنّ الشيطان يستخدم بلادة وخمول المعترفين بالمسيحية المتغافلين ليدعُمَ قوّاتِه ويكسب النفوس إلى جانبه. وكثيرون ممّن يظنون أنهم مع كونهم لا يقومون بعمل حقيقي لأجل المسيح فإنهم مع ذلك في صفّه، هؤلاء يساعدون العدو على أن يسبق لاحتلال مواقع وكسب ميزات. إنّ هؤلاء الناس بإخفاقهم في أن يكونوا خداما مجدّين لأجل السيّد، وبتركهم للواجبات دون أن يعملوها، وصمتهم في حين يجب أن يتكلموا — بذلك سمحوا للشيطان بأن يسيطر على نفوسهم التي كان يمكن ربحها للمسيح. COLAr 256.1

لا يمكننا أبدا أن نخلُصَ في خمولنا وتوانينا. لا يوجد أبدا شخص متجدد تجديداً صحيحاً وهو يعيش حياة عاجزة عديمة النفع. ومن غير الممكن لنا أن ننجرفَ مع التيار إلى داخل السماء. فالسماء لا يمكن أن يدخلها إنسانُُ كسول، فإن لم نجتهد في الدخول إلى الملكوت، ولم نحاول بكلّ غيرة في تعلّم ما يكوّن شرائعها فلسنا مؤهلين للحصول على نصيب فيها. والذين يرفضون التعاون مع الله على الأرض لن يتعاونوا معه في السماء. فلا يكون من الأمان أخذهم إلى السماء. COLAr 256.2

يوجد رجاء للعشارين والخطاة أكثر ممّا لأولئك الذين يعرفون كلمة الله ولكنهم يرفضون إطاعتها. فالذي يرى نفسه خاطئا دون أن تكون لديه حجة يعتذر بها عن خطيته، والذي يعرف أنّه دائب على إفساد نفسه وجسده وروحه أمام الله يرتعب لئلا يُطرد إلى الأبد من ملكوت السَّمَاوَات. إنّه متحقق من حـالته العليـلة ويلتمـس الشـفاء من الطبيب العظيـم الـذي قـال: « مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا » (يوحنا ٦: ٣٧). هؤلاء الناس يمكن للرب أن يستخدمهم خداما في كرمه. COLAr 256.3

إنّ الابن الذي رفض طاعة أمر أبيه إلى حين لم يدنْهُ المسيح ولا مدحه. إنّ الفريق الذي يقوم أفراده بدور الابن الأول في رفض الطاعة لا يستحقّون المديح لوقوفهم هذا الموقف. إنّ صراحتهم يجب أن لا تُحسب فضيلة. فالصراحة إذ يقدّسها الحقّ والقداسة كفيلة بجعل الناس شهودا باسلين للمسيح، ولكن إذ يستخدمها الخاطئ فإنّها تنطوي على الإهانة والتحدّي وتكاد تكون تجديفا. إنّ حقيقة كون الإنسان ليس مرائياً تقلِّل من كونه خاطئاً. فعندما تصل دعوات الرُّوح الْقُدُس إلى القلب فسلامتنا الوحــيدة هـي في الاسـتجــابة لهـا بـلا إبطــاء. وعندما تأتي الدعـوة قـائلـة: « اذْهَب الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي » فلا ترفضها: « الْيَوْمَ، إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ » (عبرانيين ٤: ٧). إنّ تأجيل الطاعة لا يؤمّن جانبه. فقد لا تسمع الدعوة مرّة ثانية أبداً. COLAr 256.4

ولا يخدعنّ أحد نفسه بالظن أنّ الخطايا التي قد احتضنها بعض الوقت يستطيع بكل سهولة أن يتخلّص منها بعد قليل. إنّ الأمرَ ليس كذلك. فكل خطية يراعيها الإنسان في قلبه تُضعفُ الخُلُقِ وتقوّي العادة، وينتج عن ذلك انحطاط جسماني وعقلي وأدبي. قد تتوب عن خطأ ارتكبته وتسير في طرق الحق، ولكن اتجّاه عقلك وخبرتك بالشرّ سيجعلان من الصعب عليك أن تميّز بين الصواب والخطأ. فعن طريق العادات الشريرة التي كونتها سيهاجمك الشيطان مرارا وتكرارا. COLAr 257.1

في الأمر القائل: « اذْهَب الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي » يُمتحَن إخلاصُ كل نفس. فهل سـتكون هنالك أفعال كما توجد أقوال؟ وهل سيستخدم المدعـو كل المعرفة التي عنده ويخدم بأمانة ليس لمصلحته بل لأجل صـالح صاحب الكرم؟ COLAr 257.2

إنّ بطرس الرسول يوصينا فيما يختص بالخطة التي بموجبها يجب أن نخدم. فيقول: « لِتَكْثُرْ لَكُمُ النِّعْمَةُ وَالسَّلاَمُ بِمَعْرِفَةِ اللهِ وَيَسُوعَ رَبِّنَا. كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ، لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ. » COLAr 257.3

« وَلِهذَا عَيْنِهِ ­وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ­ قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً، وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْرًا، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى، وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً » (٢بطرس ١: ٢-٧). COLAr 258.1

فإذا كنت بكل أمانة تهذّب كرم روحك فالله يجعلك عاملا معه. وسيكون لديك عمل تعمله ليس لأجل نفسك فقط بل أيضا لأجل الآخرين. إنّ المسيح وهو يرمز إلى الكنيسة بالكرم لا يعلّمنا أن نقصر عطفنا وخدماتنا على أفرادها فقط بل يجب توسيع كرم الرب. وهو يريده أن يمتدّ إلى كل أنحاء الأرض. وإذ نحصل على تعليمات ونعمة من الله يجب أن نخبر الآخرين ونعلمهم كيف يعتنون بالأغراس الثمينة. وهكذا يمكننا أن نوسّع كرم الرب. إنّ الله يراقبنا ليرى برهان إيماننا ومحبّتنا وصبرنا. إنّه يتطلع ليرى ما إذا كنا نستخدم كل ميزة روحية لنصير خدّاما ماهرين في كرمه على الأرض حتى يمكننا الدخول إلى فردوس الله، أي جنة عدن التي قد طُرد منها آدم وحواء بسبب عصيانهما. COLAr 258.2

إنّ الله يقف من شعبه موقف الأب، وله علينا حقوق الأب في خدمتنا له بأمانة. تأمّلوا في حياة المسيح. فإذ يقف على رأس البشرية خادما أباه يقدّم نفسه مثالا لنا في ما يجب على كل ابن أن يكون وما يمكنه أن يكون. إنّ الله يطلب من كل بني الإنسان اليوم أن يقدّموا له طاعة كالتي قدمها المسيح. لقد خدم أباه بمحبة ورغبة وبمحض حرّيته. فقد أعلن قائلا: « أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلهِي سُرِرْتُ، وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي » (مزمور ٤٠: ٨). إنّ المسيح لم يستعظم أية تضحية ولم يستصعب أي تعب في سبيل إنجاز العمل الذي جاء ليكمله. وفي الثانية عشرة من عمره قال: « أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟ » (لوقا ٢: ٤٩). لقد سمع الدعوة وبدأ بالعمل. وهو الذي قال: « طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ » (يوحنا ٤: ٣٤). COLAr 258.3

فهكذا ينبغي لنا أن نخدم الله. إنّ من يسلك بموجب أسمى مقياس للطاعة هو وحده الذي يخدم. فكل من يريدون أن يكونوا أولاداً لله ينبغي لهم أن يبرهنوا على أنهم عاملون مع الله والمسيح وملائكة السماء. هذا هو الاختبار لكل نفس. والذين يخـدمون الرب بأمـانة يقول عنهم : « وَيَكُونُونَ لِي … فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَنَا صَانِعٌ خَاصَّةً، وَأُشْفِقُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُشْفِقُ الإِنْسَانُ عَلَى ابْنِهِ الَّذِي يَخْدِمُهُ » (ملاخي ٣: ١٧). COLAr 259.1

إنّ غرض الله العظيم في تنفيذ أعمال عنايته هو أن يمتحن الناس ويمنحهم فرصة لإنماء خلُقهم. وهكذا هو يبرهن ما إذا كانوا مطيعين لأوامره أو عصاة. إنّ الأعمال الصالحة لا تشتري محبة الله ولكنها تعلن عن امتلاكنا لهذه المحبة. وإنّ سلمنا أرادتنا لله فإننا لا نعمل لكي نستحق محبة الله. ولكننا سنقبل محبته في نفوسنا كهبة مجانية ومن محبتنا له سنسرّ بإطاعة وصاياه. COLAr 259.2

يوجد في العالم اليوم فريقان، وهما الفريقان اللذان سيُعترَف بهما في يوم الدينونة — الذين ينتهكون شريعة الله، والذين يطيعونها. والمسيح يقدم الاختبار الذي به يتبرهن ولاؤنا أو عدم ولائنا. فهو يقول: « إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ … اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي … اَلَّذِي لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كَلاَمِي. وَالْكَلاَمُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي » « إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي، كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ » (يوحنا ١٤: ١٥، ٢١، ٢٤؛ ١٥: ١٠). COLAr 259.3