المُعلّم الأعظم
٢٠ - رِبح هو في حقيقتهِ خسَارة
(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في لوقا ١٢: ١٣-٢١).
كان المسيح يعلّم، وحسب العادة التف حوله أناس آخرون بالإضافة إلى تلاميذه. كان يحدّث تلاميذه عن المشاهد التي سرعان ما كانوا سيشتركون في القيام بدورهم فيها. كان عليهم أن يذيعوا الحقائق التي قد سلمها لهم وكانوا سيشتبكون في صراع مع حكام العالم. فلأجل اسمه سيؤخذون إلى محاكم ويوقَفون أمام ولاة وملوك. وقد أكد لهم أنهم سيُعطَون حكمة لا يمكن لأحد أن يناقضها. إنّ كلامه الذي حرك قلوب الشعب وأوقع في الارتباك خصومَه الماكرين شهد بقوة ذلك الروحُ الساكنُ فيه والذي وعد بأن يمنحه لتلاميذه. COLAr 228.1
ولكن كان يوجد كثيرون ممن اشتهوا نعمة السماء لخدمة مآربهم الأنانية لقد اعترفوا بقدرة المسيح العجيبة في تقديم الحق في نور واضح. وسمعوه يعدُ تلاميذَه بأنّه سيمنحهم حكمة بها يحتجون أمام الملوك والولاة. أفلا يستخدم قدرتَه لأجل فائدتهم الدنيوية؟ COLAr 228.2
« وَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ: يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي الْمِيرَاثَ » (لوقا ١٢: ١٣). لقد أعطى الله التعليمات الخاصة بعقود الأملاك على يد موسى. فكان الأخ الأكبر يأخذ نصيب اثنين من أملاك أبيه (تثنية ٢١: ١٧). بينما أخوته الأصغر منه يأخذون أنصبة متساوية. فهذا الرجل يظنّ أن أخاه قد اختلس منه ميراثه. وقد فشلت مساعيه في الحصول على ما اعتبره من حقّه، ولكن لو تدخّل المسيح فلابدّ من أن يصل إلى مبتغاه. لقد استمع إلى محاجّات المسيح المثيرة وتشهيره الخطير بالكتبة والفريسيين. فلو وُجه مثل هذا الكلام المزود بسلطان إلى أخيه لما تجرأ على الضنّ على أخيه المغبون بنصيبه. COLAr 229.1
ففي وسط هذا التعليم المقدس الذي كان المسيح ينطق به كشف هذا الرجل عن ميوله الأنانية. لقد أمكنه أن يقدر مقدرة السيد التي كان يمكن أن تعمل لأجل نجاح وتقدم شؤونه الدنيوية، أما الحقائق الروحية فلم تتأصل في ذهنه وقلبه. لقد كان الحصول على الميراث هو شغله الشاغل. كان يسوع، ملك المجد الذي من أجلنا أفتقر وهو الغني، يفتح له كنوز المحبـة الإلهية. وكان الرُّوح الْقُدُس يتحاجج معه ليصير وارثا للميراث الذي « لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ » (١بطرس ١: ٤). لقد رأى البرهان على قدرة المسيح. والآن فها قد سنحت الفرصة له ليحدث المعلم العظيم ويعبر له عن أسمى أشواق قلبه. ولكن عينيه كانت مثبتتين في الأرض كالرجل الذي كان يجمع الأقذار والهشيم بمجرفته الوارد ذكره في كتاب سياحة المسيحي لبنيان. فهو لم ير الإكليل الذي كان فوق رأسه. وكسيمون الساحر كان يقدر موهبة الله كوسيلة للكسب العالمي. COLAr 229.2
كانت رسالة المُخَلِّص على الأرض موشكة على الانتهاء. فلم يبق له غير أشهر قليلة لإنجاز ما قد أتى ليكمله لتوطيد دعائم ملكوت نعمته. ومع ذلك فقد أراد الطمع البشري أن يحوّله عن عمله ليحسم نزاعا على قطعة أرض. ولكن يسوع لم يكن ممكنا تحويله عن رسالته. فقد كان جوابه لذلك الرجل هو هذا: « يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِيًا أَوْ مُقَسِّمًا؟ » (لوقا ١٢: ١٤). COLAr 229.3
كان يمكن ليسوع أن يخبر هذا الرجل بما هو حق وعدل. لقد عرف جانب الصواب في القضية، ولكن الأخوين كانا متخاصمين لأن كلا منهما كان طماعا. وقد قال المسيح في الواقع: إنّ عملي لا يتناول فض منازعات من هذا النوع. لقد أتى لأجل قصد آخر، ليكرز بالإنجيل وهكذا ليوقظ الناس للإحساس بالحقائق الأبدية. COLAr 230.1
إنّ في معالجة المسيح لهذه القضية درسا لكل من يخدمون باسمه. فعندما أرسل الاثني عشر قال لهم: « وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصًا. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا » (متى ١٠: ٧، ٨). لم يكن عملهم يتناول فض مشاكل الناس الزمنية، بل استمالة الناس إلى المصالحة مع الله. ففي هذا العمل انحصرت قوتهم في مباركة البشرية. إنّ المسيح هو الترياق الوحيد لخطايا الناس وأحزانهم. وإنجيل نعمته وحده يستطيع أن يشفي الشرور التي هي لعنة المجتمع. ثم إنّ ظلم الأغنياء للفقراء وكره الفقراء للأغنياء متماثلان إذ كلاهما من جذر واحد وهو الأنانية، وهذه لا يمكن استئصالها إلا عن طريق الخضوع للمسيح. فهو وحده يستطيع أن يستبدل قلب الخطية الأناني بقلب المحبة الجديد. فليكرز خدام المسيح بالإنجيل بالروح المرسل من السماء وليخدموا كما قد خدم هو لأجل خير الناس. حينئذ ستظهر مثل هذه النتائج في مباركة بني الإنسان والسموّ بهم، الأمر الذي يستحيل إنجازه إطلاقا بأيّة قوة بشرية. COLAr 230.2
إنّ ربنا قد ضرب في أصول المسألة التي أزعجت هذا السائل، وكل المنازعات المشابهة إذ قال: « انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ ». COLAr 230.3
« وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً قَائِلاً: إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ، فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ، لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟ وَقَالَ: أَعْمَلُ هذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَّلاَتِي وَخَيْرَاتِي، وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي! فَقَالَ لَهُ اللهُ: يَاغَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ هكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا ِللهِ » (لوقا ١٢: ١٦-٢١). COLAr 231.1
كشف المسيح في مثل الغني الغبي عن غباوة من يجعلون العالم كل نصيبهم. لقد تناول هذا الرجل كل شيء من يد الله. سمح للشمس بأن تشرق على أرضه لأن أشعتها تشرق على الأبرار والظالمين. وأمطار السماء تنزل على الأشرار والصالحين. لقد جعل الرب النبات يزدهر وجعل الحقول تأتي بثمر وفير. وقد كان الرجل مرتبكا في ماذا يفعل بأثماره. كانت بيادره ممتلئة وفائضة ولم يكن له موضع يجمع فيه الفائض من محاصيله. لم يفكر في الله الذي منه تنحدر كل المراحم. ولم يدرك أن الله قد جعله وكيلا على أمواله لكي يساعد هو المحتاجين. كانت لديه فرصة مباركة لأن يكون وكيلا لله في توزيع الصدقات، ولكنه لم يفكر في غير خدمة نفسه وما يؤول إلى راحته. COLAr 232.1
لقد وُجه انتباه هذا الرجل الغني إلى حالة الفقير واليتيم والأرملة والمتضايق والمتألم، وكانت توجد أماكن كثيرة يمكنه أن يوزع عليها خيراته. فكان يمكنه بكل سهولة أن يريح نفسه من جزء من تلك الخيرات الوافرة، وكان يمكن لبيوت كثيرة أن تتحرر من العوز، وكان يمكن إشباع كثيرين من الجياع، وتوفير الكساء لكثيرين من العراة، وجلب السرور إلى كثير من القلوب الحزينة، وكانت تجاب صلوات كثيرة قُدمت في طلب الطعام والكساء وكانت ترفع إلى السماء أغاني الحمد. إنّ الرب قد سمع صلوات المحتاجين وهيأ بجوده للمساكين (مزمور ٦٨: ١٠). كانت توجد مؤونة وافرة لسد احتياجات كثيرين في البركات الممنوحة للغني. ولكنّه أغلق قلبه فلم يسمع صرخات الفقراء، وإنما قال لعبيده: « أَعْمَلُ هذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاَتِي وَخَيْرَاتِي، وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي ». COLAr 232.2
إنّ أهداف هذا الرجل لم تكن أعظم من أهداف البهائم التي تباد. لقد عاش كما لو لم يكن هنالك إله ولا سماء ولا حياة عتيدة، وكأن كل ما كان له هو ملكه، وكأنه لم يكن مديناً بشيء لله أو لإنسان. وقد كان المرنم يصف هذا الغني حين قال: « قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلهٌ » (مزمور ١٤: ١). COLAr 233.1
لقد عاش هذا الإنسان ورسم خططه لذاته. إنّه يرى أنّ المستقبل معدّ له بوفرة، ولا شيء له الآن ليعمله سوى أن يجمع ثمار تعبه ويتمتع بها. إنّه يعتبر نفسه مُفضّلا على باقي الناس وهو يفاخر بنفسه لأجل تدبيره الحكيم. إنّه مكــرّم من أبناء بلـــده على أنّه صائب الـرأي ومــواطنٌ ناجــح. لأن النـاس: « يَحْمَدُونَكَ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى نَفْسِكَ » (مزمور ٤٩: ١٨). COLAr 234.1
ولكن: « حِكْمَةَ هذَا الْعَالَمِ هِيَ جَهَالَةٌ » (١كورنثوس ٣: ١٩). ففيما كان الغني ينظر إلى الأمام إلى سني تمتع فالرب يدبر خططاً أخرى تختلف عن ذلك. فها هي الرسالة تأتي إلى هذا الوكيل الخائن قائلة: « يَا غَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ ». هنا مطلب لا يمكن للمال أن يسده. فالثروة التي اكتنزها لا يمكنها أن تشتري فرصة إمهال. ففي لحظة واحدة يمسي كل ما قد تعب مدى حياته ليحرزه عديم القيمة بالنسبة إليه « فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ » إن حقوله الواسعة ومخازنه الممتلئة ما عاد له السلطان عليها. « يَذْخَرُ ذَخَائِرَ وَلاَ يَدْرِي مَنْ يَضُمُّهَا » (مزمور ٣٩: ٦). COLAr 234.2
والشيء الوحيد الذي كان يمكن أن يكون ذا قيمة بالنسبة إليه الآن لم يحصل عليه. فإذ عاش لذاته رفض تلك المحبة الإلهية التي كان يمكن أن تفيض بالرحمة لبني جنسه. وهكذا رفض الحياة. لأنّ الله محبة والمحبة هي الحياة. لقد اختار هذا الرجل الأرضيات بدل الروحيات، ومع الأرضيات يجب أن يزول. « إِنْسَانٌ فِي كَرَامَةٍ وَلاَ يَفْهَمُ يُشْبِهُ الْبَهَائِمَ الَّتِي تُبَادُ » (مزمور ٤٩: ٢٠). COLAr 234.3
« هكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا للهِ ». إنّ هذه الصورة تنطبق على كل عصر. فقد تدبر خططك لأجل خيرك الذاتي فحسب، وقد تجمع كنوزا، وقد تبني قصوراً عظيمة وشاهقة كما فعل بناة بابل القديمة، ولكن لا يمكنك أن تبني ســورا عـاليـــا أو تبنـي بابا متينا بحيث يمكنك أن تصدّ رسل الدينونة. إنّ بيلشاصـر الملك « صَنَعَ وَلِيمَةً عَظِيمَةً » في قصــره وكان يســبح « آلِهَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ ». ولكن يد إنسان غير منظور كتبت على حائطه حكم الدينونة وسُمع وقع أقدام الجيوش المعادية تدق أبواب قصره. « فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قُتِلَ بَيْلْشَاصَّرُ مَلِكُ الْكَلْدَانِيِّينَ » وجلس على العرش ملك أجنبي (دانيال ٥: ٣٠). COLAr 234.4
إنّ كون الإنسان يعيش لذاته هو الهلاك المحقق. فالطمع واشتهاء الإنسان المنفعة لذاته يبتر النفس عن الحياة. إنّ روح الشيطان هي أن يمتلك ويجمع كل شيء لنفسه. أما روح المسيح فهو أن يعطي ويضحي بالذات لأجل خير الآخرين. « وَهذِهِ هِيَ الشَّهَادَةُ: أَنَّ اللهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ فِي ابْنِهِ. مَنْ لَهُ الابْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ » (١يوحنا ٥: ١١، ١٢). COLAr 235.1
لذلك يقول: « انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ ». COLAr 235.2