أعما لالرُّسل
الفصل الحادي والعشرون
في الأقاليم البعيدة
(يعتمد هذا الفصل على ماورد في اعمال 16 : 7 — 40)
حان وقت اذاعة الانجيل في الاقاليم البعيدة متخطياحدود آسيا الصغرة . كان الطريق معبدا لبولس ورفيقيه ليعبروا الى اوروبا . ففي ترواس ، على تخوم البحر الابيض المتوسط «ظهرت لبولس رؤيا في الليل : رجل مكدوني قائم يطلب اليه ويقول اعبر الى مكدونية وأعنا» ( عدد 9). AR 189.1
كانت الدعوة ملزمة وقاطعة لاتسمح بأي تأخير . إن لوقا الذي كان مصاحبا لبولس وسيلا وتموثاوس في الرحلة عبر أوروبايعلن قائلا: «فلما رأى الرؤيا للوقت طلبنا ان نخرجالى مكدونية ، متحقيقين ان الرب قد دعانالنبشرهم فأقلعنا من ترواس وتوجهنا بالاستقامة الى ساموثراكي ، وفي الغد الى نيابوليس . ومن هناك الى فيلبي ، التي هي اول مدينة منمقاطعة مكدونية ، وهي كولونية» ( عدد 10 — 12). AR 189.2
ثم يستطرد لوقا فيقول : «وفي يوم السبت خرجنا الى خارج المدينة عند نهر حيث جرت العادة ان تكون صلاة ، فجلسنا وكنا نكلم النساء اللواتي اجتمعنفكانت تسمع امرأة اسمها ليدية، بياعه ارجوان من مدينة ثياتيرا ، متعبدة لله ، ففتح الرب قلبها» ( عدد 13، 14). لقد قلبت ليديا الحق بفرح. واهتدت هي وأهل بيتها واعتمدوا . ثم توسلت إلى الرسلأن يجعلوا بيتها بيتا لهم ويمثكوا فيه . AR 189.3
وإذ كان رسل الصليب يقومون بعملهم في التعليم تبعتهم جارية فيها روح عرافة وصرخت قائلة : «هؤلاء الناس هم عبيد الله العلي ، الذين ينادون لكم بطريق الخلاص . وكانت تفعل هذا اياما كثيرة» ( عدد 17 ، 18 ). AR 190.1
هذه الجارية كانت اداة طيعة في يد الشيطان، وكانت تكسب مواليها ( او اسيادها ) مكسبا كثيرا بعرافتها . وقد أعان تأثيرها على تقوية العبادة الوثنية . لقد عرف الشيطان ان مملكته غزيت واعتدي عليها ، فلجأ الى هذه الوسيلة لمقاومة عمل الله على امل ان يمزج سفسطته بالحقائق التي كان يعلم بها أولئك الذين كانوا يذيعون رسالة الانجيل . إن كلمات المديح التي كانت الجارية تنطق بهاكان فيها ضرر وتعطيل لقضية الحقاذ كانت تلهي عقول الناس وتصرف اذهانهم عن تعاليم الرسل وتجلب العار على الانجيل ، وعن طريقها اعتقد العدد من الناس أن الرجال الذي كانوا يتكلمون بروح الله وقوة انما كانوا مسوقين الى ذلك بنفس الروح التي اعتملت في رسولة الشيطان تلك. AR 190.2
وقد ظل الرسل محتملين تلك المقاومة وصابرين عليها بعض الوقت ، وحينئذ، وبالهام روح القدس ، امر بولس ذلك الروح الشرير ان يخرج من تلك الجارية . وقد شهد صمتها المفاجئ ان الرسل هم فعلاعبيد الله وان الشيطان قد اعترف بأنهم كذلك وانه اطاع امرهم وخرج منها . AR 190.3
فاذ خرج ذلك الروح الشرير من الجارية ورجع اليها عقلها اختارت ان تكون تابعة للمسيح. حينئذ انزعج مواليها خوفا على مهنتهم. لقد رأوا ان كل املهم في الكسب عن طريق عرافتها وتنبؤاتها قد انتهى، وان مصدر رزقهم سينقطع تماما فيما اذا سمح للرسل بمواصلة الكرازة بالانجيل . AR 190.4
كثيرون غيرهم من سكان المدينةكانوا مهتمين بتحصيل المال عن طريق الخدع الشيطانية . وهؤلاء اذ كانوا يخشون من تأثير تلك القوة التي كانت فعالة في ايقاف عملهم ، اثارو ضجةعظيمة ضد عبيدالله . فجروهما ( بولس وسيلا) الى الحكام واشتكوا عليهما قائلين«هذا الرجلان يبلبلان مدينتنا ، وعما يهوديان، ويناديان بعوائد لايجوز لنااننقبل ولا نعمل بها ، اذ نحن رومانيون» ( عدد 20 ، 21). AR 191.1
واذ ثار الجموع وتملكهم اهتياج جنوني ، قاموا على التلميذين ، وقد اعتملت فيهم روح السوقة والرعاع سيما وانالسلطاتت صادقت على ذلك اذ «مزق الولاة ثيابهما وامروا ان يضربا بالعصى . فوضعوا عليهما ضربات كثيرة والقوهما في السجن واوصوا حافظ السجن ان يحرسهما بضبط . وهو اذ اخذ وصية مثل هذه القاها في السجن الداخل ، وضبط ارجلهما في المقطرة» (عدد23 -24 ). AR 191.2
وقد تعذب الرسولان عذابا هائلالايطاق بسبب الوضع المؤلمالذي كانا عليه ، ولكنهما مع ذلك لم يتذمرا . بل عوضا عن ذلك ، وفي دجى الليل ووحشة السجن ، كان أحدمهما يشجع الآخربكلام الصلاة ، وكانا يسبحانالله الذي حسبمهما مستأهلين أ نيحتملا العار لأجل اسمه. فابتهج قلباهما بمحبة عميقة حارة من اجل عمل فاديهما . وقد ذكر بولس الاضطهادات التي أوقعهاعلى تلاميذ المسيمح ، وفرح لأن عينيهقد فتحتا ليرى، ولأن قلبه بدأ يخفق بقوة الحقائق المجيدة التي كان قبلايحتقرها . AR 191.3
وبدهشة وذهول سمع السجناء الآخرون صوت الصلاة والتسبيح آتيا منالسجن الدخلي, لقد كانو معتادين من قبل على سماع الصرخات وأصوات الأنين واللعنات والسباب تبدد سكون الليل ، ولكنهم لم يسبق لهم قط ان سمعوا تلك الصلوات والتسابيح صاعدة من تلك الزنزانة المظلمة الكئيبةولقد ذهل الحراس والمسجونون ، على حد سواء،وسألو بعضهم بعضاعمن يكون ذانك الرجلان اللذان ، رغم البرد الذي مزق أوصالهما ، والجوع الذي أضناهما ، والعذاب الذي مزق جسديهما ، امكنهما ، مع ذلك ، ان يفرحا ويتهللا. AR 191.4
وفي تلك الاثناء كان الولاة في طريق عودتهم الى بيوتهم ، وهم يهنئون انفسهم على انهم بتلك الاجراءات السريعة الحاسمة قمعوا الثورة قبل نشوبها .‘الا انهم وهم سائرون ، سمعوا تفصيلاتاخرى عن صفة وعمل ذينك الرجلين الليذن قد حكم عليهما بالجلد والسجن . ثم اذر أو الجارية التي خرج منها الروح الشيطاني ، دهشوا بسبب التغيير الذي رأوه في وجهها وتصرفها. كانت الجارية قد أحدثت في الماضي اضطرابا عظيما في المدينة ، اما الان فقد اصبحت هادئة ومسالمة. واذا تحققوا اتهم من المرجح ان يكونوا قد اوقعوا عقوبة القانون الروماني القاسية على رجلين بريئين ، غضبوا على انفسهم وعقدوا العزم على انهمفي الصباح التالي سيأمرون بإطلاقسراح الرسولين سرا ويخرجونهما من المدينة ، بعيدا عن خطرظلم الرعاع وقسوتهم . AR 192.1
ولكن في حين كان الناس قساة ومحبين للانتقام او مهملين اهمالااجراميا للتبعات الخطيرة الملقاة على عواتقهم، فان الله لم ينس ان يكون رحيما نحو عبدية. لقد كانت السماءبأسرهامهتمة بالرجلين اللذين كانا يتألمان لأجل المسيح، فأرسل ملائكة لزيارة السجن . فما ان لمست ارجلهم الارض حتى تزلزلت، وابواب السجن الموصدة بكل ضبط واحكام انفتحت وانفكت قيود المسجونين جميعا وغمر حرجات السجن المظلمة فيض من النور. AR 192.2
كان حافض السجن قد سمع بدهشة وذهول صلوات وتسبيحات الرسولين السجيينين. فإذ كان يدخلهما إلى السجن شاهد جروحهما المتورمة الدامية وقد ضبط هو بنفسه أرجلهما في المقطرة. وكان يتوقع ان يسمع منهما اصوات الانين المر واللعنات والفاظ السباب، ولكنه بدلا من ذلك سمع اغاني الفرح والتسبيح . وإذا كانت هذه الاصوات لاتزال ترنفي أذنيه عبن النعاس بجفنيهفنام السجان نوما أوقظ منه على صوت الزلزلة واهتزاز اسوار السجن . AR 192.3
فإذ استيقظ فزعا ، رأى برعب شديد كل أبواب السجن مفتوحة ، فتملكه الخوف لئلا يكون المسجونين قد هربوا . وقد ذكر كيف اسلم اليه بولس وسيلا بوصية مشددة ، وفي الليلة السابقة، كي يحرسهما بضبط وايقن من ان الموت الاكيد سيكون جزاءه على عدم امانته الظاهرة.. فقد احسن في مرارة نفسه بأنه خير له ان يقتل نفسه ، جلجلصوت بولس بنغمة مرحة قائلا : «لاتفعل بنفسك شيئا رديا ، لأن جميعنا ههنا» ( عدد 28). لقد ظل كل رجل في مكانه ، محصورا بقوة الله التي تجلت في رفيقلهم في السجن . AR 193.1
ان القسوة التي عوم لبها الرسولان من قبل السجان ، لم تثر غضبهما . فاللذيكان يسكن في قلب بولس وسيلا هو روح المسيح وليس روح الانتقام. فإذ كان قلباهما مفعمين بمحبة المخلص لم يكن فيهما أي مجال للحقد على مضطهديهما . AR 193.2
اسقط السجان سيفه ، وإذ طلب ضوءا ، اندفع الى السجن الداخلي . كان يريدأن يرى أي رجلين هما هذا اللذان قابلا القسوة التي عوملا بها بمثل هذا الرفق. فاذ وصل الى حيث كان الرسولان وخر اماهما ، طلب منهما الصفح . ثم اذا اخرجهما الى الدار الخارجية، سألهما قائلا: «ياسيدي ، ماذا ينبغي ان افعل لكي اخلص ؟» ( عدد 30). AR 193.3
لقد ارتعب السجان اذ رأى غضب الله باديا في الزلزلة ، وعندما ظن ان المسجونينقد هربوا ، كان مستعدا لان يسقط على حد سيفه ويموت ، اما الان فكل هذه الاشياء تبدوا قليلة الاهمية بالمقارنة مع الرعب الجديد الغريب الذي اهتاج في عقله ، ورغبته في امتلاك الهدوءوالفرح الذين اظهرهما الرسولان تحت الالام والاهانات . لقد رأى نور السماء على وجهيهما ، وعلم ان الله قد تدخل بطريقة معجزية لانقاذ حياتهما . وبقوة غريبة عادت الى ذهنه الكلمات التي نطقت بها الجارية التي كان فيها روح العرافة حين قالت : «هؤلاء الناس هم عبيد الله العلي ، الذي ينادون لكم بطريق الخلاص» ( عدد 18) AR 193.4
فبوداعة عميقة سأل الرسولين ان يرياه طريق الحياة. فأجاباه قائلين: «آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص انت واهل بيتك . وكلماه وجميع من في بيته بكلمة الرب» ( عدد31 ، 32). حينئذ غسل السجان جروح الرسولين وخدمهماوبعد ذلك اعتمد هو والذين له اجمعون ، لقد تغلغلت في قلوب نزلاء ذلك السجن قوة مقدسة، وانفتحت اذهان الجميع للاصغاء الى الحقائق التي نطق بها الرسولان. وقد اقتنعوا ان الاله الذي يخدمه هذانالرجلانقد تدخل بطريقة معجزية لإنقاذهما من الأسر . ارتعب سكان مدينة فيلبي سبب الزلزلة . وعندما أخبر ضباط السجن الولاة في الصباح بما حدث في الليل ، خافوا وارسلواالجلادين لإطلاق سراح الرسولين من السجن . ولكن بولس أعلن قائلا: «ضربونا جهرا غير مقضي علينا ، ونحن رجلان رومانيان ، والقونا في السجن . افالان يطردوننا سرا ؟ كلا، بل ليأتوا هم انفسهم ويخرجونا» (عدد 37). AR 194.1
كان الرسولان من الموطنين الرومان ، وكان القانون يحرم جلد أي رجل روماني ، الا اذا كان ذلك بسبب جريمة شنعاء فاضحة. كما كان يحرم ايضا تجريد الرماني من حريته بدون محاكمة عادلة. اما بولس وسيلا فقد سجنا علانية ، ولذلك فقد رفضا الآن انيطلق سراحهما سرا إلا بعدما يقدم الولاة تفسيرا لائقا لذلك . AR 194.2
فعندما وصل هذا الكلام الى مسائع الحكام ،فزعوا خوفا من ان يشكوهم الرسولان الى الامبراطور . واذ ذهبواللتو الى السجن اعتذروا لبولس وسيلا عن الظلم والقسوة الذين وقعا عليهما ، واخرجوهما بأنفسهم من السجن ، متوسلين اليهما ان يخرجا من المدينة. لقد كانوايخشونمن تأثير الرسولين على الشعب، كما كانوا يخشون من بطش القوة التي قد تدخلت لصالح هذيه الرجلينالبريئين . AR 195.1
فتمشيا مع توصيات المسيح لم يرد الرسولان ان يفرضا وجودهما حيث لم يكن من يرغب في بقائهما «فخرجا من السجن ودخلا عند ليدية ،فأبصراالاخوة وعزياهم ثم خرجا» ( عدد 40). AR 195.2
ان الرسولين لم يعتبراتعبهما في فيلبي باطلا. نعم انهماواجها مقاومات واضطهادات كثيرة ، ولكن تدخل عناية الله لصالحهما، واهتداء السجان واهلبيته، كان ترضية وتعويضا كافيا عن العار والآلام التي قد احتمالاها . ان انباء القائهمافي السجنظلما ونجاتهما بمعجزة انتشرت في كل ذلك الاقليم ، وهذا جعل عددا كبيرا من الناس يعرفون عن عمل الرسولين ، ممن لم يكن ممكن الوصول اليهم بطريقة اخرى . AR 195.3
وكان من نتائج خدمات بولس في فيلبي ان تأسست فيها كنيسة كانت عضويتها تتزايد باستمرار . فغيرته وتكريسه ، وفوق الكل ، استعدادهلأن يتألم لأجل المسيح كل ذلك كان له تاثير عميق ودائم على المهتدين الذين كانوا يقدرون الحقائق الثمينة التي لأجلهاقدم الرسل كل تلك التضحيات ، وهكذا قدم هؤلاء الناس انفسهم في تكريس قلبي كامل لعمل فاديهم . AR 195.4
ومن بعض ماجاءفي رسالة بولس اليهم ، يمكننا ان نتحقق منان هذه الكنيسة لم تنج من الاضطهاد اذ يقول : «لأنه قد وهب لكم لاجل المسيح لا ان تؤمن به فقط ، بل ايضا ان تتألموا لأجله . اذ لكم الجهد عينه الذي رأيتموه في ، والان تسمعون في». ومع ذلك فقد كان ثباتهم في الايمان عظيما ، بحيث اعلن هم قائلا : «اشكر الهيعند كل ذكري اياكم دائمافي كل ادعيتي ، مقدما الطلبة لأجل جميعكم بفرح لسبب مشاركتكم في الانجيلمن أول يوم الى الان» ( فيليبي1 : 29- 30، 3- 5). AR 195.5
ماارهب الصراع الناشب بين قوات الخير وقوات الشر في المراكز الهامة التي يدعى رسل الحقللعمل فيها . فالرسوليعلن قائلا: «فإن مصارعتنا لسيت مع دم ولحم ، بل مع الرؤساء ، مع السلاطين، مع ولاة اعالم ، على ظلمة هذا الدهر» (افسس6 : 12) . وسيظل النضال محتدما بين كنيسة الله وبين أولئك الذين هم تحت سيطرة الملائكة الاشرار ، الى انقضاء الدهر . AR 196.1
كثيرا ماكان يدعى المسيحيون الاولون لمواجهة قوات الظلمة وجها لوجه . لقد حاول العدو بواسطة المغالطة والاضطهاد ان يحولهم عن الايمان الحقيقي وفي عصرنا الحاضر ، عندما نرى نهاية كل شيئ تدنوا سريعا ، يبذل الشيطان جهودا يائسة ليصطادالعالم في اشراكه. انه يبتكر خططا كثيرة ليشغل الاذهان ويحولالتفات الناس عن الحقائق الجوهرية للخلاص . وفي كل مدينة يدأب أعوانه على حشد الذين يقاومون شريعة الله وتنظيمهم في أحزاب. إن المخادع الأعظم يعمل على إدخالعناصر الارتباك والعصيان، فتثور ثائرة الناس بغيرة ليست حسب المعرفة . AR 196.2
إن الشر قد تفاقم إلى حد لم يبلغه من قبل ، ومع ذلك فكثيرون من خدام الانجيل يصرخون قائلين : «سلام وأمان» ولكن على رسل الله الأمناء أن يتقدموا إلى الأمام بثبات في عملهم. وإذ يلبسون سلاح السماء ، عليهم أن يتقدموا بلا خوف وبانتصار ، ولايكفون قط عن شن الحرب حتى تقبلكل نفس يمكن ان يصلوا إليها ، رسالة الحق الخاصة بهاذاالزمن. AR 196.3