أعما لالرُّسل

3/59

الفصل الثاني

تدريب الاثني عشر

لم يختر المسيح علم رجال مجمع السنهدريم اليهودي وفصاحتهم، ولاقوة روما وسلطانها لإنجاز عمله. فقد عبر تاركاً معلمي اليهود الأبرار في أعين أنفسهم واختار رجالا وضعفاء غير متعلمين لكي يذيعوا الحقائق التي كانت على وشك أن تهز العالم . وقد قصد المسيح ، سيد العاملين جميعا ، أن يدرب هؤلاء الرجال ويعلمهم ليكونوا قادة في الكنيسة. وكان عليهم بدورهم أن يعلموا آخرين ويرسلوهم مزودين برسالة الإنجيل, ولكي ينجحوا في عملهم كان لابد من تزويدهم بقوة الروح القدس . إن الإنجيل لم يكن ليذاع بالقوة والحكمة البشريتين بل بقوة الله . AR 7.1

ظل التلاميذ يتلقون العلم والمعرفة لمدى ثلاث سنوات ونصف على يدي أعظيم معلم عرفه العالم. فعن طريق الاتصال الشخصي والمرافقة دربهم المسيح على خدمته . ويوما بعد يوم كان يسيرون ويتحدثون معه وهم يسمعون منه كلمات التشجيع الموجهة للمتبعين والثقيلي الأحمال ويرونه وهو يظهر قدرته لخير المرضى والمعذبين. كان أحيانا يعلمهم إذ يجلس في وسطهمعلى سفح أحد الجبال،وأحيانا أخرى قرب البحر أو فيما هو سائر في الطريق وكان يكشف لهم عن أسرار ملكوت الله. وأينما كانت القلوب AR 7.2

مفتوحة لقبول الرسالة الإلهيةأعلن لهم حقائق طريق الخلاص. وهو لم يأمر التلاميذ بأن يفعلوا هذا أو ذك وإنما قال لكل منهم «اتَبِعْنِيِ» . وإذا كان يطوف في الفرى والمدن اصطحبهم لكي يروا بأنفسهم كيف كان يعلم الشعب . وكانو يسافرون معه من مكان إلى آخر وقد قاسموه نصيبه المتواضع . وفي بعض الأحيان كان يجوعون مثله وكثيراَ ماكانو يعيون. ففي المدن المزدحمة وبقرب شواطئ البحيرة وفي الأماكن الخالية كانوا معه. لقد شاهدوه في كل مراحل الحياة . AR 8.1

وعند تعيين الاثنى عشر اتخذت أول خطوة نحو تنظيم الكنيسة التي كانت ستضطلع بعمل المسيح على الأرض بعد صعوده إلى السماء. وفي هذا الصدد يقول الكاتب : «ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَدَعَا الَّذِينَ أَرَادَهُم فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. مر3: 14 وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلِيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا» (مرقس 3 : 13: 14) AR 8.2

انظروا إلى هذا المشهد المؤثر . هوذا جلال السماء محاط بالا ثنى عشر الذين اختارهم.إنه مزمع أن يفرزهم لعملهم . بهذه الوسائل الضعيفة. وبواسطة كلمته وروحه قصد المسيح أن يجعل الخلاص في متناول الجميع. AR 8.3

لقد شاهد الله وملائكته هذا المنظر بسرور وابتهاج. لقد عرف الآب أنه عن طريق هؤلاء الناس سيضيئ نور السماء ، وأن الأقوال التي ينطقون بها حين يشهدون لابنه سيرن صداها من جيل إلى جيل إلى انقضاء الدهر . AR 8.4

كان على التلاميذ أن يخرجوا كشهود للمسيح ليعلنوا للعالم ما قد رأوه وسمعه عنه . إن مركزهم أهم مركز دعي إليه بنو الإنسان، فقد كانوا في المرتبة الثانية بعد المسيح مباشرة. وكان عليهم أن يكونوا عاملين مع الله لأجل خلاص الناس . فكما وقف الآباء الاثنا عشرة نواباً عن إسرائيل في العهد القديم، هكذا وقف الرسل الاثنا عشر نواباً عن الكنيسة الإنجيلية. AR 8.5

إن المسيح في إبان خدمته الأرضية ابتدأ ينقض حائط السياج بين اليهود والأمم ويكرز بالخلاص لجميع بني الإنسان . ومع أنه كان يهوديا فقد اختلط بالسامريين بكل حرية مبطلاَ عادات اليهود الفريسية الخاصة بهذا الشعب المحتقر . لقد نام في بيوتهم وأكل من طعامهم وعلم في شوارعهم. AR 9.1

وقد تاق المخلص أن يكشف لتلاميذه الحق الخاص بنقض «حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ» بين إسرائيل والأمم الأخرى-ويوضح لهم حقيقة كون الأمم شركاء اليهود «في الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ» (أفسس 2 :14، 3 :6) . وقد أعلن هذا الحق جزئيا عندما كافأ المسيح إيمان قائد المئة في كفرناحوم، وكذلك عندما كرز بالإنجيل لسكان مدينة سوخار . وقد اتضح هذا الحق بشكل أعظم عندما زار فينيقية وحين شفي ابنة المرأة الكنعانية . هذه الاختبارات أعانت التلاميذ أن يفهموا أنه بين أولئك المعتبرين غير مستحقين للخلاص، من قبل العديد من الناس ، توجد نفوس جائعة إلى نور الحق . AR 9.2

وهكذا حاول المسيح أن يعلم التلاميذ أنه لا توجد في ملكوت الله حدود إقليمية ولا نظام للطبقات ولا أرستقراطية، وأن عليهم أن يذهبوا إلى كل الأمم حاملين إليهم رسالة محبة المخلص. ولكنهم ظلوا متباطئين لبعض الوقت عن فهم هذه الحقيقة فيها ملئها وهي أن الله : «وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ، وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ، لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيدًا» (أعمال 17 : 26 ، 27). AR 9.3

وقد ظهرت في هؤلاء التلاميذ الأولين اختلافات ملحوظة. كانوا مزمعين أن يكونوا معلمي العالم، ولكنهم قدموا أمثله متباينة لاختلاف الصفات. AR 9.4

فلكي ينجحوا في تقدم العمل الذي قد دعوا إليه كان هؤلاء الرجال المختلفون في المميزات الطبيعية وعادات الحياة، بحاجة إلى توحيد مشاعرهم وأفكارهم مالهم. وقد كان غرض المسيح هو تحقيق هذه الوحدة. فلكي يصل إلى هذه الغاية حاول أن يوحدهم بشخصه.إن عبء تعبه لأجلهم قد عُبِّر عنه في صلاته إلى الآب حين قال : «لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا،وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِ وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي»(يوحنا 18 : 21 ، 23) . كانت صلاته الدائمة لأجلهم أن يكونوا مقدسين في الحق. وقد صلّى بيقين عالماً أن أمرَا إلهياَ قد صدر قبل خلق العالم فقد أن إنجيل الملكوت سيكرز به لكل الأمم شهادة لهم . كما علم أن الحق المسلح بقدره الروح القدس التي لا تقهر سينتصر في المعركة ضد الشر ، وأن الراية المخضبة بالدم سترفرف بانتصار فوق تابعيه . AR 10.1

وعندما قاربت خدمة المسيح الأرضية على الانتهاء وتأكد لديه أنه لابد أن يتركه تلاميذه قريبا ليقوموا بالعمل دون إشرافه المباشرة عليهم، حاول أن يشجعهم ويعدهم للمستقبل. إنه لم يخدعهم بآمال كاذبة، وقد كان يقرأ الحوادث العتيدة كما من كتاب مفتوح . لقد علم أنه مزمع أن يفترق عنهم ويتركهم كغنم في وسط ذئاب .وأنهم مزمعون أن يقاسوا أهوال الاضطهاد ويُطردوا منالمجامع ويلقى بهم في غياهب السجون . كما علم أم بعضا منهم سيقاسون الموت عندما يشهدون أنه المسيح . وقد أخبرهم ببعض ما ينتظرهم. وذ كان يحدثهم عن مستقبل حياتهم كان كلامه صريحاَ ومحددَا ، حتى عندما تهجم عليهم التجارب في المستقبل يذكرون أقواله ويتقوونليؤمنوا به كفاديهم . AR 10.2

وقد خاطبهم أيضاُ بكلام الرجاء والتشجيع ، فقال : «لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ فَآمِنُوا بِي.فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا» (يوحنا 14 : 1-4). وكأن به يقول : لأجلكم أتيت إلى االعالم لأعلن لكم نفسي لتؤمنوا . وها أنا أمضي إلى أبي وأبيكم لأتعاون معه فيالعمل لأجلكم . AR 11.1

«اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي» (يوحنا 14: 12) . لم يكن المسيح يعني بهذا أن تلاميذه سيبذلون جهودا أسمى مما فعل هو لكنه كان يعني أن عملهم سيكون أعظم في أهميته واتساع مداه. وهو لم يشر إلى مجرد صنع المعجزات بل أشار إلى كل ما سيحدث تحت إرشاد الروح القدس . وقد قال لهم: «وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاءِ») (يوحنا 15 : 26 ، 27) AR 11.2

وقد تمت هذه الأقوال بطريقة مدهشة . فبعد نزول الروح القدس امتلأ التلاميذ بالمحبة للمسيح ولكل من قد مات لأجلهم بحيث أن قلوب الحاضرين ذابت لدى سماع أقوالهم وصلواتهم التي قدموها . فقد تكلموا بقوة الروح القدس ، وتحت تأثير تلك القوة اهتدى آلاف الناس . AR 11.3

وكنواب عن المسيح كان على الرسل أن يتركوا للعالم تأثيرا باقياً. إن حقيقة كونهم قوما فقراء لم تكن لتقلل من تأثيرهم بل تزيده لأن عقول سامعيهم كانت ستنقل من التفكير فيهم إلى التفكير في المخلص الذي وإن يكن غير منظور كان لايزال يعمل معهم . إن تعليم الرسل العجيب وأقوالهم المشجعة المفعمة بالثقة كانت لتؤكد للجميع أنهم لم يكونو يعملون لقوتهم بل بقوة المسيح وباتضاع كانوا سيعلنون أن ذاك الذي قد صلبه اليهود هو رئيس الحياة وابن الله الحي وأنهم باسمه عملوا الأعمال التي قد عملها هو . إن المخلص لم يشر في خطابة الوداعي ، الذي خاطب بهتلاميذه في الليلة التي سبقت الصلب ، إلى الآلام التي كانت تنتظره والتي كان قد بدأ يتجرع مرارتها. لم يتكلم عن الهوان والاتضاع الذي أمامه بل أراد أن يرشد عقولهم إلى مايشجعهم ويقوي إيمانهم فوجه أنظارهم إلى الأمام إلى الأفراح التي تنتظر كل الظافرين .وقد ابتهج بحقيقة كونه يستطيعبل ويريد أن يفعل لتابعيه أكثر مما قد وعدهم به ، وأن منه تفيض المحبة والرأفة مطهرة هيكل النفس وجاعلة الناس مثله في الصفات ، وأن حقه المصحوب بقوة الروح سيخرج غالباَ ولكى يغلب . AR 11.4

وقال لهم: «كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يوحنا 16 : 33) . إن المسيح لم يفشل ولافارقته شجاعته ، وكان على التلاميذ أن يبرهونا على أن لهم إيمانا ثابتا كإيمانه . وان يعلموا كما قد عمل هو مستندين عليه في طلب القوة . ومعأن طريقهم كانت ستعترضه بعض العقبات التي يستحيل تخطيها حسب الظاهر فإنه كان عليهم أن يتقدموا بنعمته ولاييأسوا من شيئبل أن يرجوا الرب في كل شيء . AR 12.1

لقد أكمل المسيح العمل الذي أتى ليعمله، وقد اختار أولئك الذين كانوا سيواصلون عمله ذلك بين الناس. فقال : « وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ AR 12.2

فِي الْعَالَمِ، وَأَمَّا هؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ». «لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي» (يوحنا 17 :10 ،11، 2 ،23 ) AR 13.1