الاباء والانبياء

4/75

الفصل الثاني—الخلق

( يعتمد هذا الفصل على ما جاء في تكوين 2,1 ).

«بكلمة الرب صنعت السماوات ، وبنسمة فيه كل جنودها . لأنه قال فكان . هو أمر فصار » (مزمور 33 : 6، 9) ،«المؤسس الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد » (مزمور 104 : 5). AA 24.1

إن الارض بعدما خرجت من بين يدي صانعها كانت آية في الجمال ، فلقد ازدان سطحها بأشكال متعددة من الجبال والتلال والسهول ، وكان فيها أنهار عظيمة وبحيرات جميلة. ولكن الجبال والتلال لم تكن وعرة ولا خشنة عابسة ، ولا تكاثرت فيها المنحدرات السحيقة أو الفجوات المخيفة كما هي الحال اليوم ، فتلك الحافات الحادة الوعرة ، حافات ذلك الإطار الصخري كانت مختفية تحت تربة الأرض المخصبة التي أخرجت خضرة يانعة . ولم تكن هنالك مستنقعات كريهة ولا صحاري قفراء ، بل كانت تبتسم لعيون الناظرين الشجيرات اليانعة والأزهار الجميلة في كل مكان . والمرتفعات كانت مكللة بالأشجار العظيمة التي هي أعظم في ارتفاعها من كل ما نراه اليوم . والهواء الذي لم يكن مشوبا بالابخرة العفنة كان صافيا ومنعشا وعليلا ، وكان المنظر كله يفوق في جماله كل ما يمكن أن تخرجه يد أعظم فنان في أفخم القصور . ولقد سر الجند السماويون من هذه المناظر ، وفرحوا بأعمال الله العجيبة . AA 24.2

وبعد ما ظهرت الأرض في الوجود بما امتلأ به من حيوان ونبات ظهر على مسرح العمل الإنسان الذي هو تاج كل أعمال الخالق والذي لأجله أعدت الارض الجميلة . وأعطى له السلطان على كل ما وقع عليه نظره ، «وقال الله : نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ، فيستلطون على ... كل الأرض ... فخلق الله الإنسان على صورته ... ذكرا وأنثى خلقهم» (تكوين 1: 26، 27). هنا أصل الجنس البشري موضحا بكل جلاء . هنا شهادة الله مدونة بكل وضوح بحيث لا مجال للاستنتاجات الخاطئة . لقد خلق الله الإنسان على صورته ، فلا غموض هنا ، ولا أساس لافتراض كون الإنسان قد خضع للتطور في أطوار نمو بطيء ، من الطور الحيواني أو النباتي المنحط . مثل هذ التعليم يحقر العمل العظيم الذي عمله الخالق ويحطه إلى مستوى فهم الإنسان الترابي الضيق . إن الناس يصرون على تجريد الله من التسلط على الكون إلى حد أنهم يحطون من قدر الإنسان ويختلسون منه نبل أصله . إن الذي زين السماء بالكواكب ، وجمل الأرض بالأزهار والأشجار ، والذي ملأ الأرض والسموات بعجائب قدرته ، حين أراد أن يتوج عمله المجيد هذا ويضع واحدا في الوسط ليقف حاكما على الأرض الجميلة لم يقصر في أن يخلق كائنا جديرا باليد التي وهبته الحياة . إن سلسلة نسب جنسنا كما يذكرها الوحي يتأثرها من أصلها ، لا إلى السلسلة من الجراثيم المتطورة والحيوانات الللافقرية والحيوانات ذوات الأربع ، بل إلى الخالق العظيم . فمع أن آدم جبل من التراب فقد كان «ابن الله» (لوقا 3 : 38) . AA 24.3

أقام الله آدم نائبا عنه في التسلط على الخلائق الدنيا . إنها لا تستطيع أن تدرك سلطان الله ولا أن تعترف به ، ومع ذلك فقد كان في مقدورها أن تحب الإنسان وتخدمه . يقول المرنم : « تسلطه على أعمال يديك . جعلت كل شيء تحت قدميه : بهائم البر أيضا ، وطيور السماء ، وسمك البحر السالك في سبل المياه »(مزمور8 : 6 — 8) . AA 25.1

وكان للإنسان أن يحمل صورة الله في الشبه الظاهر وفي الصفات أيضا . إن المسيح هو وحده رسم جوهر الآب (عبرانيين 1: 3) . ولكن الإنسان قد تكون على صورة الله ، وكانت طبيعته في وفاق وإرادة الله ، وكان عقله قادرا على إدراك الأمور الروحية ، وكانت عواطفه طاهرة ، وأشواقه وانفعالاته النفسية تحت سيطرة العقل ، وكان مقدسا وسعيدا لكونه يحمل صورة الله ، وكان يقدم لله طاعة كاملة. AA 25.2

بعدما خرج الإنسان من بين يدي جابله كان فارع الطول متناسق الأعضاء ، وكان وردي اللون دليلا على الصحة ، ومن عينيه يشع نور الحياة والفرح . وكان آدم أطول قامة من كل من يعيشون على الأرض اليوم . أما حواء فكانت أقصر منه قليلا ، ومع ذلك فقد كانت نبيلة التكوين بارعة الجمال ولم يكن ذانك الزوجان الباران يلبسان ثيابا مصطنعة ، بل كانا متسربلين بثياب النور والمجد كالتي يلبسها الملائكة ، وإن رداء النور هذا قد سترهما ما ظلا عائشين في طاعة الله . AA 25.3

وبعدما خلق آدم جيء إليه بكل المخلوقات الحية ليدعوها بأسمائها ، ورأى آدم أن لكل حيوان إلفا من جنسه ، « وأما لنفسه فلم يجد معينا نظيره» (تكوين 2: 20). وبين كل المخلوقات التي خلقها الله على الأرض لم يكن ما يعادل الإنسان ، « قال الرب الإله : ليس جيدا أن يكون آدم وحده ، فأصنع له معينا نظيره» (تكوين 2: 18). إن الإنسان لم يخلق ليعيش منفردا مستوحشا ، بل ليكون كائنا اجتماعيا ، إذ بدون رفيق يؤنسه لم تكن كل المناظر المبهجة والأعمال المفرحة في جنة عدن كفيلة بإدخال السعادة الكاملة إلى نفسه ، بل حتى مصاحبته للملائكة لم تكن لتشبع شوقه إلى العطف والرفق والمؤانسة. لم يكن يجد شخصا آخر نظيره يبادله حبا بحب . AA 26.1

إن الله نفسه قد أعطى آدم عشيرا ، إذ دبر له « معينا نظيره » معينا يتحدث معه ويأنس إليه ، أهلا لأن يكون رفيقا له ، يتحد معه في الحب والعطف . ولقد خلقت حواء من ضلع أخذها الله من جنب آدم ، دليلا على أن حواء لم تكن لتسيطر عليه كما لو كانت هي الرأس ، ولا أن يطأها بقدميه كما لو كانت أدنى منه مقاما ، بل لتقف معه جنبا إلى جنب كصنو له ، ليحبها ويحميها . فإذا كانت بضعة من آدم وعظما من عظامه ولحما من لحمه كانت شخصه الثاني ، برهانا على الاتحاد المتين والملازمة الحبية التي ينبغي أن توجد في هذه العلاقة ، « فإنه لم يبغض أحد جسده قط ، بل يقوته ويربيه » (أفسس 5 : 29) « لذلك يترك الرجال أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدا » (تكوين 2 : 24) AA 26.2

لقد احتفل الله بأول حفلة زواج ، فأول من ابتدع سنة الزواج هو خالق الكون نفسه ، « ليكن الزواج مكرما » (عبرانيين 13 : 4). لقد كان الزواج هبة من أولى الهبات التي منحها الله للإنسان ، وإحدى السنتين اللتين خرج بهما آدم من الجنة بعد السقوط . فحين تراعى المبادئ الإلهية وتطاع في هذه العلاقة يكون الزواج بركة ، إذ يكون سورا وسياجا يحفظ طهارة الجنس البشري وسعادته ، ويسد حاجات الإنسان الاجتماعية ، ويسمو بطبيعته الجسديه والخلقية والأدبية . AA 26.3

« وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ، ووضع هناك آدم الذي جبله» (تكوين 2 : 8) . إن كل ما عمله الله كان كمال الجمال . ولم يكن هنالك شيء ناقصا مما يعمل على إسعاد ذينك الزوجين المقدسين . ومع ذلك فقد أعطاهما الله دليلا على محبته حين أعد لهما جنة لتكون مأواهما . AA 26.4

وكان في الجنة أشجار من كل نوع ، وكان كثير منها محملا بالأثمار الشهية العطرة الرائحة . كانت هنالك أشجار كرم كثيرة مما ينمو منتصبا ، وكان منظرها جميلا جدا بأغصانها المنحنية تحت ثقل الفاكهة المغرية ذات الألوان الجميلة المختلفة. وكان عمل آدم وحواء تشذيب أغصان الكرم وإعدادها لعمل مخادع لهما ، وبذلك أعدا لنفسيهما مسكنا من الأشجار الحية ، مغطى بالثمار وأوراق البنات ، وكانت هناك أزهار عطرة وفيرة من كل الألوان بوفرة ، وفي وسط الجنة كانت شجرة الحياة تفوق في المجد كل الأشجار الأخرى ، وكان ثمرها شبيها بالتفاح الذهبي والفضي ، وكان لثمرها قوة على تخليد الحياة . AA 28.1

لقد أكلمت الخليقة الآن ، « فأكملت السماوات والأرض وكل جندها » « ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا » (تكوين 2 : 1 ، 1 : 31) وازدهت جنة عدن على الأرض وتفتحت أزهارها ، وكان آدم وحواء كامل الحرية للأكل من شجرة الحياة ، ولم تكن هناك وصمة من وصمات الخطية ولا أثر لظل الموت ليفسد تلك الخليقة الجميلة ، بل « ترنمت كواكب الصبح معا ، وهتف جميع بني الله » (أيوب 38: 7) . AA 28.2

إن يهوه العظيم قد وضع أساسات الأرض ، وكسا العالم كله ثوبا من الجمال ، وملأه بكل ما هو نافع للإنسان ، وخلق كل عجائب الأرض والبحر . لقد أكمل عمل الخلق العظيم في ستة أيام « فاستراح (الله ) في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل . وبارك الله اليوم السابع وقدسه ، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا » . ونظر إلى عمل يديه بعين الرضى ، فقد كان كل شيء كاملا جديرا بمبدعه الإلهي ، واستراح ، لا كمن قد أعيا وتعب بل كمن أرضته ثمار حكمته وصلاحه ومظاهر مجده . AA 28.3

بعدما استراح الله في اليوم السابع قدسه أي أفرزه يوم راحة للإنسان، وكان على الانسان أن يستريح في هذا اليوم المقدس اقتداء بالخالق ، حتى أنه إذ ينظر إلى السموات والأرض يتأمل في عمل الخلق العظيم . وحين يرى أدلة حكمة الله وصلاحه يمتلئ قلبه حبا وتقديرا لخالقه . AA 28.4

وفي عدن أقام الله تذكار عمله خالقا بأن بارك اليوم السابع ، وائتمن الله آدم على السبت باعتباره أبا للأسرة البشرية ونائبا عنها كلها ، وكان تقديسه اعترافا بالشكر للرب من جانب كل ساكني الارض ، وبأن الله هو خالقهم وملكهم الشرعي ، وبأنهم صنعة يديه ورعايا سلطانه . وهكذا كانت هذه الشريعة بجملتها تذكارية سلمت للجنس البشري كله ، وليس فيها شيء ظلي ولا غرضها مقصور على شعب معين . AA 28.5

ورأى الله جوهريا أن يجعل للإنسان سبتا ، حتى وهو في الفردوس، فلقد كان بحاجة إلى أن يلقي جانبا مصالحه الخاصة ومطالبه لمدة يوم واحد من سبعة أيام ، حتى يكون لديه وقت كاف للتفكر في أعمال الله والتأمل في قوته وصلاحه. كان بحاجة إلى سبت ليذكره بالله ويوقظ في قلبه روح الشكران ، لأن كل ما كان يتمتع به ويملكه جاءته به يد الخالق السخية الكريمة . AA 29.1

إن الله يقصد من السبت توجيه عقول بني الإنسان للتأمل في خليقته . فالطبيعة تتحدث إلى حواسهم معلنة أن هنالك إلها حيا ، هو الخالق والحاكم المطلق على الجميع « السماوات تحدث بمجد الله ، والفلك يخبر بعمل يديه . يوم إلى يوم يذيع كلاما ، وليل إلى ليل يبدي علما » (مزمور 19 : 1، 2). والجمال الذي يكسو الأرض هو علامة من علائم محبة الله . ويمكننا أن نرى هذه المحبة في الآكام الدهرية وفي الأشجار العالية ، وفي البراعم المتفتحة والأزهار الجميلة . كل هذه تحدثنا عن الله . إن السبت الذي يرشدنا إلى ذاك الذي صنع كل هذه الاشياء يحض الناس على أن يفتحوا سفر الطبيعة العظيم ليروا فيه حكمة الخالق وقوته ومحبته . AA 29.2

إن أبوينا الأولين مع كونهما قد خلقا في حالة الطهارة والقداسة إلا أنهما لم يجردا من إمكانية الخطأ . لقد خلقهما الله ولهما إرادة حرة ، ، قادرين على تقدير حكمة الخالق وإحسانه وعدالة مطاليبه ، ولهما ملء الحرية في أن يطيعاه أو يمتنعا عن الطاعة . كان لهما أن يتمتعا بالشركة مع الله ومع الملائكة القديسين . ولكن قبلما يعتبران آمنين إلى الأبد لا بد من امتحان ولائهما . فالإنسان ، عند بدء وجوده ، أعطي القدرة على قمع شهواته ، شهواته القاتلة التي كانت علة وأساس سقوط الشيطان ، فإن شجرة المعرفة التي كانت قريبة من شجرة الحياة في وسط الجنة كانت لامتحان طاعة أبوينا الأولين وإيمانهما ومحبتهما ، فبينما كان مسموحا لهما بالأكل من كل شجرة أخرى ، فقد حرم عليهما الأكل من هذه الشجرة تحت طائلة الموت . وكان لا بد لهما من أن يتعرضا لتجارب الشيطان ، ولكن إذا ثبتا أمام هذه التجربة فإنهما أخيرا سينجوان إلى الأبد من سلطانه ويتمتعان برضى الله الدائم. AA 29.3

وضع الله الإنسان تحت الناموس كشرط لازم لكيانه . لقد كان خاضعا لحكم الله، إذ ليس هنالك حكم بدون ناموس ، وكان بإمكان الله أن يخلق الإنسان في حالة العجز عن عصيان شريعته ، وكان بإمكانه أن يكف يد آدم عن أن تمس الثمرة المحرمة ، ولكن في هذه الحالة ما كان الإنسان يعتبر كائنا ادبيا حر الإرادة بل مجرد آلة متحركة ، فبدون حرية الاختيار لا تعتبر طاعته طوعية بل قسرية ، وليس لأخلاقه مجال لتنمو . إن هذا السبيل يتعارض وتدبير الله في معاملته لسكان العوالم الأخرى ، وما كان هذا خليقا بالإنسان ككائن عاقل ، بل كان قمينا بأن يؤيد اتهام الشيطان لله بأنه مستبد ومتعسف في حكمه . AA 30.1

صنع الله الإنسان مستقيما ، وأعطاه مسحة من الخلق النبيل الكريم دون أي انحراف إلى الشر ، كما منحه قوى ذهنية سامية ، وقدم له أقوى الدوافع الممكنة لأن يكون مخلصا في ولائه . كان شرط حصوله على السعادة الأبدية هو الطاعة الكاملة المستمرة ، وعلى هذا الشرط كان يسمح له بالاقتراب من شجرة الحياة . AA 30.2

لقد رُسم أن يكون بيت أبوينا الأولين نموذجا للبيوت الأخرى حين يخرج أولادهما لامتلاك الأرض . وذلك البيت الذي جعل الله نفسه بيده لم يكن قصرا فخما . إن الناس في كبريائهم يسرون بالسكن في العمارات الفخمة الغالية القيمة ، ويفخرون معتزين بأعمال أيديهم ، ولكن الله وضع آدم في جنة ، وكان هذا مسكنه ، فكان يعيش تحت القبة الزرقاء ، ويفترش الأرض التي ازدانت بالأزهار الجميلة والأعشاب اليانعة الخضراء ، وكانت مظلته أغصان الأشجار الجميلة الغبياء . وكان تتدلى من جدران ذلك المسكن أجمل الزينات — صنعة يدي الفنان الماهر الحكيم . وفي كل ما كان يحيط بذينك الزوجين القديسين درس لكل عصور التاريخ . إن تلك السعادة الحقيقية لا نجدها في الانغماس في الكبرياء والترف ، بل في الشركة مع الله عن طريق أعماله التي خلقها ، فلو أن الناس لا يلتفتون كثيرا إلى الأمور المصطنعة الكاذبة بل عكفوا على البساطة لكانوا يزدادون قربا الى تحقيق قصد الله في خلقهم . إن الكبرياء والطموح لا يمكن إشباعهما ابدا . ومن الذين هم حكماء حقا سيجدون السرور الجوهري العملي في منابع الغبطة التي قد جعلها الله في متناول أيدي الجميع. AA 30.3

وقد عهد الله إلى ساكني جنة عدن أمر العناية بالجنة ليعملاها ويحفظاها ، (تكوين 2 : 15) ، ولم يكن ذلك بالعمل المضني أو المتعب ، بل كان مفرحا ومنشطا . لقد عين الله العمل بركة للإنسان ، إذ به يشغل تفكيره ويقوي جسمه وينمي قواه العاقلة . ففي النشاط الذهني والجسماني وجد آدم عاملاً من أعظم عوامل البهجة في وجوده المقدس . فلما طرد من هذا البيت الجميل نتيجة لعصيانه واضطر إلى أن يكافح مع الأرض القاسية العنيدة ليحصل على قوته اليومي ، فإن هذا العمل وهذا الكد ، مع وجود بون شاسع بينه وبين عمله المفرح في الجنة ، كان حرزا يقيه من التجارب ، ومصدر للسعادة . إن الذين يعتبرون العمل سبة أو لعنة ، مع ما يصاحبه من الإعياء والألم ، يرتكبون خطأ جسيما . كثيرا ما يلقي الأغنياء على طبقات العمال نظرات الترفع والازدراء ، ولكن هذا يتنافى ، كلية ، مع قصد الله في خلق الإنسان . ما هي أملاك أغنى الأغنياء لو قورنت بالميراث العظيم الذي أعطى لآدم سيد الارض ؟ ومع ذلك فإن آدم ما كان يركن إلى البطالة والكسل . إن خالقنا الذي يعرف جيدا ما يؤول إلى سعادتنا هو قد عين لآدم عمله . وإن فرح الحياة الحقيقي يجده العاملون المجدون من الرجال والنساء دون سواهم . والملائكة هم عاملون نشيطون مجتهدون ، إذ هم خدام الله الذين أقامهم لخدمة بني الإنسان . ولا مكان في مسكونة الخالق لمن يركنون إلى البلادة والخمول والجمود. AA 30.4

وكان لآدم وشريكته أن يتسلطا على الأرض ما بقيا أمينين لله ، فلقد أعطيت لهما سلطة غير محدودة على كل الخلائق الحية . فقد كان الأسد والحمل يلهوان ويلعبان في سلام حولهما ، أو يضطجعان وينامان معها تحت أقدامهما ، وكانت الطيور المرحة ترفرف بأجنحتها حولهما بلا خوف . وإذ كانت تغرد بأغاني الحمد لخالقهما اشترك معها آدم وحواء في ترديد الشكر للآب والابن. AA 31.1

إن ذينك الزوجين القديسين لم يكونا فقط طفلين يتمتمان برعاية الله أبيهما ، بل كانا أيضا تلميذين يتلقيان التعليم من الخالق الكلي الحكمة . كان الملائكة يزورونهما ، كما سمح بأن تكون لهما شركة مع جابلهما دون أن يكون هنالك حجاب يفصله عنهما . كان «ممتلئين نشاطا بفضل أكلهما من شجرة الحياة ، وكانت قواهما العقلية أقل قليلا مما للملائكة . وإن أسرار الكون المنظور ومعجزات الكامل المعارف » (أيوب 37 : 16). فتحت أمامهما نبعا لا ينضب من المعرفة والسرور . ثم أن قوانين الطبيعة وأعمالها التي ظلت موضع دراسة البشر مدة ستة آلاف سنة انفتحت . وانكشفت أمام ذهنيهما بواسطة ذاك الذي هو مصور الكل وحامل الكل . كانا يتحدثان مع الأزهار والأشجار ويستخلصان منها أسرار حياتها . وقد كان آدم عارفا بل الخلائق الحية من لوياثان العظيم الذي يلعب في الماء إلى الهوام الصغيرة التي تطير فوق وجه الأرض، وقد دعا كل تلك الخلائق بأسمائها ، كما كان خيرا بطبيعة كل منها وعاداتها . إن مجد الله في السموات ، والعوالم التي لا حصر لها في دوراتها المنتظمة و « موازنة السحاب »(أيوب 37 :16 ) . وأسرار النور والصوت والنهار والليل - كل هذه كانت موضوع دراسة أبوينا الأولين . فعلى كل ورقة من أوراق أشجار الغابات وكل حجر في الجبال ، وفي كل كوكب ساطع وفي الأرض والهواء والجلد ، كان اسم الله مكتوبا . وإن النظام والانسجام العجيب في الخليقة حدثاهما عن حكمة الله وقوته اللتين لا حد لهما . كانا على الدوام يكتشفان بعض الجوانب التي ملأت قلبيهما بحب أعمق لله ، وكانا يرغبان في التعبير عن شكرهما لجلاله. AA 31.2

لقد ازداد استعدادهما للمعرفة والتمتع والحب ما بقيا مخلصين لشريعة الله .. كانا يرغبان دائما في اكتشاف كنوز جديدة من المعرفة ، ويكتشفان ينابيع جديدة للسعادة ، ويحصلان على إدراك جديد لمحبة الله التي لا تقاس ولا تنفد . AA 32.1

* * * * *