الاباء والانبياء

19/75

الفصل السابع عشر—هروب يعقوب ومنفاه

----------------------

إن يعقوب وهو مهدد بالقتل من عيسو الساخط عليه خرج هاربا من بيت أبيه ، ولكنه حمل معه بركة أبيه ، فإن إسحاق كان قد جدد له عهد الموعد ، وأمره ، كوارث لذلك العهد ، بأن يتخذ لنفسه زوجة من عائلة أمه في ما بين النهرين . إلا أن يعقوب خرج في رحلته الموحشة تلك بقلب مرتعد واجف ، فلقد كان عليه أن يسير على قدميه مئات الأميال ، مخترقا بلادا يسكنها أقوام متوحشون رحل ، وليس بيده غير عصاه . ففي خوفه وحزنه ووجله أراد أن يتجنب الناس لئلا يتأثر خطواته أخوه الساخط عليه . وخشي أن يكون قد خسر ، إلى الأبد ، البركة التي قصد الله أن يمنحه إياها ، وكان الشيطان قريبا منه يهاجمه بتجاربه . AA 157.1

لما أقبل مساء اليوم الثاني كان قد ابتعد كثيرا عن خيام أبيه ، وأحس كأنه طريد ، وعرف أن هذا الضيق الذي كان يقاسيه إنما سببه الطريق الخاطئ الذي سلكه ، فضغطت ظلمة اليأس نفسه ، وبالجهد اجترأ على الصلاة . ولكنه كان وحيدا تماما ، فأحس ، كما لم يحس من قبل ، بحاجته إلى حماية الله ، فاعترف بخطيته بانسحاق شديد وبكاء ، وتوسل إلى الله في طلب دليل يبرهن على أنه لم يترك كلية ، ولكن قلبه المثقل لم يجد راحة ، إذ قد أضاع كل ثقة في نفسه ، وكان يخشى لئلا يكون إله آبائه قد رفضه . AA 157.2

غير أن الله لم يهجره ، بل بسط رحمة لذلك العبد المخطئ المتخوف ، فالرب في شفقته أعلن ليعقوب ما كان يحتاجه تماما - أي مخلصا . كان قد أخطأ ، إلا أن قلبه امتلأ شكرا حين أبصر أمامه طريقا مفتوحا ، بواسطته يستطيع أن يستعيد رضى الله. AA 157.3

وإذ كان ذلك الضال قد تعب من السفر اضطجع على الأرض وتوسد حجرا ، ففيما كان نائما أبصر سلما لامعة ومنيرة ارتكزت على الأرض ورأسها يمس السماء ، ورأى على هذه السلم الملائكة يصعدون وينزلون ، ورأى في أعلاها سيد المجد ، ومن السماء سمع صوته قائلا له : ( أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق ) ووعده الرب أن الأرض التي كان مضطجعا عليها كطريد هارب سيعطيها له ولنسله ، وأكد له قائلا : ( يتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض ) كان هذا الوعد قد أعطى لإبراهيم وإسحاق ، والآن هوذا الرب يجدده ليعقوب ، وإذ رأى الرب وحدته الحاضرة وضيقة نفسه وحزنه كلمه بكلام التشجيع والعزاء قائلا : ( وها أنا معك ، وأحفظك حيثما تذهب ، وأردّك إلى هذه الأرض ، لأنّي لا أتركك حتّى أفعل ما كلّمتك به ) (تكوين 28 : 13 — 15) . AA 157.4

عرف الرب المؤثرات الشريرة التي ستحيط بيعقوب والمخاطر التي سيتعرض لها ، ففي رحمته كشف المستقبل أمام عيني ذلك الهارب التائب ليعرف قصد الله له ، ويستعد لمقاومة التجارب التي لا بد من أن تهاجمه حين يكون وحيدا بين عبدة الأوثان ومدبري المكائد ، وهناك سيكون أمامه المثل الأعلى الذي ينبغي له أن يهدف إليه ، وأن معرفته بأنه عن طريقه يسير غرض الله في طريق الإتمام ستحفزه على الأمانة . AA 158.1

في هذه الرؤيا بسط تدبير الفداء أمام يعقوب ، لا في كل ملئه ، وإنما في بعض أجزائه على قدر ما كان لازما وجوهريا له في ذلك الحين ، فتلك السلم الرمزية التي ظهرت أمامه في حلمه كانت هي نفسها التي أشار إليها المسيح في كلامه مع نثنائيل حين قال : ( ترون السّماء مفتوحة ، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان ) (يوحنا 1 : 51) . قبلما تمرد الإنسان على سلطان الله وحكمه كانت هنالك شركة مباحة بين الله والإنسان ، ولكن خطية آدم وحواء فصلت الأرض عن السماء ، حتى لم يعد الإنسان قادرا على أن يكون في شركة مع جابله ، ومع ذلك لم يترك العالم في عزلة ويأس فالسلم ترمز إلى يسوع وسيط الاتصال المعين من الله ، فلو لم يصنع بنفسه وباستحقاقاته معبرا فوق الهوة التي خلقتها الخطية لما أمكن الملائكة الخدام أن يتصلوا بالإنسان الضال ، إن المسيح يربط بين الإنسان في ضعفه وعجزه وبين مصدر القوة غير المحدودة . AA 158.2

كل هذا أعلن ليعقوب في حلمه ، ومع أنه فهم جزءا من ذلك الإعلان لأول وهلة فإن حقائقه العظيمة العجيبة كانت موضوع دراسته مدى الحياة ، وقد كشفت لمداركه شيئا فشيئا . AA 158.3

استيقظ يعقوب من نومه في سكون الليل العميق ، وكانت الصورة المنيرة التي رآها قد اختفت ، ولم ير غير منظر قاتم للتلال الموحشة ، ورأى السماء من فوقها تزينها النجوم ، غير أنه كان يشعر شعورا مقدسا بأن الله معه ، وأن شخصا غير منظور قد بدد وحشة نفسه فقال : ( حقّا إنّ الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم !... ما هذا إلاّ بيت الله ، وهذا باب السّماء ) (تكوين 28 : 16 - 22) . AA 158.4

( وبكّر يعقوب في الصّباح وأخذ الحجر الّذي وضعه تحت رأسه وأقامه عمودا ، وصبّ زيتا على رأسه ) فحسب العادة المتبعة في تخليد الحوادث الهامة نصب يعقوب عمودا يذكره بمراحم الرب حتى كلما اتجه في تلك الطريق يلبث بعض الوقت في هذه البقعة المقدسة ليقدم عبادته للرب ، ودعا اسم ذلك المكان بيت إيل أي ( بيت الله ) وبشكر عميق كرر الوعد القائل بأن الله سيكون معه ، وحينئذ نذر هذا النذر المهيب قائلا : ( إن كان الله معي ، وحفظني في هذا الطّريق الّذي أنا سائر فيه ، وأعطاني خبزا لآكل وثيابا لألبس ، ورجعت بسلامٍ إلى بيت أبي ، يكون الرب لي إلها ، وهذا الحجر الّذي أقمته عمودا يكون بيت الله ، وكلّ ما تعطيني فإنّي أعشّره لك) . AA 159.1

لم يكن يعقوب هنا يسعى في عقد شروط مع الله ، لقد سبق الرب فوعده بالنجاح ، وكان هذا النذر هو فيضان قلبه الذي امتلأ شكرا لله الذي وعده بالحب والرحمة ، لقد أحس أن لله عليه حقوقا ، ومن واجبه أن يعترف بها ، وأن العلامات الخاصة لرضى الله الذي قد منحه إياه تتطلب شيئا في مقابلها . هكذا كل بركة يمنحنا إياها الله تتطلب استجابة منا لذلك الذي يمنحنا كل المراحم ، فعلى المسيحي أن يراجع حياته الماضية كثيرا ، ويستعيد بالشكر المرار التي فيها منحه الرب نجاة ثمينة ، وسنده في تجاربه وفتح أمامه طريقا حين بدا كل شيء مظلما وداعيا للتوجس والتشاؤم ، وأنعشه حين كان موشكا أن يظلع أو ينهار ، عليه أن يعتبر هذه كلها دلائل على سهر الملائكة عليه ورعايتهم له وبالنظر إلى كل هذه البركات التي لا تحصى عليه أن يسأل كثيرا بقلب خاشع شكور : ( ماذا أردّ للرب من أجل كلّ حسناته لي ؟ ) (مزمور 116 : 12) . AA 159.2

ينبغي لنا أن نكرس أوقاتنا ومواهبنا وأموالنا لذاك الذي قد ائتمننا عليها ، وكلما صنع الرب لنا نجاة خاصة أو منحنا هبات جديدة لم نكن ننتظرها فعلينا أن نعترف بصلاح الله ليس فقط بالتعبير عن شكرنا بالكلام بل أيضا بتقديم هباتنا وتقدماتنا لأجل عمله كما قد فعل يعقوب ، وحيث أننا نتلقى بركات الله باستمرار علينا أن نعطي باستمرار . AA 159.3

قال يعقوب : ( كلّ ما تعطيني فإنّي أعشّره لك ) (تكوين 28 : 22) فهل نحن الذين نتمتع بنور الإنجيل وامتيازاته كاملة نعطي الله أقل مما أعطاه له أولئك الذين عاشوا في العهد القديم الأقل في امتيازاته ؟ كلا ، أفلا يجب علينا نحن الذين نتمتع ببركات أعظم أن تكون واجباتنا أعظم تبعا لذلك ؟ ولكن ما أقل تقديرنا ، وما أكثر محاولاتنا العديمة الجدوى في جعل أوقاتنا وأموالنا ومحبتنا خاضعة للقواعد الحسابية ، بالنسبة إلى تلك المحبة التي لا يمكن قياسها وتلك العطية التي لا يمكن تقديرها أو التعبير عنها . العشور للمسيح ! آه ، يا لها من قيمة تافهة بل يا له من تعويض مهين لذاك الذي قدم ذلك الثمن الغالي ! إن المسيح من فوق صليب جلجثة يطلب منا تقديسا بلا تحفظ ، فكل ما نملك وكل ما نحن عليه ينبغي تكريسه لله . AA 160.1

أما يعقوب فإنه بإيمان ثابت جديد بمواعيد الله ، وهو واثق من حضور ملائكة السماء وحراستهم له تقدم في سيره إلى ( أرض بني المشرق ) (تكوين 29 : 1) ولكن كم كان الفرق عظيما بين وصوله هو إلى هناك ووصول رسول إبراهيم إلى نفس المدينة قبل ذلك بنحو مئة سنة ! إن ذلك العبد أتى إلى هناك على رأس حاشية من الأتباع راكبين الإبل ، وكانت معه هدايا من فضة وذهب ، أما هذا الابن فكان مسافرا وحيدا ، ومتعبا من السير على قدميه ، ولم يكن يملك شيئا غير عصاه . جلس يعقوب عند البئر كما فعل عبد إبراهيم ، وفي هذا المكان التقى يعقوب راحيل ابنة لابان الصغرى ، وكان يعقوب الآن هو الذي قدم خدمة ، إذ رفع الحجر عن البئر وسقى القطعان ، وإذ عرّفهم بقرابته لهم رحبوا به في بيت لابان ، ومع أنه أتى وليست بيده هدية ولا بائنة ، ولا تسير في ركابه حاشية ، فإن الأسابيع القليلة التي قضاها بينهم كشفت لهم عن مدى اجتهاده ومهارته ، فألحوا عليه في البقاء معهم ، واتفقوا معه على أن يخدم لابان سبع سنين على أن يزوج براحيل . AA 160.2

في العصور القديمة كان العرف يقضى بأن العريس ، قبل المصادقة على الارتباط بالزواج ، يدفع لوالد العروس مبلغا من المال أو ما يعادله من الأملاك الأخرى بقدر ما تسمح به ظروفه . وكان هذا يعتبر صيانة للعلائق الزوجية . وكان الآباء يظنون أنه لا يمكنهم أن يستأمنوا على سلامة بناتهم رجالا لا يمكنهم أن يعيلوا أسرة . فإذا لم يكن عندهم من حسن التدبير والنشاط ما يؤهلهم لإدارة عمل وامتلاك مواشٍ وأملاك ، كان يخشى من أن يجعل ذلك حياتهم بلا قيمة تذكر ، ولكنهم كانوا يعملون تدبيرا آخر لاختبار الذين لا يملكون ما يقدمونه مهرا لزوجة ، فكان يسمح لهم بأن يشتغلوا في خدمة الأب الذي أحبوا ابنته ، وكانت المدة تقرر على قدر قيمة المهر المطلوب ، فمتى كان طالب الزواج أمينا في خدمته ، وبرهن في أشياء أخرى على أنه مستحق ، كانت الابنة تعطى له زوجة ، وعادة كان المهر الذي يأخذه الأب يعطى لابنته عند زواجها ، ومع ذلك ففيما يختص براحيل وليئة احتفظ لابان ، مدفوعا بروح الأنانية ، بالمهر الذي كان ينبغي أن يعطيه لهما ، وقد أشارتا إلى ذلك حين قالتا قبيل الرحيل عن تلك البلاد : ( باعنا وقد أكل أيضا ثمننا ) (تكوين 31 : 15) . AA 160.3

كانت لتلك العادة القديمة ، مع أنه قد أسيء استعمالها أحيانا كما فعل لابان ، نتائج طيبة ، فحين كان يطلب من طالب الزواج أن يقدم بعض الخدمات حتى يكون له الحق في الزواج بعروسه لم يكن الزواج يتم بعجلة ، وتكون هناك فرصة لاختبار عمق عواطفه ومقدرته على إعالة أسرة . وفي أيامنا هذه تنجم شرور كثيرة نتيجة لمخالفة هذه المادة . في غالب الأحيان لا تكون لدى الشباب أو الشابة فرصة للتعرف بعادات وطباع أحدهما الآخر قبل الزواج ، وبالنسبة إلى حياتهما اليومية يكونان بالفعل غريبين حين تتحد مصالحهما معا عند الزواج ، فيجد الكثيرون ، بعد فوات الفرصة ، أنهم غير متوافقين الواحد مع الآخر ، وتكون نتائج ذلك الزواج تعاسة متصلة مدى الحياة ، وفي غالب الأحيان تقاسي الزوجة والأولاد من كسل الزوج والأب وتراخيه وعجزه وعدم مقدرته وعاداته الفاسدة ، ولكن لو اختبرت أخلاق طالب الزواج قبل زواجه تبعا لعادة الأقدمين لوفر ذلك على الناس قدرا كبيرا من ألوان التعاسة والشقاء . AA 161.1

إن سبع سنين من الخدمة الأمينة أعطت ليعقوب الحق في الزواج براحيل ، وتلك السنوات التي خدم فيها ( كانت في عينيه كأيّامٍ قليلةٍ بسبب محبّته لها ) (تكوين 29 : 20) إلا أن لابان الرجل الأناني الطماع ، إذ أراد أن يستبقي في خدمته يعقوب ، ذلك المعين النافع ، عمد إلى خداع مرير في إبدال راحيل بليئة . ولأن ليئة نفسها كانت من ضمن المتآمرين على خداع يعقوب أصبح هو عاجزا عن أن يحبها . أما لابان فقد قابل سخطه وتوبيخه إياه بأن قدم له راحيل ثانية في مقابل خدمته له سبع سنين أخرى . ولكن الأب رفض أن تطلق ليئة ، لأن ذلك يجلب العار على العائلة . وهكذا صار يعقوب في مأزق مؤلم حرج ، وأخيرا عزم على استبقاء ليئة والزواج براحيل ، ولكن حبه لراحيل كان هو الأعظم طوال حياته . على أن إيثاره إياها أشعل نار الحسد والغيرة ، فتمررت حياته بسبب التنافس الذي أثارته الزوجتان الأختان . AA 161.2

بقي يعقوب في خدمة لابان في ما بين النهرين عشرين سنة ، في خدمة ذلك الرجل الذي كان يستخف بروابط القرابة ، وكان منصبا على إحراز كل المنافع لنفسه واستغلال تلك القرابة لفائدته الخاصة ، فلقد طلب من يعقوب أن يقوم بخدمته أربع عشرة سنة في مقابل ابنتيه ، وفي المدة الباقية غيّر لابان أجرة يعقوب عشر مرات ، ومع ذلك فقد ظل يعقوب مجدّا وأمينا في خدمته ، فكلامه الذي وجهه إلى خاله في لقائهما الأخير يصف ، بكل جلاء ، كيف كان يعقوب يسهر بلا كلال على مصالح سيده المغتصب . قال : ( الآن عشرين سنة أنا معك . نعاجك وعنازك لم تسقط ، وكباش غنمك لم آكل . فريسة لم أحضر إليك . أنا كنت أخسرها . من يدي كنت تطلبها . مسروقة النّهار أو مسروقة اللّيل . كنت في النّهار يأكلني الحرّ وفي اللّيل الجليد ، وطار نومي من عينيّ ) (تكوين 31 : 38 — 40) . AA 162.1

كان لزاما على الراعي أن يحرس قطعانه نهارا وليلا ، إذ كانت في خطر من اللصوص وكذلك من الوحوش التي كانت كثيرة وجريئة ، وكثيرا ما كانت تفترس الأغنام التي يهمل أصحابها حراستها . وفي أمر العناية بقطعان لابان الكثيرة كان ليعقوب معاونون كثيرون ، ولكنه هو نفسه كان مسؤولا عنها شخصيا . وفي بعض أشهر السنة كان مضطرا أن يلازم القطعان بنفسه ليحرسها في فصل الجفاف من الموت عطشا ، وفي الشهور الشديدة البرودة ليقيها من الموت بالصقيع الذي كان يسقط ليلا . كان يعقوب رئيس الرعاة وكان تحت إمرته رعاة مساعدون ، وإذا ضاعت شاة كان رئيس الرعاة يتحمل الخسارة ، وكان يحاسب الخدام المسؤولين الذين أسند إليهم أمر الاهتمام بالقطيع حسابا دقيقا عسيرا ، إذا لم توجد الشاة في حالة حسنة . AA 162.2

كانت حياة الراعي حياة جد وحرص واهتمام ، وقد استخدم كتبة الكتاب المقدس شفقة الراعي على تلك الخلائق في شرح بعض حقائق الإنجيل الثمينة . والمسيح في علاقته لشعبه مشبه بالراعي ، وبعد السقوط رأى غنمه محكوما عليها بالهلاك في شعاب الخطية المظلمة ، فلكي يخلص هذه الخراف الضالة ترك الكرامات والأمجاد في بيت أبيه ، قائلا : ( أطلب الضّالّ ، وأستردّ المطرود ، وأجبر الكسير ، وأعصب الجريح ... فأخلّص غنمي فلا تكون من بعد غنيمة ... ولا يأكلهم وحش الأرض ) (حزقيال 34 : 16، 22 ، 28) إن صوته يسمع وهو يدعوهم إلى الحظيرة قائلا لهم : ( مظلّة للفيء نهارا من الحرّ ، ولملجأٍ ولمخبأٍ من السّيل ومن المطر ) (إشعياء 4 : 6) إنه لا يكل من رعايته لقطيعه ، فهو يقوي الضعيف ويخفف آلام المتألم . وبذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها . إن خرافه تحبه ، ( أمّا الغريب فلا تتبعه بل تهرب منه ، لأنّها لا تعرف صوت الغرباء ) (يوحنا 10 : 5 ، 11 — 14) . AA 162.3

يقول المسيح : ( الرّاعي الصّالح يبذل نفسه عن الخراف . وأمّا الّذي هو أجير ، وليس راعيا ، الّذي ليست الخراف له ، فيرى الذّئب مقبلا ويترك الخراف ويهرب ، فيخطف الذّئب الخراف ويبدّدها . والأجير يهرب لأنّه أجير ، ولا يبالي بالخراف . أمّا أنا فإنّي الرّاعي الصّالح ، وأعرف خاصّتي وخاصّتي تعرفني ) . AA 163.1

والمسيح ، رئيس الرعاة ، عهد إلى خدامه الذين هم الرعاة الصغار أمر رعاية القطيع ، وهو يأمرهم بالاهتمام بخرافه كما اهتم هو بها ، وبأن يحسوا بالمسؤولية المقدسة نحو تلك العهدة التي ائتمنهم عليها ، وقد أصدر إليهم أمره المهيب أن يكونوا أمناء ، وأن يرعوا قطيعه ويقودوا الضعيف وينعشوا الخائر ويحرسوهم ويدرأوا عنهم شر الذئاب المفترسة . AA 163.2

لقد وضع المسيح حياته ليخلص خرافه ، وهو يوجه أنظار الرعاة إلى هذه المحبة التي أظهرت هكذا كمثال لهم : ( أمّا الّذي هو أجير ، وليس راعيا ، الّذي ليست الخراف له ) فهو لا يهتم بالقطيع اهتماما حقيقيا ، ولكن اهتمامه منصرف إلى الربح ، فهو يهتم بنفسه فقط ، يفكر في منفعته الشخصية بدل الاهتمام والتفكير في الأمانة التي بين يديه ، وفي وقت التهلكة أو الخطر يهرب تاركا القطيع . AA 163.3

إن بطرس الرسول يوصي الرعاة شركاءه قائلا : ( ارعوا رعيّة الله الّتي بينكم نظّارا ، لا عن اضطرارٍ بل بالاختيار ، ولا لربحٍ قبيحٍ بل بنشاطٍ ، ولا كمن يسود على الأنصبة ، بل صائرين أمثلة للرّعيّة ) (1 بطرس 5 : 2 ، 3) وبولس الرسول يقول : ( احترزوا اذا لأنفسكم ولجميع الرّعيّة الّتي أقامكم الرّوح القدس فيها أساقفة ، لترعوا كنيسة الله الّتي اقتناها بدمه . لأنّي أعلم هذا : أنّه بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرّعيّة ) (أعمال 20 : 28 ، 29) . AA 163.4

والذين يعتبرون أمر الرعاية والأحمال التي هي من نصيب الراعي الأمين على أنها عمل غير مقبول يقول لهم الرسول موبخا : ( لا عن اضطرارٍ بل بالاختيار ، ولا لربحٍ قبيحٍ بل بنشاطٍ ) إن كل العبيد غير الأمناء كهؤلاء سيعفيهم الراعي الأعظم من خدمته بكل سرور . لقد اقتنى المسيح الكنيسة بدمه ، وعلى كل راع أن يدرك أن الرعية التي يرعاها قد قدمت عنها ذبيحة عظيمة ، وعليه أن يعتبر أن كل واحد من رعيته لا يمكن تقديره بثمن ، وعليه ألا يكل في بذل أقصى جهوده لحفظ الرعية كلها في حالة صحية زاهرة . إن الخادم الممتلئ بروح المسيح لا بد من أن يقتفي آثاره في إنكاره لذاته ، ويدأب في عمله فيما يؤول إلى خير العهدة التي بين يديه ، وسينجح القطيع تحت رعايته . AA 164.1

ولا بد من أن يدعى الجميع ليعطوا حسابا دقيقا عن خدمتهم ، ولا بد من أن يسأل السيد كل راع هذا السؤال : ( أين القطيع الّذي أعطي لك ، غنم مجدك ؟ ) (إرميا 13 : 20) فمن وجد أمينا سينال أجرا عظيما . يقول الرسول . ( ومتى ظهر رئيس الرّعاة تنالون إكليل المجد الّذي لا يبلى ) (1 بطرس 5 : 4) . AA 164.2

بعد أن تعب يعقوب من خدمة لابان فكر في العودة إلى كنعان فقال لحميه : ( اصرفني لأذهب إلى مكاني وإلى أرضي . أعطني نسائي وأولادي الّذين خدمتك بهم فأذهب ، لأنّك أنت تعلم خدمتي الّتي خدمتك ) ولكن لابان ألح عليه في البقاء قائلا : ( قد تفاءلت فباركني الله بسببك ) (تكوين 30 : 25 - 27 ، 30 ، 43) لقد رأى أن ثروته قد اتسعت بفضل رعاية صهره واهتمامه . AA 164.3

فقال يعقوب : ( ما كان لك قبلي قليل فقد اتّسع إلى كثيرٍ ) ولكن بمرور الزمن صار لابان يحسد يعقوب الذي أصاب نجاحا أعظم منه ، فصارت مواشيه وقطعانه أكثر مما عند لابان ، والكتاب يقول عنه : ( فاتّسع الرّجل كثيرا جدّا ، وكان له غنم كثير وجوارٍ وعبيد وجمال وحمير ) وقد تشبه أولاد لابان بأبيهم فحسدوا يعقوب الذي وصل إلى سمعه خبر كلامهم الخبيث إذ قالوا : ( أخذ يعقوب كلّ ما كان لأبينا ، وممّا لأبينا صنع كلّ هذا المجد . ونظر يعقوب وجه لابان وإذا هو ليس معه كأمس وأوّل من أمس ) (أنظر تكوين 31) . AA 164.4

لقد كان يعقوب يرغب في الرحيل عن قريبه الماكر هذا منذ وقت طويل لولا خوفه من ملاقاة عيسو ، والآن هو يحس أن الخطر سيأتيه من ناحية أولاد لابان الذين إذ كانوا ينظرون إلى ثروته على أنها ملك لهم فربما فكروا في اغتصابها منه ، كان في ارتباك وكرب عظيمين ولم يكن يعلم إلى أين يتجه ، ولكنه إذ ذكر وعد الله الرحيم الذي قدمه له الرب في بيت إيل وضع قضيته أمام الرب وطلب منه الإرشاد ، ففي حلم في الليل أجيبت صلاته ، إذ قال له الرب : ( ارجع إلى أرض آبائك وإلى عشيرتك ، فأكون معك ) . AA 165.1

وقد واتته الفرصة للرحيل في غياب لابان ، فجمع القطعان والمواشي بسرعة ، وساروا بها إلى أرض كنعان ، فسار يعقوب ومعه زوجاته وأولاده وعبيده وعبروا نهر الفرات وأسرعوا في سيرهم نحو جلعاد على حدود كنعان . وبعد ثلاثة أيام علم لابان بهروبهم ، فأسرع ليلحق بهم ، فأدركهم في اليوم السابع بعد رحيلهم . كان في أشد حالات الغضب ، وقد عزم على إرغامهم على العودة ، ولم يكن يشك في قدرته على ذلك ، لأن رجاله كانوا أقوى بكثير من يعقوب وجماعته ، فكان أولئك الهاربون في خطر عظيم . AA 165.2

أما عدم تنفيذه غرضه العدائي فذلك لأن الله نفسه تدخل في إنقاذ عبده يعقوب وحمايته ، قال لابان : ( في قدرة يدي أن أصنع بكم شرّا ، ولكن إله أبيكم كلّمني البارحة قائلا : احترز من أن تكلّم يعقوب بخيرٍ أو شرّ ) ومعنى ذلك أنه لن يرغمهم على العودة معه ، ولن يلح عليهم في ذلك بالتملق أو الإغراء . AA 165.3

إن لابان كان قد احتفظ لنفسه بمهر ابنتيه ، وكان دائما يعامل يعقوب بكل دهاء وفظاظة ، أما الآن فهو يعمد إلى الرياء الذي تميز به ، فوبخ يعقوب لأنه هرب خفية ، الأمر الذي لم يترك له فرصة لأن يولم لهم وليمة الوداع أو حتى ليودع ابنتيه وأولادهما . AA 165.4

وكان يعقوب مريحا في جوابه له إذ بسط له سياسته التي تجلت فيها الأنانية والطمع ، فاستشهد به ليعترف بأمانة صهره واستقامته فقال : ( لولا أنّ إله أبي إله إبراهيم وهيبة إسحاق كان معي ، لكنت الآن قد صرفتني فارغا . مشقّتي وتعب يديّ قد نظر الله ، فوبّخك البارحة ) . AA 165.5

ولم يستطع لابان أن ينكر تلك الحقائق التي كشفت ، وها هو الآن يقترح أن يعقد مع يعقوب معاهدة سلام ، فقبل يعقوب الاقتراح ، وأقاموا رجمة حجارة علامة لذلك العهد ، وقد دعا لابان اسم ذلك العمود ( المصفاة ) أي ( برج الرقابة ) قائلا : ( ليراقب الرب بيني وبينك حينما نتوارى بعضنا عن بعضٍ ) . AA 165.6

( وقال لابان ليعقوب : ”هوذا هذه الرّجمة ، وهوذا العمود الّذي وضعت بيني وبينك . شاهدة هذه الرّجمة وشاهد العمود أنّي لا أتجاوز هذه الرّجمة إليك ، وأنّك لا تتجاوز هذه الرّجمة وهذا العمود إليّ للشّرّ . إله إبراهيم وآلهة ناحور ، آلهة أبيهما ، يقضون بيننا ) . وحلف يعقوب بهيبة أبيه إسحاق “. ولتثبيت العهد أولموا وليمة ، وقد قضوا الليلة في أحاديث حبية ومسامرات ودية ، وفي فجر اليوم التالي رحل لابان وجماعته ، وبهذا الانفصال انتهى كل أثر للعلاقة بين أولاد إبراهيم والساكنين في عبر النهر . AA 166.1

* * * * *