الاباء والانبياء
الفصل الخامس عشر—زواج إسحاق
------------------------
كان إبراهيم قد بلغ دور الشيخوخة ، وكان ينتظر الموت ، ومع ذلك بقي عليه عمل واحد يعمله لأجل ضمان إتمام الوعد لنسله من بعده . كان إسحاق هو الشخص المعين من الله ليأخذ مكان أبيه ، ويكون حفيظا على شريعة الله ، وأبا للشعب المختار . ولكنه لم يكن قد تزوج بعد ، وكان سكان كنعان يتعبدون للأصنام ، وقد حرم الله على شعبه التزاوج معهم ، إذ كان يعلم أن مثل ذلك الزواج سيقود شعبه إلى الارتداد . وكان ذلك الشيخ يخشى أن تؤثر في ابنه المؤثرات المفسدة التي تكتنفه من كل صوب ، وأن إيمان إبراهيم بالله الذي كان متأصلا فيه ، وخضوعه لمشيئته انطبعا على أخلاق إسحاق ، ولكن عواطف ذلك الشاب كانت قوية ، وكان رقيق الطبع مسالما ، فلو أنه تزوج بامرأة لا تخاف الله فقد يخشى عليه مع أنه قد يضحي بمبادئه ليضمن السلام والوفاق في بيته . وكان إبراهيم يعتقد أن اختيار زوجة لابنه أمر في غاية الأهمية ، وكان يتوق إلى تزويجه بفتاة لا تبعده عن الله . AA 145.1
في العصور القديمة كان الآباء عادة هم الذين يقومون بعقد الخطوبة ، وكانت هذه هي العادة المتبعة عند من كانوا يعبدون الله ، ولم يكن يطلب من أي شاب أن يتزوج فتاة لم يمكنه أن يحبها ، ولكن قبلما يمنح الشاب محبته لفتاة كان يسترشد مشورة أبويه المختبرين الذين يخافان الله . فلو أن شابا خالف هذا النظام لاعتبر ذلك إهانة في حق أبويه ، بل وحسب جريمة . AA 145.2
وإذ كان إسحاق واثقا بحكمة أبيه ومحبته ارتضى أن يسلم الأمر إليه ، وكان مؤمنا بأن الله نفسه سيكون هو المرشد في اختيار الزوجة المطلوبة ، واتجهت أفكار أبيه إلى عشيرته في ما بين النهرين ، فمع أنهم لم يكونوا متحررين من عبادة الأوثان ، إلا أنهم كانوا محتفظين بمعرفة الإله الحقيقي وعبادته ، وكان يجب ألا يبرح إسحاق كنعان ليذهب إليهم ، ولكن ربما وجدت في تلك العائلة فتاة ترضى بترك بيتها لتتحد معه في حفظ العبادة النقية للإله الحي ، فكلف إبراهيم ( عبده كبير بيته ) بالقيام بهذه المأمورية الهامة ، وكان ذلك العبد رجلا تقيا مختبرا سديد الرأي ، وكان قد أمضى سنين طويلة في خدمة مولاه بكل أمانة . طلب إبراهيم من ذلك العبد أن يحلف أمام الله ألا يأخذ لابنه إسحاق زوجة من بنات الكنعانيين ، بل أن يختار له زوجة من بنات ناحور في ما بين النهرين ، وأوصاه ألا يأخذ إسحاق معه ، فإذا لم تشأ أية فتاة أن تترك عائلتها فذلك الرسول يكون بريئا من حلفه . وشجعه سيده على القيام بتلك المأمورية الصعبة الدقيقة بتأكيده له أن الله سيكلل مساعيه بالنجاح قائلا : ( الرب إله السّماء الّذي أخذني من بيت أبي ومن أرض ميلادي ، والّذي كلّمني والّذي أقسم لي قائلا : لنسلك أعطي هذه الأرض ، هو يرسل ملاكه أمامك ) (انظر تكوين 24) . AA 145.3
بدأ الرسول رحلته بدون إمهال ، آخذا معه عشرة جمال ليستخدمها لجماعته ولصديقات العروس اللواتي قد يجئن معها ، كما أخذ معه هدايا للزوجة العتيدة وصديقاتها ، فسار في تلك السفرة الطويلة حتى تجاوز دمشق ، إلى أن وصل إلى السهول الخصبة الواقعة على حدود النهر العظيم في الشرق ، فإذ وصل إلى حاران ( مدينة ناحور ) ترجّل خارج أسوارها بقرب البئر التي كانت نساء المدينة يستقين منها في وقت المساء ، كان ذلك العبد يفكر تفكيرا عميقا وهو شغوف ، إن الفتاة التي سيختارها عروسا لابن سيده ستتوقف عليها نتائج هامة ، ليس فقط بالنسبة لعائلة مولاه بل للأجيال القادمة ، وكيف له أن يختار اختيارا حكيما في وسط قوم لم يكن يعرفهم ؟ و إذ ذكر كلام سيده من أن الله سيرسل ملاكه معه جعل يصلي بحرارة في طلب إرشاد إيجابي ، لقد كان معتادا في بيت سيده أعمال الشفقة والكرم ، وهو الآن يسأل أن عملا من أعمال الرقة واللطف يريه الفتاة التي اختارها الله . AA 146.1
لم يكد ينطق بصلاته حتى جاءته الإجابة ، فمن بين النساء اللواتي اجتمعن عند البئر اجتذب نظره واهتمامه لطف إحداهن وأدبها ، فبعدما استقت الماء تقدم ذلك الغريب للقائها طالبا منها أن تسقيه ماء من الجرة التي على كتفها ، فأجابته إلى طلبه بكل لطف ، كما تطوّعت بأن تستقي لجماله أيضا ، وهي خدمة اعتادت الفتيات ، حتى بنات الأمراء والملوك منهن ، أن يقمن بها لقطعان آبائهن ومواشيهم ، وهكذا تمت العلامة التي طلبها ، ( وكانت الفتاة حسنة المنظر جدّا ) ودل لطفها وبشاشتها على رقة قلبها ونشاطها وطيب عنصرها . إلى هنا كانت يد الرب تعمل مع ذلك العبد . وبعدما اعترف لها باللطف والرقة بتقديم عطايا ثمينة لها سألها عن أبيها وعائلتها ، وإذ علم أنها بنت بتوئيل ابن أخي إبراهيم ”خرّ الرّجل وسجد للرب ) . AA 146.2
كان الرجل قد طلب منها أن تضيفه في بيت أبيها ، وفي تعبيره عن شكره كشف عن حقيقة صلته بإبراهيم ، فإذ عادت الفتاة إلى البيت أخبرت أهلها بما حدث عند البئر ، فركض لابان أخوها مسرعا ليأتي بذلك الغريب ورجاله ليضيفهم . AA 147.1
لم يرد أليعازر أن يتناول شيئا من الطعام الذي قدموه له حتى أخبرهم عن قصده من مجيئه ، وصلاته عند البئر ، وكل ما حصل ، والظروف المتصلة به ، ثم ختم كلامه بقوله : ( والآن إن كنتم تصنعون معروفا وأمانة إلى سيّدي فأخبروني ، وإلاّ فأخبروني لأنصرف يمينا أو شمالا ) فكان جوابهم : ( من عند الرب خرج الأمر . لا نقدر أن نكلّمك بشرّ أو خيرٍ . هوذا رفقة قدّامك . خذها واذهب . فلتكن زوجة لابن سيّدك ، كما تكلّم الرب ) . AA 147.2
بعدما ظفر العبد برضى العائلة سألوا رفقة هل ترضى بالقيام بتلك السفرة الطويلة وتترك بيت أبيها لتقترن بابن إبراهيم ، وكانت رفقة تعتقد لدى تأملها في ما قد حدث أن الله قد اختارها زوجة لإسحاق ، فقالت : ( أذهبُ ) . AA 147.3
وإذ كان العبد يتوقع أن سيده سيفرح بنجاحه في مهمته كان يتوق إلى السفر ، ففي الصباح شرعوا في السفر إلى وطنهم ، وكان إبراهيم ساكنا في بئر سبع ، أما إسحاق الذي كان يرعى شؤون قطعانه في البلاد المجاورة فكان قد عاد إلى خيمة أبيه لينتظر عودة الرسول من حاران ( وخرج إسحاق ليتأمّل في الحقل عند إقبال المساء ، فرفع عينيه ونظر وإذا جمال مقبلة . ورفعت رفقة عينيها فرأت إسحاق فنزلت عن الجمل . وقالت للعبد : «من هذا الرّجل الماشي في الحقل للقائنا ؟» فقال العبد : «هو سيّدي » . فأخذت البرقع وتغطّت . ثمّ حدّث العبد إسحاق بكلّ الأمور الّتي صنع ، فأدخلها إسحاق إلى خباء سارة أمّه ، وأخذ رفقة فصارت له زوجة وأحبّها . فتعزّى إسحاق بعد موت أمّه ) . AA 147.4
كان إبراهيم قد لاحظ نتيجة تزاوج من يخافون الله مع من لا يخافونه منذ أيام قايين إلى يومه ، إن نتائج زواجه من هاجر ، والعلائق الزوجية في حياة اسماعيل ولوط كانت ماثلة أمامه . إن عدم إيمان إبراهيم وسارة نتجت عنه ولادة اسماعيل واختلاط نسل الأبرار بالأشرار ، وإن تأثير الأب في ابنه أضعفته وأبطلته وثنية أقارب الأم ، وزواج اسماعيل بزوجات وثنيات ، وإن حسد هاجر وحسد زوجات إسماعيل اللواتي اختارتهن له لمما أحاط العائلة بسياج عجز إبراهيم عن تخطيه والتغلب عليه . AA 147.5
لم تكن التعاليم التي تلقاها إسماعيل من أبيه إبراهيم في صباه عديمة الأثر ، إلا أن تأثير زوجاته نتج عنه إدخال الوثنية إلى عائلته ، فإذ انفصل عن أبيه وأحس بمرارة الصراع والارتباط ببيت خال من محبة الله ومخافته صار مرغما على أن يختار الحياة الوحشية ، حياة قطاع الطرق التي زاولها كرئيس في البادية ( يده على كلّ واحدٍ ، ويد كلّ واحدٍ عليه ) (تكوين 16 : 12) وقد تاب في أخريات حياته عن طرقه الشريرة ورجع إلى إله أبيه ، ولكن الطابع الأخلاقي الذي تميز به نسله ظل كما كان ، فالأمة القوية التي تناسلت منه كانت أمة وثنية مشاغبة وقد عملت دوما على مضايقة وإذلال نسل إسحاق . AA 148.1
كانت امرأة لوط امرأة محبة لنفسها وغير متدينة ، استخدمت تأثيرها في انفصال زوجها عن إبراهيم ، ولولاها لما ظل لوط في سدوم ، ولما حرم من المشورة الحكيمة ، مشورة ذلك الشيخ الذي كان يخاف الله . إن تأثير امرأته ومعاشراته للناس في تلك المدينة الشريرة كان يمكن أن تسوقه إلى الارتداد عن الله لولا التعاليم التي كان قد تلقاها من إبراهيم في شبابه . إن زواج لوط واختياره لسدوم وطنا له كانا من الحلقات الأولى في سلسلة حوادث مشحونة بالشر للعالم مدى أجيال طويلة . AA 148.2
ليس إنسان يخاف الله ويلتصق بآخر لا يخافه دون أن يعرض نفسه للخطر ، ( هل يسير اثنان معا إن لم يتواعدا ؟ ) (عاموس 3 : 3) . إن سعادة العلاقة الزوجية ونجاحها يتوقفان على وحدة الفريقين ، ولكن بين المؤمن وغير المؤمن فرقا جوهريا في الأمزجة والأميال والأغراض ، إنهما يخدمان سيدين لا يمكن أن يكون بينهما وفاق ، ومهما تكن مبادئ أحدهما طاهرة ومستقيمة فإن تأثير الشريك الآخر غير المؤمن لا بد من أن يميل بالمؤمن للابتعاد عن الله . AA 148.3
إن من قد تزوج قبل تجديده يصير بعد تجديده تحت التزام أقوى لأن يكون أمينا لشريكه في الحياة مهما كان مبلغ اختلافهما في العقائد الدينية ، غير أن مطاليب الله ينبغي أن تسمو فوق كل علاقة أرضية ، حتى ولو نتج عن ذلك اضطهادات وتجارب ، فبروح المحبة والوداعة يمكن أن يكون لهذا الولاء أثره في ربح الزوج غير المؤمن ، ولكن زواج المسيحيين بالأشرار منهي عنه في الكتاب ، فالرب يأمرنا قائلا : ( لا تكونوا تحت نيرٍ مع غير المؤمنين ) (2كورنثوس 6 : 14 ، 17 ، 18) . AA 148.4
لقد أكرم الله إسحاق إكراما عظيما ، إذ جعله وارثا للمواعيد التي عن طريقها سيتبارك العالم ، ومع ذلك فعندما بلغ الأربعين من العمر خضع لحكم أبيه في تعيين عبده المختبر الذي كان يخاف الله لاختيار زوجة له ، وكانت نتيجة ذلك الزواج ، كما هو مبين في الكتاب ، صورة نضرة جميلة للسعادة البيتية ،( فأدخلها إسحاق إلى خباء سارة أمّه ، وأخذ رفقة فصارت له زوجة وأحبّها . فتعزّى إسحاق بعد موت أمّه ) . AA 149.1
ما أعظم الفارق بين الطريق الذي سار فيه إسحاق وذاك الذي يسير فيه شبابنا في هذه الأيام حتى بين المدعوين مسيحيين ، فالشباب في غالب الأحيان يحسون أن حبهم لشخص من الجنس الآخر هو أمر شخصي لا يستشار فيه سواهم ، ومسألة يجب ألا يتحكم فيها الله أو الوالدون . وقبل وصولهم إلى دور الرجولة أو اكتمال الأنوثة بوقت طويل يظنون أنفسهم أكفاء لأن يختاروا لأنفسهم بدون مساعدة والديهم ، ولكن سنوات قليلة من سني الزواج هي في العادة كافية لإقناعهم بخطئهم ، وغالبا ما يكون ذلك بعد فوات الفرصة ، إذ لا يستطيعون تلافي النتائج المحزنة والمهلكة ، لأن نفس الافتقار إلى الحكمة وضبط النفس اللذين أمليا الاختيار المتسرع يسمح بهما ليزيدا الشر استفحالا ، حتى تصير العلاقة الزوجية نيرا ثقيلا ونبع مرارة ، وهكذا تتحطم سعادة الكثيرين في هذه الحياة ، ويتحطم أيضا رجاؤهم للعالم الآتي . AA 149.2
إذا كان من موضوع يستوجب التأمل والاهتمام ، وينبغي أن يستشار فيه الناس المختبرون والمتقدمون في العمر فهو موضوع الزواج . وإذا كان من حاجة إلى استقاء المشورة من كتاب الله ، وإلى طلب إرشاد الرب بالصلاة فذلك يكون قبل اتخاذ الخطوة التي تربط بين شخصين مدى الحياة . AA 149.3
على الوالدين ألا يغفلوا مسئوليتهم في ضمان سعادة أولادهم مستقبلا ، لقد كان احترام إسحاق لمشورة أبيه نتيجة للتربية التي بها تعلم أن يحب حياة الطاعة ، فحين طلب إبراهيم من أولاده أن يحترموا سلطة الأبوين كانت حياته شهادة على أن تلك السلطة لم تكن أنانية ولا تعسفية ، بل كانت مبنية على المحبة ، وكان هدفها خيرهم وسعادتهم . AA 149.4
وعلى الآباء والأمهات واجب توجيه عواطف الجنسين حتى تتركز في الذين يكونون أزواجا وزوجات صالحين . عليهم أن يشعروا أنه يجب عليهم ، بتعليمهم ومثالهم وبمعونة نعمة الله ، أن يصوغوا أخلاق أولادهم منذ سنيهم الباكرة ، ليكونوا أنقياء ونبلاء ، وليحبوا كل ما هو صالح وحق . وشبيه الشيء منجذب إليه . والشبيه يقدّر من يشاكله . لتغرس في النفس محبة الحق والطهارة والصلاح في بكور الحياة وحينئذ سيبحث الشبيبة عن الوسط الذي يجدون فيه من هم على شاكلتهم في الأخلاق. AA 150.1
ليهتم الآباء ، في أخلاقهم وفي حياتهم البيتية ، أن يمثلوا محبة الآب السماوي وشفقته ، ليمتلئ البيت بنور شمس البر ، هذا سيكون أثمن جدا لدى أولادكم من الأملاك والأموال ، اجعلوا محبتهم للبيت حية في قلوبهم حتى عندما يعودون بالذكرى إلى البيت الذي قضوا فيه أيام طفولتهم يعتبرونه موطن السلام والسعادة بعد السماء ، إن أفراد العائلة لا تنطبع على قلوبهم نفس الصفات ، وستكون لديهم فرص كثيرة لإظهار صبرهم واحتمالهم ، ولكن بالمحبة وترويض النفس يمكن أن يرتبط الجميع بأوثق ربط الاتحاد . AA 150.2
المحبة الصادقة مبدأ سام ومقدس ، وتختلف اختلافا بينا عن تلك المحبة التي يوقظها الدافع والتي تموت فجأة عندما تجوز في اختبار صارم . إن الشباب ، بأمانتهم لواجبهم في بيوت آبائهم ، يعدّون أنفسهم لبيوتهم الخاصة ، فليتدربوا في بيوت آبائهم على إنكار الذات ، وليظهروا الشفقة واللطف والعطف المسيحي ، وهكذا يظل القلب عامرا بالمحبة . وإن الذي يخرج من مثل هذا البيت ليصير رب عائلة سيعرف كيف يرفع من شأن سعادة تلك التي اختارها لتكون شريكته مدى الحياة ، وإذ ذاك فإن الزواج بدلا من أن يكون نهاية الحب سيكون بدايته . AA 150.3
* * * * *