الاباء والانبياء
الفصل العاشر—برج بابل
---------------------------
إن الله لكي يعمر الأرض الخربة التي كان الطوفان قد اكتسح فسادها الأدبي منذ عهد قريب ، أبقى عائلة واحدة هي عائلة نوح الذي قال له الله : « إياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل » (تكوين 7 : 1) مع ذلك فسرعان ما ظهر الفرق العظيم بين أبناء نوح الثلاثة ، كالفرق العظيم الذي ظهر في العالم قبل الطوفان ، ففي سام وحام ويافث الذين كانوا سيصبحون نواة الجنس البشر ظهرت صفات نسلهم اللاحق . AA 96.1
وإذ كان نوح يتكلم بوحي إلهي سبق فأنبأ بتاريخ الأجناس الثلاثة العظيمة التي ستخرج من صلب آباء الجنس البشري أولئك ، فإذ تتبع نسل حام عن طريق الابن لا عن طريق الأب أعلن قائلا : « ملعون كنعان ! عبد العبيد يكون لإخوته » (انظر تكوين 9 : 25 ، 27 ) إن جريمة حام غير الطبيعية أعلنت أن إكرامه لأبيه كابن كان قد انتزع من قلبه منذ عهد طويل ، كما أعلنت شره وسفالة أخلاقه ، فتلك الصفات الشريرة ظلت متفشية في حياة كنعان ونسله الذين إذا ظلوا متعلقين بجرائمهم أوقعوا على أنفسهم دينونة الله . AA 96.2
ومن الناحية الأخرى فإن الاحترام أو التوقير الذي أظهره سام ويافث لأبيهما وبالتالي للشرائع الإلهية أعطاهما وعدا بمستقبل أفضل لنسلهما . وقد أعلن بخصوص هذين الابنين «مبارك الرب اله سام . وليكن كنعان عبدا لهم . ليفتح ليافث فيسكن في مساكن سام ، وليكن كنعان عبدا لهم»كان نسل سام هو الذي سيكون الشعب المختار ، شعب العهد الإلهي الذي منه سيأتي الفادي الموعود به . لقد كان يهوه هو إله سام ، ومنه يأتي إبراهيم وشعب إسرائيل الذين منهم يأتي المسيح .« طوبى للشعب الذي الرب إلهه» 9 (مزمور 144 : 15) . أما « يافث فيسكن في مساكن سام ». وقد كان نسل يافث سيشترك بكيفية خاصة في بركات الإنجيل . AA 96.3
أما نسل كنعان فقد انحطوا إلى أدنى دركات الوثنية ، ومع أن النبوة بوقوع اللعنة عليهم حكمت بأن يكونوا عبيدا فإن الدينونة لم تحيل عليهم إلا بعد مرور قرون من الزمن . لقد احتمل الله شرهم وفسادهم حتى تعدوا حدود صبر الله ، وحينئذ جردوا من أملاكهم ، وصاروا عبيدا لنسل سام ويافث . AA 97.1
إن نبوة نوح لم تكن إخطارا استبداديا دافعه الغضب أو إعلانا للرضى ، فهي لم تقرر أخلاق أبناء نوح ومصيرهم ، ولكنها فقط أبانت النهاية التي سينتهي إليها الطريق الذي اختاره كل منهم بمفرد ه ، والأخلاق التي نموها . كانت تلك النبوة تعبيرا عن قصد الله لهم ونسلهم بالنظر إلى أخلاقهم وتصرفاتهم . وإنها لقاعدة عامة أن الأبناء لهم أميال والديهم وأمزجتهم ويتبعون مثالهم بحث أن الأبناء يرتكبون نفس خطايا آبائهم جيلا بعد جيل . وهكذا نرى أن سفالة حام ووقاحته ظهرت في نسله فجلبت عليهم اللعنة أجيالا طويلة . ) أما خاطئ واحد فيفسد خيرا جزيلا ( (جامعة 9 : 18) . AA 97.2
ومن الناحية الأخرى كم كانت عظيمة وغنية تلك المكافأة التي نالها سام جزاء احترامه لأبيه ، وما أعظم واأسمى وأمجد قافلة الرجال القديسين الذي جاءوا من نسله ، ) الرب عارف أيام الكملة ,.. ونسله للبركة ( (مزمور 38 : 18 ، 26) ) فاعلم أن الرب إلهك هو الله ، الإله الأمين ، الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل ( (تثنية 7 : 9) . AA 97.3
ظل أبناء نوح ساكنين ، بعض الوقت ، بين الجبال حيث استقر الفلك . فلما تكاثر عددهم ساقهم الارتداد إلى الانقسام ، الذين رغبوا في نسيان خالقهم وطرح نير شريعته عن أعناقهم ، أحسوا بمضايقة مستمرة من تعاليم ومثال عشرائهم الخائفين الله ، وبعد قليل عولوا على الانفصال عنهم ، وتبعا لذلك رحلوا إلى سهول شنعار على شاطئ نهر الفرات إذ اجتذبهم إلى هناك جمال تلك البقعة وخصوبة أراضيها ، فعزموا على السكنى فيها . AA 97.4
هنا قرروا أن يبنوا في ذلك المكان ويبنوا فيها برجا عاليا جدا بحيث يصير أعجوبة الدنيا ، وكان غرضهم من ذلك المشروع أن يحول دون تشتت ذلك الشعب بعيدا في مستعمرات أخرى ، ولكن الله كان قد أمر الناس أن ينتشروا في كل الأرض ويملأوها ويخضعوها ، غير أن بناة بابل هؤلاء عزموا على أن يوحدوا تلك الجماعة ليؤسسوا مملكة تبسط سلطانها على كل الأرض في النهاية ، وبذلك تصير مدينتهم قصبة لإمبراطورية مسكونية ، وتظفر بإعجاب كل العالم وولائه ، ويشتهر مؤسسها . أما البرج الفخم الذي سيرتفع إلى عنان السماء فقد كان القصد منه أن يقف تذكارا لقوة البنائين وحكمتم ، فتدوم شهرتهم إلى نهاية الأجيال . AA 97.5
غير أن أولئك القوم الذين سكنوا في سهل شنعار لم يكونوا يؤمنون بعهد الله بأنه لن يأتي الطوفان على الأرض مرة أخرى ، بل لقد أنكر كثيرون منهم وجود الله ونسبوا كارثة الطوفان إلى تداخل أسباب طبيعية . وكان آخرون غير هؤلاء يؤمنون بوجود كائن سام وبأنه هو الذي أهلك العالم القديم بالطوفان ، لكن قلوبهم تمردت عليه كقايين . ومن بين الأغراض التي وضعوها أمامهم عند بناء البرج كونهم أرادوا أن يستوثقوا من سلامتهم لو جاء الطوفان ثانية ، وكانوا يتخيلون أنهم لو رفعوا البرج إلى علو أعظم مما وصلت إليه مياه الطوفان فسينجون من كل خطر ، ولو استطاعوا الوصول إلى منطقة السحاب فقد كانوا يؤمنون أنهم سيعرفون أسباب حدوث الطوفان . وكان القصد من ذلك المشروع هو تمجيد كبرياء القائمين به ، وتحويل عقول أبناء الأجيال اللاحقة وقلوبهم بعيدا عن الله ، والانحدار بهم إلى عبادة الأوثان . AA 98.1
بعدما كمل جزء من ذلك البرج سكن البناؤون في قسم منه ، أما بعض الحجرات الأخرى التي وضعوا فيها بعض قطع الأثاث الفاخرة وزينوها فقد كرسوها لأوثانهم . فرح أولئك القوم بنجاحهم ، ومجدوا آلهة الفضة والذهب التي صنعوها وجندوا أنفسهم لمقاومة ملك السماء والأرض ، ولكن فجأة توقف ذلك العمل الذي كان يتقدم بنجاح ، فلقد أرسل الله من قبله ملائكة لكي يبطلوا ذلك العمل ، فيفشل البناؤون في تحقيق أغراضهم . كان البرج قد وصل إلى ارتفاع هائل ، فغدا من المستحيل على الفعلة الذين في أعلاه أن يتصلوا مباشرة بالذين في أسفله ، ولذلك أوقف رجال في أماكن مختلفة ليتلقى كل منهم الأوامر في طلب المواد التي يحتاج إليها العمل أو بعض التعليمات الخاصة بالبناء ، وهؤلاء يوصلونها بدورهم لمن هم تحتهم ، فإذ كانت الرسائل تنتقل من فم إلى آخر ارتبكت لغاتهم بحيث طلبوا المواد التي لم يكن العمل يحتاج إليها ، كما أن التعليمات التي أعطيت كانت على عكس تلك التي تلقوها ، وتبع ذلك البلبلة والفزع ، فتوقف العمل كله ، ولم يعد هنالك أي وفاق أو تعاون ، ولم يستطع البناؤون أن يعللوا سوء التفاهم الغريب بينهم . وفي اهتياجهم وفشلهم جعلوا يلومون بعضهم بعضا ، وانتهى تحالفهم إلى المنازاعات وسفك الدماء . وقد هدمت البروق المنقضة عليهم من السماء ، دليلا على سخط الله عليهم ، جزءا من أعلى ذلك البرج ، وألقت به إلى الأرض ، وشعر الناس أخيرا أنه يوجد إله يملك في السماوات . AA 98.2
وإلى ذلك الحين كان الناس يتكلمون لغة واحدة ، أما الآن فالذين كانوا يفهمون نفس اللغة كانوا يجتمعون معا ويكونون جماعة ، فذهب بعضهم في طريق ، وذهب آخرون في طريق آخر ، ) ومن هناك بددهم الرب على وجه الأرض ( (تكوين 11 : 9 ) . وكان هذا التشتيت والتبديد وسيلة تعمير الأرض ، وهكذا تم قصد الله بالوسيلة نفسها التي استخدمها الناس ليحولوا بما دون إتمامه . AA 99.1
ولكن ما كان أعظم خسارة أولئك الذين وقفوا يتحدون الله ! لقد كان قصده تعالى أنه إذ يخرج الناس ليؤسسوا أمما في أنحاء الأرض المختلفة يحتفظون بمعرفة إرادته حتى يشع نور الحق باهرا للأجيال اللاحقة . إن نوحا الكارز الأمين بالبر عاش بعد الطوفان ثلاث مائة وخمسين سنة ، كما عاش سام خمس مائة سنة ، وهكذا كانت لأبنائهم فرصة فيها يعرفون مطاليب الله وتاريخ معاملاته لآبائهم ، ولكنهم لم يكونوا يريدون الإصغاء إلى تلك الحقائق التي لم يستسيغوها ، إذ لم يكونوا يرغبون في إبقاء الله في معرفتهم . وبسبب تبلبل الألسنة حرموا إلى حد ما من التحدث مع الذين كان يمكنهم أن يعطوهم النور . AA 99.2
انغمس بناة برج بابل في روح التذمر على الله ، فبدلا من أن يذكروا بالشكر رحمته التي أجزلها لآدم ، وعهده الكريم الذي قطعه مع نوح جعلوا يشتكون من قسوته في طرد الزوجين الأولين من عدن وإهلاك العالم بالطوفان . ولكن في حين كانوا يتذمرون على الله قائلين إنه مستبد وقاس كانوا في الوقت نفسه يقبلون ، بكل رضى ، ملك أقسى الطغاة . كان الشيطان يحاول تحقير شأن الذبائح الكفارية التي كانت رمزا إلى موت المسيح ، وإذ كانت عقول الناس قد أظملت بسبب عبادتهم للأصنام فقد جعلهم الشيطان يزيفون هذه الذبائح ويقدمون أولادهم ذبائح على مذابح آلهتهم . وعندما ابتعد الناس عن الله أبدلوا الصفات الإلهية كالعدل والطهارة والمحبة بالظلم والقسوة والوحشية . AA 99.3
عقد أهل بابل العزم على إنشاء حكومة مستقلة عن الله ، ومع ذلك فقد وجد بينهم جماعة كانوا يخافون الله ، ولكنهم انخدعوا بادعاءات الأشرار وانجذبوا إلى تدبيراتهم . فلأجل هؤلاء القوم الأمناء أخر الرب وقوع الدينونة ، وأعطى للناس وقتا لإظهار صفاتهم على حقيقتها ، فإذ انكشفت صفاتهم حاول أبناء الله أن يكفّوهم عن إتمام غرضهم ، ولكن أولئك الناس كانوا متحدي الرأي في العمل على محاربة السماء . فلو أنهم ساروا في عملهم دون رادع لأفسدوا أخلاق العالم وهو بعد في طفولته . وقد كونوا اتحادهم في تمرد وعصيان ، فأنشئت مملكة لأجل تعظيم الذات ، وبالطبع لم يكن لله فيها حكم أو كرامة . فلو سمح لهذا التحالف بالبقاء لقامت قوة عظيمة وطردت من الأرض البر والسلام والطمأنينة ، أما وصايا الله التي هي ) مقدّسة وعادلة وصالحة ( ( رومية 7 : 12 ) فقد حاول الناس إبدالها بقوانين توافق قلوبهم القاسية المحبة لذاتها . AA 100.1
أما الذين كانوا يخافون الله فقد صرخوا إليه لكي يتدخل ، ) فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللّذين كان بنو آدم يبنونهما ((تكوين 11 : 5 ) وفي رحمته للعالم عرقل وأبطل غرض بناة البرج وقلب تذكار جرأتهم ، وفي رحمته بلبل كلامهم ، وبذلك أوقف غرضهم وأحبط مقاصد عصيانهم . إن الله يصبر طويلا على فساد الناس معطيا إياهم وقتا كافيا للتوبة ، ولكنه يراقب كل حيلهم التي بها يقاومون سلطان شريعته العادلة المقدسة ، فمن حين إلى آخر تمتد اليد الغير المنظورة الممسكة بقضيب الملك لتوقف الإثم عند حده . وهنالك برهان لا يخطئ على أن خالق الكون غير المحدود في حكمته ومحبته وحقه له السلطان المطلق في السماء وعلى الأرض ، وعلى أنه لا يمكن أن يتحدى أحد بالإثم قدرته . AA 100.2
انتهت مشاريع بناة بابل بالعار والهزيمة ، فتمثال كبريائهم أمسى تمثالا لجهالتهم وحماقتهم ، ومع ذلك فالناس يسيرون في الطريق نفسه على الدوام - طريق الاعتماد على الذات ورفض شريعة الله . إنه المبدأ عينه الذي حاول الشيطان تنفيذه في السماء ، وهو المبدأ عينه الذي سار عليه قايين وهو يقدم قربانه . AA 100.3
هناك بناة أبراج في أيامنا هذه ، فالملحدون يبنون نظرياتهم ويجمعونها من الاستنتاجات العلمية المزعومة ، ويرفضون شريعة الله المعلنة ، ويزمعون أنهم يصدرون حكمهم على سياسة الله الأدبية . إنهم يحتقرون شريعته ، ويتباهون بكفاية العقل البشري ، وحينئذ : )لأنّ القضاء على العمل الرّديء لا يجرى سريعا ، فلذلك قد امتلأ قلب بني البشر فيهم لفعل الشّرّ ( (جامعة 8: 11) . AA 100.4
في العالم المدعو مسيحيا كثيرون يبتعدون عن تعاليم الكتاب الواضحة ، ويتبنون عقيدة من الأفكار والتخيلات البشرية والخرافات المصنّعة ، ويشيرون إلى برجهم على أنه الطريق للوصول إلى السماء . الناس يعجبون بذلاقة اللسان والفصاحة التي يتكلم بها الخطباء الذين يعلّمون أن العاصي لن يموت ، وأن الخلاص يمكن الحصول عليه دون الطاعة لشريعة الله . فلو أن المدعوين مسيحيين يقبلون قانون الله لكان هذا القانون يوحد بينهم ، ولكن لا بد من الخصومات والانقسامات ما ظلوا يعظمون الحكمة البشرية على كلمة الله المقدسة . إن البلبلة الحادثة من العقائد المتضاربة والطوائف المختلفة تمثل تماما بالتعبير ) بابل ( الذي تطبقه النبوة على كنائس الأيام الخيرة المحبة للعالم ، (رؤيا 14 : 8 ، 18 : 2) . AA 101.1
كثيرون يحاولون أن يصنعوا لأنفسهم سماء في هذا العالم بالحصول على الغنى والصولة والنفوذ . ) يتكلّمون بالشّرّ ظلما . من العلاء يتكلّمون ( (مزمور 73 : 8) دائسين حقوق البر ومستخفين بسلطان الله . إن المتكبرين قد يحصلون على نفوذ وقوة إلى حين ، وقد ينجحون في كل ما يشرعون في عمله ، ولكن في النهاية سيكون مصيرهم الفشل والتعاسة . AA 101.2
إن وقت الفحص الذي سيقوم به الله قريب جدا ، فسينزل العلي لينظر ما قد بناه بنو الإنسان ، وستعلن قدرته الإلهية ، ولا بد من أن ينحط ويسقط كل ما عملته الكبرياء البشرية . ) من السّماوات نظر الرب . رأى جميع بني البشر . من مكان سكناه تطلّع إلى جميع سكّان الأرض ( ) الرب أبطل مؤامرة الأمم . لاشى أفكار الشّعوب . أمّا مؤامرة الرب فإلى الأبد تثبت . أفكار قلبه إلى دورٍ فدورٍ ( (مزمور 33 : 13 ، 14 ، 10 ، 11) . AA 101.3
* * * * *