الاباء والانبياء
الفصل السابع والثلاثون —الصخرة المضروبة
عندما ضربت الصخرة فى حوريب جرى منها ، أولا ، الماء الحي الذي أروى إسرائيل وأنعشهم في البرية ، وطوال سني تيهانهم ، وكانوا ، كلما دعت الحاجة ، يزودون بالماء بأعجوبة من أعاجيب رحمته ، ومع ذلك فإن الماء لم يظل جاريا من حورييـب . وأينما احتاجوا إلى الماء في رحلاتهم كان يتدفق من شق الصخرة إلى جوار محلتهم . AA 364.1
إن المسيح هو الذي بقوة كلمته جعل الماء المنعش يجرى لأجل إسرائيل ( لأنهم كـــانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم ، والصخرة كانت المسيح ) (1 كورنثوس 10 : 4) لقد كان هو نبع كل البركات الزمنية والروحية لهم . إن المسيح الصخرة الحقيقية كان معهم فى كل رحلاتهم ، ( ولم يعطشوا فى القفار التي سيرهم فيها . أجرى لهم من الصخر ماء ، وشق الصخر ففاضت المياه ) (إشعياء 48 : 21) ( ... جرت فى اليابسة نهرا ) (مزمور 105 : 41) . AA 364.2
كانت الصخرة المضروبة رمزا إلى المسيح ، ومن هذا الرمز نتعلم حقائق روحية ثمينة ، فكما فاضت المياه من الصخرة المضروبة ، كذلك من المسيح الذي هو ( مجروح لأجل معاصينا ، مسحوق لأجل آثامنا ) (إشعياء 53 : 4 ، 5) يفيض نبع الخلاص لجنسنا الهالك . وكما ضربت الصخرة مره واحدة ، هكذا المسيح أيضا ( قدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين ) (عبرانيين 9 : 28) . وما كان مخلصنا ليقدم ذبيحة مرة ثانية . إنما على أولئك الذين يطلبون بركات نعمته أن يسألوا باسم المسيح ، ساكبين أشواق قلوبهـــم في صلاة تائبة باكية . مثل هذه الصلاة تضع أمام رب الجنود جروح يسوع ، وحينئذ يفيض من جديد الدم المانح الحياة الذي كان يرمز إليه فيضان الماء الحي لإرواء إسرائيل . AA 364.3
كان بنو إسرائيل بعد استقرارهم في كنعان يحتفلون بمظاهرات فرح عظيم بذكرى جريان الماء من الصخرة في البرية ، وفي أيام المسيح صار إحياء تلك الحادثة احتفالا مؤثرا . كان ذلك الاحتفال يقام في أيام عيد المظال حين يكون الشعب من أنحاء البلاد كافة مجتمعين معــا فى أورشليم ، وفي كل يوم من سبعة أيام العيد كان الكهنة يخرجون بآلاتهم الموسيقية ومعهم فرقة التسبيح من اللاويين ليستقوا ماء في إناء ذهبي من عين سلوام ، وكان يتبعهم من جماهير العابدين أكبر عدد يمكنه أن يقترب من ذلك النبع ليشرب في الوقت نفسه الذي كان يترنم المرنمون فيه بصوت الفرح قائلين : ( تستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص ) (إشعياء 13 : 3) ثم يحمل الماء بعد ما ينتشله الكهنة ، إلى الهيكل بين أصوات الأبواق وترنيمات الفرح قائلة : ( تقف أرجلنا فى أبوابك يا أورشليم ) وكانوا يصبون الماء على مذبح المحرقة حين كان ترتفع أصوات الغناء والتسبيح ، وكانت جماهير الشعب تشترك فى ترانيم الانتصار بالآت الغناء وأصوات الأبواق الرخيمة . AA 364.4
وقد استخدم المخلص هذه الخدمة الرمزية لتوجية أفكار الشعب إلى البركات التي جاء هو لكي يمنحهم إياها ، ( وفي اليوم الأخير العظيم من العيد ) سمع صوت يسوع يدوي في كل أروقة الهيكل قائلا : ( إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب . من آمن بي ، كما قال الكتاب ، تجري من بطنة أنهار ماء حي ) ويوحنا يقول : ( قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه ) (يوحنا 7 : 37 — 39) . إن الماء المنعش الذي يفيض في أرض يابسة قفراء ويجعل البرية تزهر ، ويجري معطيا حياة للهالكين هو رمز للنعمة الإلهية التي يستطيع المسيح وحده أن يعطيها ، وهي كالماء الحي تطهر النفس وتنعشها وتنشطها . إن من يسكن المسيح في قلبه يكون في أعماقه نبع نعمة وقوة لا ينضب . إن يسوع يبهج الحياة وينير الطريق أمام كل من يطلبونة بكل قلوبهم . وإذ تقبل محبته فى القلب تثمر أعمالا صالحة للحياة الأبدية . وهذه المحبة لا تبارك النفس التي تحل فيها وحدها ، بل الينبوع الحي سيفيض في كلام وأعمال البر لإنعاش الظامئين حوله . AA 365.1
استعمل المسيح الرمز نفسه في حديثة مع المرأه السامرية عند بئر يعقوب فقال لها : ( من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد ، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية ) (يوحنا 4 : 14) إن المسيح يجمع بين الرمزين ، فهو الصخرة وهو الماء الحي . AA 365.2
إن نفس هذين الرمزين الجميلين بما لهما من مدلول رمزي يذكر أن كثيرا في الكتاب كله . فقبل مجيء المسيح في الجسد بعدة قرون أشار إليه موسى على أنه صخرة خلاص إسرائيل (تثنية 32 : 15) وقد تغنى صاحب المزامير فيه قائلا : ( وليي ( ( فادي ( ، ( صخرة قوتي ( ، ( صخرة أرفع مني ( ، ( صخرة ملجأ ( ، ( صخرة قلبي ) ، ( صخرة ملجإي ( . ثم أن داود في مزاميره يصور نعمة الفادي بمياه باردة ( مياه الراحة ( بين المراعي الخضر حيث يقود الراعي السماوي قطيعة . ثم يقول أيضا : ( ومن نهر نعمك تسقيهم . لأن عندك ينبوع الحياة ( (مزمور 19 : 13 ، 62 : 7 ، 61 : 2 ، 71 : 3 ، 73 ، 26 ، 94 : 22 ، 23 : 2 ، 36 : 8 ، 9) والحكيم يعلن قائلا : ( نبع الحكمة نهر مندفق ( (أمثال 18 : 4) وإرميا يصف المسيح أنه ( ينبوع المياه الحية ( وزكريا يقول عنه إنه ( يكون ينبوع مفتوحا ... للخطية وللنجاسة ( (إرميا 2 : 13 : زطريا 13 : 1) . AA 366.1
أما إشعياء فيصفه بأنه ( صخر الدهور ) ، ( كظل صخرة عظيمة في أرض معيية ) (إشعياء 26 : 4 ، 32 : 2) وهو يسجل الوعد الثمين مقدما للأذهان صورة واضحة للينبوع الحي الذي فاض لأجل إسرائيل إذ يقول : ( البائسون والمساكين طالبون ماء ولا يوجد . لسانهم من العطش قد يبس . أنا الرب أستجيب لهم . أنا إله إسرائيل لا أتركهم ) ، ( أسكب ماء على العطشان ، وسيولا على اليابسة ) ، ( لأنه قد أنفجرت في البرية مياه ، وأنهار في القفر ) . وهو يدعو قائلا : ( أيها العطاش جميعا هلموا إلى المياه ) (إشعياء 41 : 17 ، 44 : 3 ، 35 : 6 ، 55 : 1) وفي ختام السفر المقدس يتردد صدى هذه الدعوة . إن نهر ماء الحياة ( لامعا كبلور ) يخرج من عرش الله والخروف ، وهوذا دعوة الرحمة يرن صوتها عبر الأجيال قائلة : ( من يرد فليأخذ ماء حياة مجانا ) (رؤيا 22 : 17) . AA 366.2
قبيل وصول العبرانيين إلى قادش انقطعت مياه النبع الحي التي كانت تفيض متدفقة إلى جوار المحلة مدى السنين الطويلة الماضية . لقد قصد الرب أن يمتحن الشعب مرة أخرى ، أراد أن يعرف هل كانوا سيثقون بعنايته أم أنهم سيتمثلون بعدم إيمان آبائهم . AA 366.3
ها هم الآن يرون أمامهم جبال كنعان ، وأن مسير أيام قليلة يوصلهم إلى حدود أرض الموعد . وكانوا على مسافة قصيرة من أدوم التي كان يملكها بنو عيسو والتي كانت تخترقها الطريق المرسومة إلى كنعان . وقد أمر الرب موسى قائلا : ( تحلوا نحو الشمال . وأوص الشعب قائلا : أنتم مارون بتخم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير ، فيخافون منكم ... طعاما تشترون منهم بالفضة لتأكلوا ، وماء أيضا تبتاعون منهم بالفضة لتشربوا ) (تثنية 2 : 3 — 6) كان يجب أن تكون هذه التعليمات كافية لتوضيح سبب انقطاع الماء عنهم . فقد كانوا مزمعين أن يمروا في أرض خصبة وافرة المياه إذ يسيرون في طريق مستقيم إلى أرض كنعان . وكان الله قد وعد بأنهم سيمرون في أدوم دون أي انزعاج ، وستكون لهم فرص لشراء طعام وماء يكفي لكل الجماعة . ثم أن انقطاع الماء الذي تدفق بطريقه عجائبية كان ينبعي أن يكون سببا للفرح ، وعلامة على أن مدة تيهانهم في البرية قد انتهت . فلولا أن عدم إيمانهم قد أعماهم لكانوا قد فهموا هذا ، ولكن ما كان ينبغي أن يكون برهانا على إنجاز الله لوعده صار مجالا للشك والتذمر ، وقد بدا كأن الشعب قد فقدوا كل رجاء في أن الله سيورثهم كنعان فجعلوا يصرخون متمنين بركات البرية . AA 366.4
وقبل السماح لهم بدخول كنعان كان لا بد من أن يبرهنوا على إيمانهم بوعد الله . لقد انقطع عنهم الماء قبل وصولهم إلى أدوم . وكان هذا فرصة لهم حتى يسلكوا بالإيمان لا بالعيان وقتا قصيرا . ولكن أول تجربة أهاجت فيهم تلك الروح الثائرة روح الجحود والتذمر التي أظهرها آباؤهم من قبل . وما أن ارتفعت في جوانب المحلة الصرخات في طلب الماء حتى نسوا يد الله التي عالتهم وسدت أعوازهم لسنين طويلة ، وبدلا من أن يتجهوا إلى الله في طلب المعونة تذمروا عليه وصرخوا في يأس قائلين : ( ليتنا فنينا فناء إخوتنا أمام الرب ) (عدد 20 : 1 ، 13) أي أنهم تمنوا لو كانوا ضمن من قد هلكوا في عصيان قورح . AA 367.1
وقد صرخوا ضد موسى وهارون قائلين : ( لماذا أتيتما بجماعة الرب الى هذه البرية لكي نموت فيها نحن ومواشينا ؟ ولماذا أصعدتمانا من مصر لتأتيا بنا إلى هذا المكان الرديء ؟ ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان ، ولا فيه ماء للشرب ! ) . AA 367.2
ذهب ذانك القائدان إلى باب خيمة الاجتماع وسقطا على وجهيهما . ومرة أخرى ( تراءى لهما مجد الرب ) ثم أمر الرب موسى قائلا : ( خذ العصا واجمع الجماعة أنت وهارون أخوك ، وكلما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها ، فتخرج لهم ماء من الصخرة ) . AA 367.3
سار الأخوان أمام الجماعة وكانت عصا الله بيد موسى . لقد صارا الآن شيخين طاعنين في السن . وصبرا طويلا فيما مضى محتملين عصيان بني إسرائيل وعنادهم . أما الآن فحتى صبر موسى لم يعد يحتمل ، فصرخ قائلا : ( اسمعوا أيها المردة ، أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء ؟ ) وبدلا من أن يكلم الصخرة كما قد أمره الله ضربها بالعصا مرتين . AA 368.1
تدفق الماء عزيرا لإرواء الجماعة . ولكن خطية عظيمة ارتكبت . لقد تكلم موسى مدفوعا بدافع شعور السخط والغضب ، وكانت كلماته تعبيرا عن الانفعال البشري لا تعبيرا عن الغضب المقدس لسبب أن الله قد أهين . قال لهم : ( اسمعوا أيها المردة ) كان هذا اتهاما حقيقيا ، ومع ذلك ينبغي ألا ينطق به الإنسان ، حتى في الحمق ، بانفعال أو ضجر . لما أمر الله موسى أن يواجه إسرائيل على أنهم عصاة ومتمردون كان الكلام مؤلما لنفس موسى وكان يصعب على الشعب احتماله ، ومع ذلك فقد سنده الله وهو يقدم رسالته لهم . ولكن لما أخذ على نفسه أمر اتهامهم أحزن روح الله وأضر بالشعب . لقد اتضح بأنه كان يعوزه الصبر وضبط النفس . وهكذا كانت للشعب فرصة ليتساءلوا عما إذا كان عذرا لهم في خطيتهم ، فأغضب موسى الله كما فعلوا هم أيضا . فقالوا أن تصرفه من البداءة كان عرضة للانتقاد واللوم . وها هم الآن قد وجدوا العذر الذي طالما طلبوه لرفض كل التوبيخات التي قد أرسلها الرب إليهم عن طريق خادمه . AA 368.2
لقد أظهر موسى عدم ثقته بالله إذ سألهم قائلا : ( أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء ؟ ) كأن الرب لا يريد أن يتم ما وعد به . فقال الرب لذينك الأخوين : ( لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل ) وحينما لم يكن ماء قبلا ، تزعزع إيمانهما في إتمام الله لوعده بسبب تذمر الشعب وتمردهم . فحكم على الجيل الأول بأن يموتوا في القفر لعدم إيمانهم ، ومع ذلك فها نفس الروح تتفشى في أولادهم . فهل سيخفق هؤلاء أيضا في الحصول على الوعد ؟ إن موسى وهارون إذ كانا متعبين وخائرين لم يبذلا أي مجهود لصد تيار ثورة الشعب الجارفة . فلو أنهما هما نفسيهما أظهرا إيمانا بالله ثابتا لا يتزعزع لكانا قد أوضحا المسأله أمام الشعب في نور يقدرهم على احتمال التجربة . ولو أنهما استخدما السلطان الممنوح لهما من الله كقضاة بكيفية سريعة وحاسمة لأمكنهما إسكات تلك التذمرات . كان يجب عليهما أن يبذلا كل جهد يستطيعانه لأصلاح الحال قبلما يطلبان من الله أن يعمل لأجلهما العمل . ولو أن التذمر في قادش قمع بسرعة حازمة ، لامتنع حدوث سلسلة من الشرور . AA 368.3
إن موسى بعمله الطائش أبطل قوة الدرس الذي قصد الله أن يعلمه للجميع . إن الصخرة التي كانت ترمز إلى المسيح قد ضربت مرة واحدة كما كان على المسيح أن يقدم مرة واحدة . وفي المرة الثانية كانت الحاجة فقط إلى أن يكلم موسى الصخرة ، كما يجب فقط أن نطلب البركات باسم المسيح . وإذ ضربت الصخرة مرة ثانية تحطم مغزى هذا الرمز الجميل الذي يشير إلى المسيح . AA 369.1
وأكثر من هذا فإن موسى وهارون قد ادعيا لنفسيهما قوة هي من حق الله وحده . إن الضرورة لتداخل الله جعلت تلك الفرصة في غاية الخطورة ، وكان ينبغي لقائدي اسرائيل ذينك أن يحسنا استخدامها بالتأثير على الشعب ليوقروا الله ، وليقووا إيمانهم بقدرته وصلاحه . وحين صرخا في غضب قائلين : ( أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء ؟ ) وضعا نفسهما في مكان الله ، كأنما القوة كامنة فيهما ، مع أنهما رجلان لهما ما لسائر البشر من ضعفات وآلام . فإذ ضجر موسى من تذمرات الشعب وعصيانهم المتواصل غاب عن نظرة معينه القدير . فإذ لم تسنده قوة الله ترك ليشوه تاريخه بإظهار الضعف البشري . فذلك الرجل الذي كان يمكن أن يظل طاهرا وثابتا ومنكرا لنفسه إلى نهاية خدمته انهزم أخيرا . لقد أهين الله أمام جماعة إسرائيل وكان ينبغي أن يتمجد ويتعظم . AA 369.2
إن الله لم ينطق في تلك الوقت بأحكامه على أولئك الذين بمسلكهم الشرير أثاروا غضب موسى وهارون . ولكن كل اللوم وقع على ذينك القائدين . فذانك الرجلان اللذان وقفا كممثلين عن الله أمام الشعب لم يكرماه ، وقد أحس موسى وهارون بالكدر إذ غابت عن بالهما حقيقة كون تذمر الشعب لم يكن ضدهما بل ضد الله نفسه . إن نظرهما إلى نفسيهما ، مستشهدين بعطفهما جعلهما يسقطان في الخطية دون أن يشعرا ، ويفشلان في وضع خطية الشعب العظيمة أمام عيونهم . AA 369.3
كان حكم الله الذي نطق به عليهما في الحال مريرا ومذلا لهما جدا . ( فقال الرب لموسى وهارون : من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل ، لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها ) فقبل عبور الأردن كان لا بد لهما من أن يموتا مع بني إسرائيل العصاة . ولو كان موسى وهارون يقدرأن نفسهما بأعظم مما هما في الحقيقة أو يضمران السخط أو الغضب وهما يسمعان هذا الإنذار والتوبيخ الإلهي لكان ذنبهما أعظم مما يحتمل . ولكنهما كانا بريئين من خطية الإصرار والعناد . لقد انهزما أمام تلك التجربة المباغتة وسرعان ما أحسا الانسحاق فتذللا أمام الله ، فقبل الرب توبتهما ، ومع ذلك فبسبب الضرر الذي ألحقته خطيتهما بالشعب لم يمكن الله أن يلغي حكمه أو يرفع عنهما القصاص . AA 369.4
ولم يخف موسى الحكم الذي حكم به عليه ولكنه أخبر به الشعب قائلا أنه لكونه أخفق في أن ينسب المجد لله فلن يكون قادرا أن يدخلهم أرض الموعد . وقد أمرهم أن يلاحظوا القصاص الصارم الذي افتقده الرب به ، ويتأملوا في كم سيعتبر الرب تذمراتهم عظيمة في اتهامهم إنسانا عاديا بإنزال أحكام الرب عليهم ، تلك الأحكام التي جلبوها على أنفسهم بخطاياهم . وقد أخبرهم كيف أنه قد توسل إلى الله لكي ينقض ذلك الحكم ، ولكن الرب رفض إجابة توسلاته . فقال : ( لكن الرب غضب علىي بسببكم ولم يسمع لي (تثنية 3 : 26) . AA 370.1
إن بني إسرائيل كلما كانت تعترضهم أية صعوبة أو تجربة فسرعان ما كانوا يتهمونه بأنه قد أخرجهم من أرض مصر ، كأن الله لم تكن له يد في ذلك . وفي كل رحلاتهم إذ كانوا يشتكون من الصعوبات التي واجهتهم في الطريق ويتذمرون على ذينك القائدين كان موسى يقول لهم : ) إن تذمركم هو على الرب ، فلست أنا الذي أنقذتكم بل الرب ( ولكن كلماته التي نطق بها في تسرع وهو أمام الصخرة حين قال : ) أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء ؟ ) كانت اعترافا فعليا بصدق تهمة الشعب الموجهة إليه ، وجعلت الشعب يصرون على عدم إيمانهم ويبررون تذمراتهم . وقد أراد الرب أن يزيل هذا الأثر الخاطئ إلى الأبد من أذهان الشعب بحرمانه لموسى من دخول أرض الموعد وهذا برهان لا يدحض على أن قائدهم لم يكن هو موسى ، بل الملاك القدير الذي قال الرب عنه : ( ها أنا مرسل ملاكا أمام وجهك ليحفظك في الطريق ، وليجيء بك إلى المكان الذي أعددته . احترز منه واسمع لصوته ... لأن اسمي فيه ) (خروج 23 : 20 ، 21) . AA 370.2
قال موسى : ( غضب علي ( الرب ) بسببكم ) . كان عيون كل بني إسرائيل نحو موسى . وقد ألقت خطيته ظلا على الله الذي قد اختاره قائدا لشعبه . وقد علمت كل الجماعة بذلك العصيان ، فلو كان الله قد أغض عن هذا العصيان لرسخ في عقول الشعب الاعتقاد أن عدم الإيمان والضجر تحت ضغط الإسخاط العظيم يمكن التغاضي عنهما في حياة من هم في مراكز تتطلب مسؤولية ، ولكن عندما أعلن أن موسى وهارون لن يدخلا أرض كنعان بسبب تلك الخطية الواحدة عرف الشعب أنه ليست عند الله محاباة ، وأنه يعاقب المذنبين عقابا أكيدا . AA 370.3
إن تاريخ بني إسرائيل كان لا بد من أن يكتب في سفر لأجل تعليم الأجيال القادمة وإنذارها . والناس في كل العصور الآتيه ينبغي لهم أن يروا إله السماء كالسيد الذي لا يحابي ، والذي لا يبرر الخطية في أي حال . ولكن قليلون هم الذين يتحققون شر الخطية العظيم . إن الناس يخدعون أنفسهم بقولهم إن الله صالح جدا بحيث لا يعاقب الخطية . ولكن في نور تاريخ الكتاب المقدس يتضح لنا أن صلاح الله ومحبته يلزمانه بأن يعامل الخطية على أنها شر قتال لسلامة الكون وسعادته . AA 371.1
حتى استقامة موسى وأمانته لم تستطيعا منع عقابه على زلته . لقد غفر الله للشعب خطايا أعظم من خطية موسى ، ولكنه لا يمكنه أن يعامل خطية القادة كما يعامل خطايا عامة الشعب . لقد أكرم الرب موسى أكثر مما أكرم أي إنسان على الأرض . أعلن له مجده وعن طريقه أعطى شرائعه لإسرائيل . وإن حقيقة كون موسى قد تمتع بمثل ذلك النور الباهر وتلك المعرفة الكاملة جعلت خطيته أكثر شناعة . إن الأمانة الماضية لا يمكنها أن تكفر عن عمل خاطئ واحد . فكلما زاد النور والامتيازات الممنوحة للإنسان زادت مسؤوليته ، وصار فشله عظيما وقصاصة صارما . AA 371.2
لم تكن خطية موسى جرما هائلا كما قد يراها الناس بل كانت خطيته من تلك الخطايا الشائعة الكثيرة الحدوث . يقول صاحب المزامير عن موسى أنه قد ( فرط بشفتيه ) (مزمور 106 : 33) وقد يحكم الناس على هذه الخطية أنها شيء زهيد . ولكن إذا كان الله قد عامل هذه الخطية بمثل هذه الصرامة العظيمة في حياة خادمه هذا الذي كان أعظمهم أمانة وأكرمهم في عينيه ، إذا فهو لن يتسامح فيها قطعا في حياة الآخرين . إن خطية تعظيمنا لذواتنا وميلنا إلى لوم إخوتنا هي خطية مغيظة لله . ومن ينغمسون في هذه الشرور يلقون ظلالا من الشك على عمل الله ويعطون لجماعة المتشككين عذرا للتمادي في عدم إيمانهم . وبقدر ما يكون مركز الإنسان خطيرا عظيما بقدر ما يجب عليه أن يكون صبورا ووديعا . AA 371.3
إذا كان أولاد الله ولاسيما اولئك الذين ينطوي مركزهم على مسؤؤلية ، يأخذون لأنفسم المجد الذى لا يليق بغير الله فإن الشيطان يفرح ويبتهج ، إذا أحرز انتصارا ، لأن هذا كان علة سقوطه . وهكذا هو يحرز أعظم نجاح إذ يجرب الآخرين لهلكوا . إن الله لكي يجعلنا يقظين وحذرين من مكايد الشيطان يعطينا من كلمته دروسا كثيرة ليعلمنا خطر تعظيم الذات . لا باعث من بواعث طبيعتنا ولا قوة من قوى عقولنا ولا ميل من أميال قلوبنا وإلا يحتاج إلى قوة ضبط روح الله لحظة فلحظة . لا بركة من البركات التي يمنحها الله للإنسان ، وتجربة مما يسمح الله بوقوعه عليه إلا ويستخدمها الشيطان ليجرب بها النفس ويزعجانها ويهلكها لو أعطيناه أقل مجال . ولهذا فمهما كانت عظمة النور الروحي المعطى للإنسان ومهما كان رضى الله وبركاته التي يمنحه إياها عظيمة ينبغي له أن يسلك متواضعا أمام الرب متوسلا إليه تعالى أن يرشد كل أفكاره ويتسلط عل كل بواعثه . AA 372.1
جميع المعترفين بالتقوى هم تحت أقدس الالتزامات للسهر على أرواحهم والتدرب على حفظ أنفسهم أمام أقسى الاستفزازات . لقد كانت أثقال مسؤوليات موسى عظيمة جدا ، وقليلون هم الذين يجربون بقسوه كما جرب هو ولكن هذا لم يكن كافيا للإغضاء عن خطيته . لقد أعد الرب لشعبة مؤونة كافية ، فلوا اتكلوا على قدرتة لا يكونون تحت رحمة الظروف . إن أقسى التجارب لا يمكن أن يكون عذرا للخطية . ومهما تكن عظمة الضغط الواقع على النفس فإن التعدى هو من فعلنا ، لأنه لا توجد قوه فى الأرض أو فى الجحيم ترغم أى إنسان على عمل الشر . إن الشيطان يهاجم مواطن الضعف فينا ولكن لا حاجه بنا إلى التسليم أو الهزيمة . ومهما كانت الهجمات قاسية وغير متوقعه فقد أعد لنا الله معونة وبقوته يمكننا أن ننتصر . AA 372.2
* * * * *