الاباء والانبياء

6/75

الفصل الرابع—تدبير الفداء

ملأ نبأ سقوط الإنسان أرجاء السماء حزنا ، فالعالم الذي خلقه الله ضربته لعنة الخطية ، وأمسى ساكنوه خلائق محكوما عليها بالشقاء والموت ، لم ير باب لنجاة من قد تعدوا الشريعة ، وكف الملائكة عن ترديد أغاني الحمد ، وفي أرجاء السماء ساد الحزن والنوح بسبب الدمار الذي أحدثته الخطية . AA 44.1

وابن الله ، رب السماء المجيد ، امتلأ قلبه بالإشفاق على البشرية الساقطة ، فإذ رأى هول الويلات التي حلت بالعالم الهالك تحرك قلبه باللطف الذي لا يحد ، وابتكرت محبة الله تدبيرا به يمكن افتداء العالم . إن شريعة الله التي انتهكت كرامتها تطلب موت الخاطئ ، وفي كل الكون لم يكن غير واحد يمكنه أن يتمم مطاليب الشريعة كنائب عن الإنسان ، وحيث أن شريعة الله مقدسة مثله تماما فالذي يكفر عن خطايا العالم ينبغي أن يكون معادلا لله ، ولم يكن أحد غير المسيح يستطيع أن يفتدي الإنسان الساقط من لعنة الناموس ويعيده إلى حالة الوفاق مع السماء . وقد رضي المسيح أن يأخذ على نفسه ذنب الخطية وعارها — الخطية الكريهة لدى إله قدوس إلى حد أنها تفصل الآب عن ابنه ، ورضي أن ينحدر إلى عمق أعماق الشقاء لينقذ البشرية الهالكة . AA 44.2

رافع المسيح عن الإنسان الخاطئ أمام الآب ، بينما انتظر جند السماء النتيجة باهتمام بالغ لا يمكن التعبير عنه بالكلام ، واستغرقت تلك المشاورة السرية وقتا طويلا - وهي « مشورة السلام » (زكريا 6 : 13). لأجل بني الإنسان الساقطين . على أن تدبير الخلاص هذا كان قد أعد قبلما خلقت الأرض ، لأن المسيح هو « الحمل المذبوح منذ إنشاء العالم » (رؤيا 13 : 8) ** . ومع هذا فقد كان ذلك صراعا مع ملك الكون نفسه ، أن يبذل ابنه ليموت عن جنسنا . « لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية » (يوحنا 3 :16) . آه ما أعظم سر الفداء ، وما أعجب محبة الله لعالم لم يحببه ! من ذا الذي يستطيع ان يسبر أعماق هذه المحبة « الفائقة المعرفة » ؟ ومدى أجيال لا نهاية لها إذ تحاول إفهام الأبرار في سماء الخلود إدراك سر تلك المحبة الفائقة لإدراك سيتعجبون ويقدمون للعلي عبادتهم وسجودهم . AA 44.3

كان لا بد أن يتجلى الله في المسيح « مصالحا العالم لنفسه »(2 كورنثيوس 5 : 19) . لقد انحدر الإنسان إلى أدنى دركات الانحطاط بسبب الخطية ، بحيث صار من المستحيل عليه العودة بقوته الذاتية إلى حال الانسجام والوفاق مع ذاك الذي طبعه الطهارة والصلاح ، ولكن المسيح بعدما افتدى الإنسان من دينونة الشريعة أمكنه أن يضيف إلى مجهود الإنسان قدرته الإلهية ، وهكذا بالتوبة إلى الله والإيمان بالمسيح أمكن أبناء آدم الساقطون أن يصيرو « أولاد لله » (1 يوحنا 3 : 2) . AA 45.1

إن التدبير الذي به ، دون سواه ، يمكن أن يتم الخلاص قد شمل كل السماء في تضحيتها غير المحدودة ، فالملائكة لم يستطيعوا أن يفرحوا أو يتهللوا حين بسط المسيح أمامهم تدبير الفداء ، لأنهم رأوا أن خلاص الإنسان لا بد من أن يكبد قائدهم الحبيب ويلات هائلة لا يمكن وصف قسوتها ، ففي حزن ودهشة أصغوا إليه يحدثهم كيف أنه سينزل من سماء الطهارة والسلام والفرح والمجد والخلود ليحتك بانحطاط الأرض ، ليتحمل أحزانها وأقذارها ويكابد عارها وموتها ، كان لا بد له أن يحول بين الخاطئ وقصاص خطيته ، ومع ذلك فقليلون هم الذين سيقبلونه على أنه ابن الله ، كان عليه أن يتخلى عن مركزه كمن هو سلطان السماء وبهاؤها وجلالها ويظهر على الأرض في حالة وضيعة كإنسان ، ويختبر بنفسه الأحزان والتجارب التي كان على الإنسان أن يحتملها . كان كل ذلك لازما وضروريا له لكي يقدر أن يعين المجربين (عبرانيين ٢ :١٨) ومتى انتهت مهمته كمعلم يجب أن يُسلم لأيدي الأشرار ويتعرض لكل صنوف الإهانة والتعذيب التي لا يمكن أن يوحي إليهم الشيطان بإيقاعها عليه ، ويموت أقسى ميتة ، معلقا على صليب بين السموات والأرض كخاطئ مجرم ، ويمر في ساعات عذاب طويلة ورهيبة جدا حتى أن الملائكة لا يستطيعون مشاهدة ذلك المنظر ، فيغطون وجوههم حتى لا يروه. وعليه أن يجوز في عذاب نفسي رهيب إذ يحجب الآب وجهه عنه حين يستقر عليه جرم الخطية — أي أحمال خطايا العالم كله . AA 45.2

سجد الملائكة عند قدمي سيدهم ورئيس جندهم ، وقدموا أنفسهم ليكونوا ذبيحة لأجل الإنسان ، ولكن حياة أي ملاك لا يمكنها أن تفي الدين ، أما ذاك الذي جبل الإنسان فهو وحده الذي يستطيع أن يفتديه . ومع ذلك فقد كان على الملائكة أن يقدموا بعض الخدمات في تدبير الفداء . وكان لا بد أن يوضع المسيح « قليلا عن الملائكة .. من أجل ألم الموت » (عبرانيين 2 : 9) وحيث أنه سيتخذ طبيعة بشرية فقوته لن تكون في مثل قوة الملائكة ، فعليهم أن يخدموه ويقووه ويسكنوا اضطراب نفسه حين يقاسي الآلام ، كما كان عليهم أن يكونوا أرواحا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثو الخلاص (عبرانيين 1 : 14) ولا بد لهم أن يحرسوا أبناء النعمة من قوة الملائكة الأشرار ومن الظلمة التي ينشرها الشيطان حولهم . AA 46.1

إن الملائكة حين يشاهدون آلام سيدهم وإذلاله تمتلئ قلوبهم حزنا ويتملكهم الغضب ويتمنون لو يسمح أن ينقذوه من أيدي قاتليه . ولكنه غير مسموح لهم أن يتدخلوا ليمنعوا وقوع شيء مما يرونه . فإن هذا كله جزء من تدبير الفداء ، إن المسيح ينبغي له أن يتحمل الازدراء والإهانة من الأشرار ، وقد ارتضى هو نفسه بذلك كله حين صار فادي البشر . AA 46.2

أكد المسيح لملائكته أنه بموته سيتفتدي كثيرين ، وسيبيد ذاك الذي له سلطان الموت ، وسيسترجع الملك الذي أضاعه الإنسان بعصيانه ، وسيرثه المفديون مع سيدهم ويسكنون هناك إلى الأبد ، ولن تعود الخطية والخطاة بعد يعكرون صفاء السماء أو يزعجون سلام الأرض ، لأن الخطية والخطاة سيمحون إلى الأبد ، وقد أمر المسيح الجند السماويين أن يكونوا على وفاق مع التدبير الذي قبله الآب ، وأن يفرحوا لأنه بموته سيتصالح الإنسان الخاطئ مع الله . AA 46.3

حينئذ ملأت أرجاء السماء أفراح لا يمكن وصفها . إن مجد وسعادة العالم المفتدى فاقت حتى آلام رئيس الحياة وموته ، وفي كل الأرجاء العلوية رن صوت ذلك اللحن وتلك الأغنية التي كانت ستسمع أنغامها فوق تلال بيت لحم «المجد لله في الأعالي ، وعلى الأرض السلام ، وبالناس المسرة » (لوقا 2 : 14) . وبنغمة فرح أعمق مما حدث عند الخليقة الجديدة «ترنمت كواكب الصبح معا ، وهتف جميع بني الله » (أيوب 38 : 7) . AA 46.4

إن أول إشارة إلى الفداء قد أبلغت الإنسان في حكم الله الذي أوقعه على الشيطان في الجنة . فلقد أعلن الله قائلا : «وأضع عداوة بينك وبين المرأة ، وبين نسلك ونسلها . هو يسحق رأسك ، وأنت تسحقين عقبه» (تكوين 3 : 15) . فهذا القول الذي نطق به الله في مسامع أبوينا الأولين كانت بمثابة وعد بالنسبة لهما . فإذ أنبأ بقيام حرب بين الإنسان والشيطان أعلن أن قوة ذلك الخصم العظيم ستسحق نهائيا . لقد وقف آدم وحواء كمذنببين أمام الديان العادل ، منتظرين الحكم الذي أوجبه عليهما تحديهما ، ولكن قبلما حكم عليهما بحياة كلها كد وعناء وحزن وشقاء ، وقبلما حكم عليهما بأنهما سيعودان إلى التراب أصغيا إلى هذا الوعد الذي أنعش قلبيهما بالرجاء . فمع أنهما لا بد من أن يقاسيا من قوة عدوهما الجبار فقد كانا يتطلعان إلى النصرة النهائية . AA 47.1

وحين سمع الشيطان أنه ستقوم عداوة بينه وبين المرأة وبين نسله ونسلها أيقن أن عمله في إفساد الجنس البشري سيتعطل ويتوقف ، وإذ أن الإنسان ، بوسيلة أو بأخرى ، سيكون قادرا على مقاومة سلطانه . ولكن حين أعلن تدبير الخلاص كاملا فرح الشيطان وجنوده لكونه ، إذ تسبب في سقوط الإنسان ، أمكنه أن ينزل ابن الله من مرتبته ومقامه العظيم ، وأعلن أن خطته ، حتى ذلك الحين ، قد نجحت في الأرض ، وأن ابن الله حين يتخذ طبيعة بشرية قد ينهزم هو أيضا ، وهكذا لن يتم فداء الجنس الساقط . AA 47.2

وقد أعلن ملائكة السماء لأبوينا الأولين بوضوح أكثر التدبير الذي رسم لخلاص البشرية . وأكدوا لآدم وشريكته أنه بالرغم من خطيتهما العظيمة فالرب لن يتخلى عنهما تاركا إياهما لسلطان الشيطان ، لأنه قد تطوع ابن الله لأن يكفر عن معصيتهما ببذل حياته ، وأنه أعطيت لهما فترة امتحان ، وبالتوبة والإيمان بالمسيح يمكنهما أن يكونا ثانية من أولاد الله . AA 47.3

إن الذبيحة التي أوجبها عصيانهما كشفت لآدم وحواء صفة القداسة التي لشريعة الله وقد رأيا ، كما لم يريا من قبل ، جرم الخطية ونتائجها الرهيبة ، وفي حزن وانسحاق طلبا ألا يقع القصاص على ذاك الذي كانت محبته نبع أفراحهما بل أن يقع بالحري عليهما وعلى نسلهما . AA 47.4

وقد قيل لهما أنه حيث أن شريعة الرب هي أساس حكمه في السماء كما على الأرض ، فحتى حياة ملاك لا يمكن قبولها ذبيحة عن التعدي عليها . ولا يمكن تغيير أو إلغاء جزء ولو صغير من تلك الشريعة ليناسب الإنسان في حالته بعد السقوط ، ولكن ابن الله الذي خلق الإنسان يمكنه أن يصنع كفارة عنه ، فكما أن معصية آدم قد جلبت الشقاء والموت ، فكذلك ذبيحة المسيح ستأتي بالحياة والخلود . AA 47.5

وليس الإنسان وحده هو الذي وقع تحت سلطان الشرير ، ولكن حتى الأرض أيضا بسبب الخطية خضعت لسلطانه ، وكان لا بد أن ترد بالفداء . إن آدم بعدما خلق أقيم سيدا على الأرض ، ولكنه إذ انهزم أمام التجربة صار تحت سلطان الشيطان ، « لأن ما انغلب منه أحد ، فهو له مستعبد أيضا »(2 بطرس 2 : 19) وبعدما صار الإنسان أسيرا للشيطان انتقلت السيادة منه إلى آسره ، وهكذا صار الشيطان «إله هذا الدهر » (2 كورنثوس 4 : 4) لقد اغتصب السلطان الذي كان قد أعطي لآدم على الأرض ، ولكن المسيح إذ حمل قصاص الخطية بذبيحته فهو لا يفتدي الإنسان فقط بل سيعيد إليه سلطانه الذي قد أضاعه ، فكل ما خسرناه في آدم الأول سنسترجعه في آدم الثاني . يقول ميخا النبي «وأنت يا برج القطيع ، أكمة بنت صهيون إليك يأتي ، ويجيء الحكم الأول» (ميخا 4 : 8) وبولس الرسول يشير إلى المستقبل إلى ) فداء المقتنى » (أفسس 1 : 14) لقد خلق الله الأرض لتكون مسكنا للخلائق المقدسة السعيدة . إن الرب هو « مصور الأرض وصانعها . هو قررها . لم يخلقها باطلا . للسكن صورها » (إشعياء 45 : 18) وسيتم ذلك القصد حينما تصبح الأرض مسكن المفديين الأبدي بعدما تتحرر ، بقوة الله ، من الخطية والحزن : «الصدّيقون يرثون الأرض ويسكونونها إلى الأبد » (مزمور 37 : 29) « ولا تكون لعنة ما في ما بعد . وعرش الله والخروف يكون فيها ، وعبيده يخدمونه » (رؤيا 22 : 3) . AA 48.1

لقد تمتع آدم وهو في حال الطهارة باتصال مباشر بجابله ، ولكن الخطية فصلت بين الله والإنسان . إلا أن كفارة المسيح أقامت جسرا على تلك الهوة ، وجعلت من الممكن إيصال البركة والخلاص من السماء إلى الأرض . كان الإنسان لا يزال محظورا عليه الدنو المباشر من خالقه ، ولكن الله أراد أن يتصل به عن طريق المسيح والملائكة . AA 48.2

وهكذا أعلنت لآدم حوادث هامة في تاريخ البشرية منذ الوقت الذي فيه نطق الله بحكمه في الجنة إلى الطوفان ، ثم إلى مجيئ ابن الله أول مرة . وقيل له إنه مع كون ذبيحة المسيح ذات قيمة عظيمة كافية لتخليص العالم كله فإن كثيرين سيفضلون حياة الخطية على حياة التوبة والطاعة . وستزيد الجرائم في الأجيال المتعاقبة ، وستستقر لعنة الخطية بأكثر قوة وقسوة على الجنس البشري ، وعلى البهائم والأرض ، وستقصر أيام حياة الإنسان بسبب الخطية التي سيختارها ، وسيصيب جسمه التشويه والضعف ، كما ستضعف قواه الأدبية والذهنية ، وقوته على الاحتمال ، حتى تمتلئ الأرض من كل ألوان الشقاء وبسبب انغماس الناس في النهم والشهوات لن يقدّروا الحقائق العظيمة الخاصة بتدبير الفداء ، ومع ذلك فالمسيح لكونه أمينا وحريصا على إتمام القصد الذي لأجله ترك السماء سيظل على اهتمامه بالناس وسيواصل دعوته إياهم لأن يأتوا إليه ويخفوا ضعفاتهم ونقائصهم فيه . وهو سيسدد احتياجات كل من يأتون إليه بالإيمان . والذين يحفظون معرفة الله ويظلون طاهري الذيل في وسط تيار الإثم الجارف سيكونون قليلي العدد . AA 48.3

وقد رسم الله نظام الذبائح الكفارية لتكون مذكرا دائما للإنسان واعترافا منه بتوبته عن خطيته وبإيمانه بالفادي الموعود به ، وكان القصد من تلك الذبائح ترسيخ هذا الحق في عقول الناس الساقطين وقلوبهم ، وهو أن الخطية هي علة الموت . وقد أحس آدم بألم وحزن بالغين عندما قدمت أول ذبيحة ، إذ كان لا بد ليده من أن ترتفع لتنتزع الحياة التي لا يعطيها غير الله . كانت تلك أول مرة شاهد فيها الموت ، وعرف أنه لو ظل مطيعا لله لما مات إنسان أو حيوان ، وعندما ذبح أول ذبيحة ارتجت نفسه عندما برق في ذهنه هذا الخاطر وهو أن خطيته لا بد أن تسفك دم حمل الله الذي بلا عيب . وهذا المنظر جعله يحس إحساسا أوضح وأعمق بهول معصيته التي لا يمكن أن يكفر عنها غير موت ابن الله الحبيب . وقد ملكته الدهشة وهو يتأمل في صلاح الله غير المحدود الذي يقدم هذه الفدية الفادحة الكلفة لكي يخلص الأثمة ، ولمع في سماء حياته نور الرجاء الذي بدد غياهب المستقبل المظلم المرعب وخفف من وحشته وكآبته . AA 49.1

غير أن تدبير الفداء كان له غرض أوسع وأعمق من خلاص الإنسان . لم يكن هذا هو القصد الوحيد الذي لأجله أتى المسيح إلى الأرض ، لم يكن القصد الوحيد هو مجرد أن ينظر سكان كوكب الأرض الصغير هذا إلى شريعة الله بعين الاعتبار كما ينبغي ، ولكن القصد كان تبرير وتزكية صفات الله في أعين سكان الكون كلهم . ولأجل هذه الغاية من ذبيحته العظيمة - أي تأثيرها في عقول الكائنات العاقلة في كل العوالم كما في الإنسان ، كان المخلص ينظر إلى الأمام حين قال قبل صلبه : « الآن دينونة هذا العالم . الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجا . وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع » (يوحنا 12 : 31 ، 32) . إن عمل المسيح في كونه مات لأجل خلاص الإنسان ليس فقط يسهل طريق وصول الناس إلى السماء ، بل يبرر الله أمام سكان الكون جميعا ، يبرر الله وابنه في كيفية معاملتهما لعصيان الشيطان ، ثم أن موت المسيح يثبت دوام شريعة الله ويكشف عن طبيعة الخطية وعواقبها . AA 49.2

لقد كان النزاع من البدء حول شريعة الله . فلقد حاول الشيطان أن يبرهن أن الله ظالم ، وأن شريعته مخطئة ، وأنه ينبغي تغييرها لأجل خير الكون . وفي مهاجمته للشريعة كان يرمي إلى هدم سلطان واضعها . وفي هذا النزاع لا بد من البت فيما إذا كانت شريعة الله ناقصة وعرضة للتغيير أم كاملة لا تتغير . AA 50.1

ولما طرد الشيطان من السماء عول على جعل العالم مملكة له ، ولما جرب آدم وحواء وانتصر عليهما ظن أنه قد ملك زمام العالم قائلا : « إنهم قد اختاروني ملكا عليهم » وقد ادعى أنه لا يمكن أن يمنح الغفران للخاطئ ، ولذلك فكل الجنس البشري صاروا رعاياه الشرعيين ، وصار العالم ملكا له . ولكن الله بذل ابنه الحبيب المساوي له ، ليتحمل قصاص العصيان ، وبذلك أعد طريقة بها يستعيد الإنسان رضا الله فيعاد إلى بيته في جنة عدن . وقد أخذ المسيح على نفسه أمر فداء الإنسان وتحرير العالم من قبضة الشيطان . وذلك النزاع الذي بدا في السماء كان لا بد أن يتقرر في نفس العالم ونفس الميدان الذي ادعى الشيطان أنه ملكه . AA 50.2

والذي أدهش الكون كله أن المسيح وضع نفسه لكي يخلص الإنسان الساقط ، فكون ذاك الذي سار من نجم إلى آخر ومن عالم إلى آخر وهو مشرف على الكل وبعنايته يسد أعواز كل خلائقه في الكون الواسع — كونه يرتضي التخلي عن مجده واتخاذ الطبيعة البشرية — كان هذا سرا تاقت عقول الأبرار في العوالم الأخرى أن تتفهمه وتسبر غوره . وحين أتى المسيح إلى عالمنا في صورة إنسان اهتم الجميع أعظم اهتمام في تأثر خطواته وهو يسير خطوة فخطوة في الطريق المخضب بالدم من المذود إلى جلجثة . وقد لاحظت السماء كل إهانة وكل سخرية وقعت عليه ، وعرفت أن ذاك كله بتحريض من الشيطان ، ولاحظوا أيضا عمل القوات المضادة يتقدم ، فكان الشيطان يضغط بالظلمة والأحزان والكلام على الجنس البشري ، بينما كان المسيح يعمل عكس هذا ، وكذلك لاحظوا المعركة بين النور والظلمة حين حمي وطيسها . وحين صرخ المسيح وهو يعاني سكرات الموت قائلا : « قد أكمل » (يوحنا 19 : 30) ارتفعت هتافات الانتصار من كل العوالم ومن السماء نفسها . وذلك النضال الذي طال أمده في هذا العالم تقرر الآن مصيره ، وانتصر المسيح ، الذي موته أعلن ما إذا كان في قلب الآب والابن محبة للإنسان كافية تدفعهما الى إنكار الذات والتضحية . وقد كشف الشيطان عن أخلاقه على حقيقتها ، فتبرهن أنه كذاب وقاتل ، وظهر أن نفس الروح التي كان قد سيطر بها على بني الإنسان الذين كانوا تحت سلطانه كان سيظهرها لو سمح له بأن يسيطر على الكائنات السماوية . فبصوت واحد اتحدت المسكونة المخلصة لله في تمجيد سياسته الإلهية . AA 50.3

لو أمكن تغيير الشريعة لأمكن خلاص الإنسان بدون ذبيحة المسيح ، ولكن حقيقة كونه لازما جدا أن يبذل المسيح حياته لأجل الجنس الساقط تبرهن على أن شريعة الله لا يمكن أن تعفي الخاطئ من مسؤولية حفظها . ولقد أعلن أن أجرة الخطية هو موت ، فحين مات المسيح أصبح هلاك الشيطان أمرا مؤكدا ، ولكن لو أن الناموس أبطل عن الصليب كما يدعي كثيرون ، إذا فآلام ابن الله الحبيب وموته إنما كان القصد من احتماله إياها إعطاء الشيطان ما طلبه ، وأن سلطان الشر قد انتصر ، وثبتت كل اتهاماته لله في حكمه . إن نفس حقيقة كون المسيح حمل قصاص عصيان الإنسان هي حجة قوية للعقل البشري بأن الشريعة لم ولن تتغير ، وأن الله بار ورحيم ومنكر لنفسه ، وأن العدل والرحمة غير المحدودين يتلاقيان ويتحدان في سياسته وحكمه . AA 51.1

* * * * *