الاباء والانبياء

37/75

الفصل الخامس والثلاثون—عصيان قورح

إن الأحكام والعقوبات التي قد أنزلها الله بالإسرائيليين كانت لمدة رادعا لهم ، فلم يلجأوا إلى التذمر أو التمرد ، إلا أن روح العصيان كان لا يزال رابضا في قلوبهم حتى أنه أثمر أخيرا ثماره المريرة . إن الثورات الماضية لم تكن أكثر من مجرد مشاغبات عامة ، ناشئة عن التحريضات الفجائية التي كانت تصدر من الشعب الهائج ، أما الآن فقد نسجت خيوط مؤامرة متأصلة في النفوس ، جاءت نتيجة الإصرار على هدم سلطة القادة الذين أقامهم الله نفسه . AA 348.1

إن قورح الذي كان على رأس تلك الحركة كان لاويا من بيت قهات ومن أبناء عمومة موسى ، وكان رجلا موهوبا وقويا في تأثيره . ولئن كان معينا للخدمة في الخيمة إلا أنه لم يقنع بهذا المركز ، إذ كان يصبو للوصول إلى عظمة الكهنوت . إن منح هارون وبيته وظيفة الكهنوت التي كانت قبلا من نصيب بكر كل عائلة صارت مثار المحاسدات والتذمرات ، إذ ظل قورح ردحا من الزمن يقاوم سلطة موسى وهارون في الخفاء ، إذ لم يكن يجرؤ على المجاهرة بالعصيان . فبالقرب من خيام قورح وعشيرة القهاتيين وفي جنوبي خيمة الاجتماع كانت محلة سبط رأوبين وخيام داثان وأبيرام ، وهما من رؤساء عشائر ذلك السبط ، وكانت خيامهما قريبة من خيمة قورح . وسرعان ما رحب ذانك الرئيسان بالاشتراك مع قورح في خطته وطموحه . فلكونهما من سبط رأوبين أكبر بني يعقوب ادعيا أن لهما الحق في السلطة المدنية كما عزما على مقاسمة قورح أمجاد الكهنوت . AA 348.2

كان الشعور السائد بين الشعب محبذا لخطة قورح ، ففي مرارة خيبتهم عادت إليهم شكوكهم الماضية وحسدهم وبغضتهم فعادوا يشتكون من قائدهم الصبور . وكان الإسرائيليون ينسون دائما حقيقة كونهم تحت قيادة الله ، كما نسوا أن ملاك العهد هو قائدهم غير المنظور، و أن وجه المسيح الذي كان محتجبا خلف عمود السحاب كان يسير أمامهم ، وإن موسى كان يتلقى منه كل الإرشادات والتعليمات . AA 348.3

رفضوا الإذعان لذلك الحكم الرهيب الذي كان يقضي بموتهم جميعا في البرية . ولذلك فقد كانوا على أتم استعداد للتعلل بأية حجة يثبتون بها أن موسى هو الذي كان يقودهم وليس الله ، و أن موسى هو الذي نطق عليهمم بحكم الهلاك ، فلم تفلح أفضل المساعي التي قد بذلها أعظم الناس وداعة وعلما على وجه الأرض (موسى) في إخماد ثورة الشعب ومع أن آثار غضب الله عليهم بسبب تمردهم السابق كانت لم تزل ترى في تناقص عددهم بهلاك جماعة كبيرة منهم فإنهم لم يتعظوا من ذلك كله ، ومرة أخرى انهزموا أمام التجربة . AA 349.1

إن سني رعاية الغنم المتواضعة التي سبق أن قضاها موسى كانت سني سلام وسعادة بالقياس إلى مركزه الحالي كقائد لذلك الشعب الغفير الثائر المشاكس ، ومع ذلك فإن موسى لم يكن يجرؤ على أن يختار لنفسه ، فبدلا من عصا الراعي أعطيت له عصا قوة وسلطان ، وما كان يستطيع أن يلقي بها جانباً حتى يعفيه الله من خدمته . AA 349.2

إن ذاك الذي كل أفكار القلوب مكشوفة أمامه كان يلاحظ نوايا قورح وجماعته ، وكان قد قدم لشعبه إنذرات وتوجيهات تكفل لهم النجاة من مخادعات أولئك القوم المتآمرين . فرأوا قضاء الله الذي حكم به على مريم بسبب حسدها لموسى وشكواها عليه . لقد أعلن الرب أن موسى أعظم من نبي ( فما إلى فم وعيانا أتكلم معه ) ثم قال مخاطبا هارون ومريم ( فلماذا لا تخشيان أن تتكلما على عبدي موسى ؟ ) (عدد 12 : 8) فهذه التعليمات لم يكن المقصود بها هارون ومريم وحدهم بل كل إسرائيل . AA 349.3

إن قورح وشركاءه في المؤامرة كانوا رجالا أكرمهم الله بمشاهدة إعلانات خاصة لقدرته وعظمته . لقد كانوا بين تلك الجماعة التي صعدت مع موسى إلى الجبل ورأت مجد الله .ولكن منذ ذلك الحين حدث تغيير ، فقد هاجمتهم تجربة طفيفة في بدئها فأذعنوا لها ، ثم قويت واشتدت إذ وجدت تشجيعا ومعاضدة إلى أن تسلط الشيطان على تفكيرهم ثم جاهروا بنفورهم وسخطهم . وإذ ادعوا أنهم مهتمون بنجاح الشعب أعظم اهتمام جعلوا يعبرون عن سخطهم فيما بينهم أولا ثم لرجال من ذوى المكانة في إسرائيل ، فوجدت دسائسهم ترحيبا عظيما إلى حد جرأهم على التمادي في شرهم . أخيرا اقتنعوا أن غيرتهم لله هي التي دفعتهم إلى ذلك . AA 349.4

وقد أفلحوا في اجتذاب مئتين وخمسين رجلا من مشاهير الرجال في إسرائيل إلى جانبهم . وبانضمام أولئك الرجال المناصرين الأقوياء ذوي النفوذ العظيم إلى صفهم صاروا واثقين من إحداث تغيير جوهري في الحكم ، وتحسين ملحوظ في سياسة موسى وهارون . AA 350.1

لقد ولدت الغيرة حسدا والحسد ولد تمردا وعصيانا . فجعلوا يتناقشون في مسألة حق موسى في السلطان والكرامة اللذين كان يتمتع بهما ، إلى أن حكموا أنه يحتل مركزا مرموقا يحسد عليه ، وأنه كان يمكن أي واحد أن يشغل ذلك المركز عن جدارة مثله ، فخدعوا أنفسهم وخدعوا بعضهم البعض بفكرة كون موسى وهارون قد احتلا هذا المركز بنفسهما ولم يتسلماه من الله . قال أولئك القوم الساخطون أن هذين القائدين استعليا على جماعة الرب إذ استقلا بالكنهوت والحكم ، مع أن عائلتهما لم يعط لها أي امتياز على غيرها من العائلات في إسرائيل ، ولم يكونا أقدس من باقي أفراد الشعب ، وأنه ينبغي لهما أن يقنعا بأن يكونا في مستوى باقي أخوتهما الذين كانوا يتمتعون مثلهما بحضور الله وحراسته الخاصة . AA 350.2

أما العمل الآخر الذي قام به أولئك المتآمرون فكان مع الشعب ، لأن الذين هم في خطأ ويستحقون التوبيخ لا شيء يسرهم أكثر من مدحهم والشعور معهم ، وهكذا ظفر قورح وجماعته باهتمام الشعب ومعاضدتهم ، فأعلن المتآمرون أن البلاغ القائل بأن تذمرات الشعب هي التي جلبت عليهم غضب الله هو بلاغ خاطئ ، كما قالوا إن الشعب لم يكن مخطئا إذ أنهم لم يطلبوا شيئا من حقوقهم ، ولكن موسى حاكم متصلف وهو الذي وبخ الشعب قائلا إنهم قوم خطاة في حين أنهم شعب مقدس والرب في وسطهم . AA 350.3

استعاد قورح تاريخ رحلاتهم في البرية حيث جيء بهم إلى مسالك وعرة عسرة ، وهلك كثيرون من الشعب بسبب تذمرهم وعصيانهم ، فتراءى لسامعيه أنه كان يمكنهم تجنب متاعبهم لو كان موسى قد سار بهم في طريق آخر ، وحكموا بأنه كان السبب في كل مصائبهم ، وأن حرمانهم من دخول كنعان كان بسبب سوء إدارة موسى وهرون ، وأنه لو كان قورح هو القائد وشجعهم ، بأن وجه الأنظار إلى أعمالهم الصالحة بدلا من توبيخهم على خطاياهم لكانت رحلتهم أضحت رحلة سلام ونجاح ، وعوض الجولان هنا وهناك في القفر كانوا ساروا مباشرة إلى أرض الموعد . AA 350.4

وفي هذا العمل ، عمل الإثارة والتنفير كان بين العناصر الناقمة وسط الجماعة اتحاد أوثق وانسجام أكمل مما حدث من قبل . و قد كان من نتائج نجاح قورح في استمالته الشعب إلى جانبه أن زادت ثقته وثبتت اقتناعه بان اغتصاب موسى للسلطة إن لم يوقف عند حده سيقضي على حريات إسرائيل ، وادعي أيضا أن الله كشف له الأمر وفوض إليه أمر أحداث تغيير في نظام الحكم قبلما يتفاقم الشر ويكون قد مضى وقت الإصلاح . ولكن كثيرين لم يكونوا مستعدين لقبول الاتهامات التي وجهها قورح إلى موسي . لأن ذكرى جهوده التي تجلى فيها الصبر والتضحية قد ظهرت بجلاء أمامهم فثارت ضمائرهم . ولذلك كان من الضروري البحث عن باعث أناني كان الدافع لاهتمامه العميق بإسرائيل ، فعادوا يكررون التهمة القديمة من أنه أخرجهم ليهلكهم في البرية لكي يستولي على أملاكهم . AA 351.1

كان هذا العمل يجري في الخفاء لمدة من الزمن ، ولكن لما اشتد ساعد هذه الحركة وكسبت أنصارا أقوياء لضمان انفجار علني ظهر قورح على رأس الفتنة واتهم موسى وهارون جهارا بأنهما قد اغتصبا السلطة التي كان قورح ورفاقه يستحقونها مثلهما ، كما اتهمهما أيضا بأنهما قد جردا الشعب من حريتهم واستقلالهم . فلقد قال لهما أولئك المتآمرون : ( كفاكما ! إن كل الجماعة بأسرها مقدسة وفي وسطها الرب . فما بالكما ترتفعان على جماعه الرب ؟ ) (انظر سفر العدد 16) . AA 351.2

لم يكن موسى مشتبها في هذه المؤامرة المحكمة ، فلما برق في ذهنه مغزاها الرهيب سقط على وجهه في ضراعة صامته إلى الله ، ثم نهض في حزن عميق ، ومع ذلك فقد كان هادئا وقويا ، وإذ حصل على أرشاد إلهي قال : ( غدا يعلن الرب من هو له ، ومن المقدس حتى يقربه إليه . فالذي يختاره يقربه إليه ) فأرجئ الامتحان إلى الغد حتى يكون لدى الجميع متسع من الوقت للتفكير والتأمل . وحينئذ يأتي أولئك الذين يرغبون في الكهنوت ومع كل منهم مجمرته ويقربون بخورا لدى خيمة الاجتماع أمام كل الجماعة . لقد كانت الشريعة واضحة جدا ، وهي تقول أولئك الذين قد كرسوا لتلك الوظيفة المقدسة هو وحدهم الذين يجب أن يخدموا في المقدس ، بل إن نفس الكاهنين ناداب وأبيهو هلكا لأنهما تجاسرا فقربا ( نارا غريبة ) مزدرين بأمر الله هذا ، وها هو موسى يتحدى المشتكين عليه بأنهم إذا كانوا يتجرأون على الدخول في هذه الدعوى الخطرة عليهم أن يتقدموا بها إلى الله . AA 351.3

وقد وجه موسى كلامه إلى قورح ورفاقه من اللاويين بنوع خاص فقال لهم : ( أقليل عليكم أن إله إسرائيل أفرزكم من جماعة إسرائيل ليقربكم إليه لكي تعملوا خدمة مسكن الرب ، وتقفوا قدام الجماعة لخدمتها ؟ فقربك وجميع إخوتك بني لاوى معك ، وتطلبون أيضا كهنوتا ! إذن أنت وكل جماعتك متفقون على الرب . وأما هارون فما هو حتى تتذمروا عليه ؟ ) . AA 352.1

أما داثان وأبيرام فلم يكونا قد اتخذا موقفا جسورا مثل قورح ، وإذ كان موسى يظن ويرجو إنهما قد اندمجا بين المتآمرين دون أن يكونا قد فسدا تماما استدعاهما للمثول أمامه ليسمع شكواهما عليه ، ولكنهما أبيا الذهاب وبكل وقاحة رفضا الاعتراف بسلطته ، بل أجاباه على مسمع من كل الجماعة قائلين ( أقليل أنك أصعدتنا من أرض تفيض لبنا وعسلا لتميتنا في البرية حتى تترأس علينا ترؤسا ؟ كذلك لم تأت بنا إلى أرض تفيض لبنا وعسلا ، ولا أعطيتنا نصيب حقول وكروم . هل تقلع أعين هؤلاء القوم ؟ لا نصعد ! ) . AA 352.2

وهكذا وصفا مشهد عبوديتهم بنفس الوصف الذي وصف الرب به الميراث الموعود به ، واتهما موسى بإيهام الشعب أنه يعمل بموجب إرشاد الله متخذا من ذلك ذريعة لتثبيت سلطانه هو ، وأعلنا أنهما لن يعودا للخضوع والانقياد وراءه كالعميان ، فمرة يسير بهم إلى كنعان ومرة أخرى يعود بهم إلى البرية حسبما يتفق وأغراضه وطموحه . وإلى هذا الحد نرى أن ذلك الذي كان كالأب الرفيق والراعي الصبور يوصف باقي الأوصاف كما لو كان مغتصبا أو طاغية مستبدا . ثم أن حرمانهم من كنعان قصاصا لهم على خطاياهم قد اتهموا به موسى . AA 352.3

وكان واضحا أن الشعب مال إلى جانب حزب الساخطين على موسى ، إلا أنه لم يبذل أي جهد لتزكية نفسه ، بل بكل وقار رفع الأمر إلى الله في محضر الجماعة كلها ليشهده على طهارة بواعثه واستقامة تصرفاته ، وتوسل إليه أن يكون قاضيا له . AA 352.4

وفي غداة اليوم التالي تقدم المئتان والخمسون رجلا وعلى رأسهم قورح ومثلوا أمام الرب ومجامرهم في أيديهم ، فجيء بهم إلى دار خيمة الاجتماع ، أما الشعب فتجمهروا خارجا في انتظار النتيجة . لم يكن موسى هو الذي حشد الجماعة ليجعلهم شهودا على هزيمة قورح وجماعته ، ولكن أولئك المتمردين في وقاحتهم وغطرستهم العمياء هم الذين جمعوا الشعب ليكونوا شهودا على انتصارهم . وقد جاهر كثيرون من الشعب بمناصرتهم لقورح وكانت آمالهم قوية أنه سينتصر على هارون . AA 352.5

فإذا اجتمعت الجماعة هكذا أمام الرب ( تراءى مجد الرب لكل الجماعة ) وأنذر الله موسى وهارون قائلا : ( افترزا من بين هذه الجماعة فاني أفنيهم في لحظة ) ولكنهما خرا على وجهيهما وصليا قائلين : ( اللهم ، إله أرواح جميع البشر ، هل يخطئ رجل واحد فتسخط على كل الجماعة ؟ ) . AA 353.1

أما قورح فكان قد انسحب من بين الجماعة لينضم إلى داثان وأبيرام ، بينما ذهب موسى ومعه الشيوخ السبعون ليقدم آخر إنذار لذينك الرجلين اللذين أبيا المجيء إليه ، وقد تبعته الجماعة . وقبلما قدم رسالته أمر موسى الشعب بموجب إرشاد الله قائلا : ( اعتزلوا عن خيام هؤلاء القوم البغاة ، ولا تمسوا شيئا مما لهم لئلا تهلكوا بجميع خطاياهم ) فانصاع الشعب للأمر إذ قد شمل الجميع الخوف من أن تحل بهم الدينونة ، ووجد زعماء العصاة أن أولئك الذين انخدعوا بأقوالهم قد هجروهم الآن ، ومع ذلك فلم يتزحزحوا عن موقف العداء الذي تشبثوا به ، فوقفوا مع عائلاتهم في أبواب خيامهم كما لو كانوا يتحدون إنذار الله . AA 353.2

وأعلن موسى بإسم الرب إله إسرائيل في مسامع الجماعة قائلا : ( بهذا تعلمون أن الرب قد أرسلني لأعمل كل هذه الأعمال ، وأنها ليست من نفسي . إن مات هؤلاء كموت كل إنسان ، وأصابتهم مصيبة كل إنسان ، فليس الرب قد أرسلني . ولكن إن ابتدع الرب بدعة وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل ما لهم ، فهبطوا أحياء إلى الهاوية ، تعلمون أن هؤلاء القوم قد ازدروا بالرب ) . AA 353.3

وكانت كل أنظار شعب إسرائيل متجهة إلى موسى في رعب وهم يتوقعون حدوث تلك الكارثة . فلما فرغ من الكلام انشقت الأرض الصلبة وهبط أولئك المتمردون أحياء إلى الهاوية وكل ما لهم ( فبادوا من بين الجماعة ) وقد هرب الشعب إذ حكموا على أنفسهم أنهم قد شاركوهم في خطيتهم . AA 353.4

ولكن أحكام الرب لم تنته بعد فقد سقطت نار من السحابة وأهلكت المئتين والخمسين رئيسا الذين قدموا البخور . إن هؤلاء الرجال إذ لم يكونوا في طليعة المتمردين لم يهلكوا مع رؤساء المتآمرين ، وقد سمح لهم أن يروا نهاية المتمردين لتكون لهم فرصة للتوبة ، إلا أنهم شاركوا العصاة في شعورهم فشاركوهم في مصيرهم . AA 353.5

إن موسى حين كان يتوسل إلى الشعب لكي يهربوا من الهلاك الآتي كان يمكن أن يمنع الرب وقوع الدينونة حتى وقتئذ لو أن قورح وجماعته تابوا والتمسوا الغفران غير أن إصرارهم وعنادهم ختم على هلاكهم . إن الجماعة كلها كانت شريكة لهم في ذنبهم لأن الجميع حنوا عليهم ، إن كثيرا أو قليلا ، إلا أن الله في رحمته العظيمة ميز بين من قادوا الجماعة إلى التمرد وبين باقي الشعب ، فأولئك الذين قد غرر بهم أعطيت لهم فرصة للتوبة ، وقدم برهان عظيم على أنهم كانوا على خطأ وأن موسى كان مصيبا . إن ذلك المظهر العظيم مظهر قدرة الله قضى على كل شك . AA 354.1

إن يسوع ، الملاك 1 الذي سار أمام العبرانيين أراد أن يخلصهم من الهلاك . لقد كان الغفران ينتظرهم ، فاقترب قضاء الله منهم جدا وطلب منهم أن يتوبوا ، وتدخلت السماء بكيفية خاصة وفعالة وأوقفتهم عن التردد ، فلو أنهم استجابوا لتدخل عناية الله لأمكنهم أن يخلصوا ، ولكن مع أنهم هربوا من تلك الأحكام خوفا من الهلاك إلا أنهم لم يتخلصوا من عصيانهم . لقد عادوا إلى خيامهم في تلك الليلة مرتعبين ولكن غير تائبين . AA 354.2

لقد تملقهم قورح وجماعته إلى أن اعتقدوا اعتقادا راسخا إنهم قوم صالحون جدا وأن موسى قد ظلمهم وأساء إليهم . فلو أنهم اعترفوا بأن قورح وجماعته كانوا مخطئين وأن موسى كان على حق فلا بد لهم من الاعتراف بأن الحكم عليهم بالموت في البرية هو كلام الله ، لكنهم لم يريدوا الخضوع لهذا الحكم وحاولوا إقناع أنفسهم بأن موسى قد خدعهم . وقد داعب أنفسهم بعض الأمل في أنه سيقام قريبا نظام جديد فيه يسمعون كلام المديح بدل التوبيخ والتعنيف ، وتأخذ الراحة مكان القلق والنزاع . إن أولئك الذين هلكوا كانوا يتملقون الشعب وأعلنوا أنهم يحبون تلك الجماعة وأنهم مهتمون بخيرها ، فاستنتج الشعب أن قورح وجماعته هم ولا شك قوم صالحون ، وأن موسى بوسيلة من الوسائل تسبب في هلاكهم . AA 354.3

إنه من الصعب أن يوجه الناس إلى الله إهانه أعظم من كونهم يزدرون الوسائل التي يستخدمها لخلاصهم ويرفضونها . ولم يكتف الإسرائيليون بفعل هذا ، بل اقترحوا قتل موسى AA 354.4

1 — الكلمة )ملاك) هنا من أسماء المسيح كما جاء في خروج 23 : 20 — 23 ، حيث دعي قائد الشعب )ملاكاً) و هذا القائد نفسه قد دعي في 1 كورنثوس 10 : 4 )المسيح) . غير أن هذا لا يعني أن المسيح كان ملاكاً ، بدليل قوله تعالى )لأن اسمي فيه( . وهارون . ومع ذلك فإنهم لم يتحققوا من لزوم طلب الغفران من الله عن خطيتــهم الشنيعة . وفى ليلة المهلة تلك لم ينصرفوا إلى التوبة والاعتراف بل إلى اختراع وسيلة لمقاومة البراهين التي دلت على أنهم شر الخطاة . كانوا لا يزالون يضمرون الكراهية لذينك الرجلين اللذين قد أقامهما الله وتشددوا لمقاومة سلطتهما . وكان الشيطان قريبا منهم مستعدا لإفساد تفكيرهم وجرهم وهم معصوبو العيون إلى الهلاك . AA 354.5

لقد هرب كل إسرائيل مذعورين حين سمعوا صرخات الهالكين وهم يهبطون إلى الهاوية ، نهم قالوا ( لعل الأرض تبتلعنا ) ( فتذمر كل جماعة بني إسرائيل في الغد على موسى وهارون قائلين : أنتما قد قتلتما شعب الرب ) وكانوا موشكين على أن يعتدوا على ذينك القائدين الأمينين المضحيين . AA 355.1

وظهر مجد الله في السحابة فوق خيمة الاجتماع وسمع من السحابة صوت يقول لموسى وهارون ( اطلعا من وسط هذه الجماعة ، فإني أفنيهم بلحظة ) . AA 355.2

إن جرم الخطية لم يستقر على موسى ولذلك لم يكن خائفا ، و لا سارع إلى ترك الجماعة لكي تهلك ، ولكنه تريث في أثناء تلك الأزمة المخفية ، مظهرا اهتمام الراعي الأمين بالقطيع الذى تحت رعايتة ، وقد توسل إلى الله ألا يهلك بغضبه ذلك الشعب الذي اختاره . وبفضل تلك التوسلات كف يد الله عن الانتقام حتى لا يقضي الرب قضاء كاملا على شعب إسرائيل العصاة المترددين . AA 355.3

إلا أن رسول النقمة كان قد خرج فابتدأ الوبأ والموت في أثره ، وحسب تعليمات موسى أخذ هارون مجمرة وأسرع إلى وسط الجماعة ( ليكفر عنهم ) ( ووقف بين الموتى والأحياء ) وفيما كان البخور يصعد ارتفعت معه صلوات موسى من خيمة الاجتماع إلى الله فامتنع الوبأ . ولكن أربعة عشر ألفا من بني أسرائيل كانوا قد ماتوا برهانا على شر التذمر والعصيان . AA 355.4

غير أن برهانا آخر قد أعطي للدلالة على أن الكنهوت قد تثبت في عائلة هارون . ووفقا لأمر الرب أعد كل سبط عصا وكتب عليها اسم السبط . وقد كتب اسم هارون على عصا سبط لاوي . ثم وضعت العصى فى خيمة الاجتماع ( أمام الشهادة ) فإذا أزهرت أي عصا كان ذلك دليلا على أن الرب قد اختار ذلك السبط للكنهوت . وفي الصباح التالي ( وإذا عصا هارون لبيت لاوي قد أفرخت . أخرجت فروخا وأزهرت زهرا وأنضجت لوزا ) (انظر سفر العدد 17) فأخرجت العصا ليراها الشعب . وبعد ذلك وضعت في الخيمة كعلامة أمام الأجيال اللاحقة ، وقد حسمت هذه الأعجوبة ، بكيفية فعالة ، النزاع حول الكهنوت . AA 355.5

لقد ثبت الآن بكل وضوح أن موسى وهارون كانا يتكلمان بسلطان إلهي . واضطر الشعب إلى تصديق الحق الذي لم يكونوا يحبونه وهو أنه لا بد أن تسقط جثثهم ويموتوا في البرية . فصرخوا قائلين : ( إننا فنينا وهلكنا . قد هلكنا جمعيا ) واعترفوا بأنهم قد أخطأوا بتمردهم على قادتهم ، وأن قورح وجماعته قد هلكوا بموجب حكم الله العادل . AA 356.1

وفي عصيان قورح نجد نتائج عمل نفس الروح التي دفعت الشيطان إلى التمرد على الله فى السماء ، وإن يكن فى مجال أضيق . إن الكبرياء والطموح هما اللذان ساقا لوسيفر إلى التذمر على حكم الله والسعس إلى تقويض النظام الذى شمل السماء . ومنذ سقط جعل هدفه أن يبث نفس روح الحسد والتذمر ، نفس الطموح إلى التعالي وحب الكرامة (الجاه) فـــي أذهان بنى الإنسان . وهكذا ملأ عقول قورح وداثان وأيرام وأثار في نفوسهم الشوق إلى تعظيم أنفسهم كما أثار فيهم الحسد والشكوك والعصيان . فالشيطان هو الذي جعلهم يرفضون قياده الله لهم لكونهم رفضوا الرجلين المعينين منه تعالى . ومع ذلك فإذ كانوا في تذمرهم على موسى وهارون يجدفون على الله فقد كانوا مخدوعين حيث كانوا يظنون أنفسهم أبرارا ، ويعتبرون أولئك الذين كانوا يوبخونهم بكل أمانة وإخلاص على خطاياهم ، إنهم إنما يفعلون ذلك مدفوعين بتحريض الشيطان . AA 356.2

ولكن ألا توجد في هذه الأيام تلك الشرور نفسها التي كانت سبب هلاك قورح ؟ الكبرياء والطموح متفشيان في كل مكان . وحينما يبقى الإنسان على هاتين الخطيتين فإنهما تفسحان المجال أمام الحسد والسعي إلى التعالي والتفوق ، فتبتعد النفس عن الله وبدون أن تشعر تنضم إلى صف الشيطان . وكما كان قورح ورفقاؤه ، كذلك سيكون كثيرون ممن يعترفون بأنهم أتباع المسيح .هؤلاء الناس يفكرون ويرسمون الخطط ويعملون بكل غيرة وشوق لأجل تعظيم أنفسهم حتى في سبيل الظفر بعطف الناس ومعاضدتهم يكونون مستعدين لإفساد الحق وتكذيب خدام الرب وتشويه سمعتهم والتشهير بهم ، بل ويتهمونهم بأنهم مدفوعون في أعمالهم ببواعث أنانية منحطة تستثر قلوبهم . وبإصرارهم على ترويج الأكاذيب في مواجهة كل البراهين والأدلة التي تدينهم ، ينتهي بهم الأمر إلى اعتبار الكذب حقا وصدقا . وفيما هم يحاولون هدم ثقة الشعب في الرجال الذين أقامهم الله يعتقدون أنهم إنما يقومون بعمل صالح يخدمون به الله . AA 356.3

إن العبرانيين لم يكونوا راغبين في الاعتراف بمطاليب الرب ونواهيه ، بل كانوا يتبرمون بكل رادع ويرفضون كل توبيخ . وقد كان هذا سر تذمرهم على موسى . فلو كانت لهم الحرية ليحملوا ما يشتهون لقل تذمرهم على قائدهم . إن خدام الله ، طوال أجيال تاريخ الكنيسة ، كانوا يواجهون هذه الروح نفسها . AA 357.1

إن الانهماك الخاطئ في شهوات النفس هو الذي يجعل الناس يفتحون الطريق للشيطان ليغزو عقولهم ، فينحدرون من شر إلى أعظم . إن رفض النور يظلم العقل ويقسي القلب ، ولذلك لا يرون ضيرا في الإيغال في طريق الشر وبالتالي في رفض النور الأكمل حتى تمسي عادة عمل الشر متأصلة فيهم ، فلا يرون الخطية خاطئة جدا ، فالذي يكرز بكلمة الله بأمانة ويدين خطاياهم بكرازته كثيرا ما يصبح هدفا لبغضتهم . ولكونهم غير راغبين في احتمال الآلام والتضحيات التي لا بد منها للإصلاح ، يقاومون خادم الرب ويرفضون توبيخاته إذ يعتبرونها قاسية ولا داعي لها . وكقورح يعلنون أن الشعب لم يخطئوا وأن الموبخ هو سبب كل المتاعب . وإذ يهونون الأمر على ضمائرهم بهذه المخدعات والأكاذيب ، فالحاسدون والساخطون يشتركون معا في بذر بذار المنازعات في الكنيسة ويضعفون أيدى من يرممون أسوارها . AA 357.2

إن كل خطوة خطاها أولئك الذين دعاهم الله ليقودوا الشعب في عمله قد أثارت الشكوك ، وقد أساء الحاسدون والباحثون عن الأخطاء في تمثيل كل عمل عملوه . هكذا كانت الحال في أيام لوثر ووسلي وغيرها من رجال الإصلاح . وهكذا هي الحال اليوم . AA 357.3

إن قورح لم يكن ليسلك في هذا المسلك الوعر لو أنه عرف أن كل الإرشادات والتوبيخات الموجهة إلى إسرائيل كانت أصلا من الله . ولكن كان يمكنه معرفه ذلك ، فلقد قدم الله براهين عظيمة لا تقبل الشك على أنه كان يقود إسرائيل ، غير أن قورح ورفاقه رفضوا النور حتى صاروا عميانا جدا حتى أن أعظم الإعلانات المدهشة عن قدرة الله لم تكن كافية لإقناعهم ، وقد نسبوا ذلك كله إلى وسيلة بشرية أو شيطانية . وهذا هو نفس ما فعله الشعب الذين أتوا إلى موسى وهارون في اليوم التالي بعد هلاك قورح وجماعته قائلين ( أنتما قد قتلتما شعب الرب ) فبالرغم من كل البراهين القوية المقدمة لهم عن سخط أو على مسكلهم ، ففي هلاك الرجال الذين قد خدعوهم تجاسروا على أن ينسبوا أحكام الله إلى الشيطان ، معلنين أنه بفعل قوة الشيطان تسبب موسى وهارون في موت الرجال الصالحين القديسين . هذا هو العمل الذى ختم على هلاكهم . لقد ارتكبوا خطية التجديف على الروح القدس ، وهي الخطية التي بسببها يتقسى القلب ضد تأثير النعمة الإلهية ، لقد قال المسيح : ( ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له ، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له ) (متى 12 : 32) لقد نطق مخلصنا بهذا الكلام حين نسب اليهود أعمال الرحمة التي عملها بقوه الله إلى بعلزبول . إن الله يتصل بالناس بواسطة روحه القدوس . فأولئك الذين يتعمدون رفض هذه الواسطة معتبرين إياها شيطانية يقطعون الربط التي تربط النفس بالسماء . AA 357.4

إن الله يعمل بواسطة إظهار روحه في توبيخ الخاطئ وتبكيته على ذنوبه ، فإذا رفض عمل الله نهائيا فليس هناك ما يستطيع الله أن يفعله للنفس . لقد استخدمت رحمة الله آخر وسيلة ، أما الخاطئ فقد فصل نفسه عن الله وليس الخطية ما تعالج به نفسها . ولم تبق بعد قوه احتياطيه يستطيع بها الله أن يبكت الخاطئ ويجدده . ولقد أمر الله قائلا : ( اتركوه ) (هوشع 4 : 17) وحينئذ ( لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا ، بل قبول دينونة مخيف ، وغيره نار عتيدة أن تأكل المضادين ) (عبرانيين 10 : 26 ، 27) . AA 358.1

* * * * *