الأنبياء والملوك

28/70

الفصل الرابع والعشرون —”هلك لعدم المعرفة“

كانت مراحم الله وإحساناته لبني إسرائيل مشروطة دائماً بطاعتهم. فعندما كانوا حالّين عند سفح جبل سيناء ودخلوا معه في عهد ليكونوا له ”خاصّة من بين جميع لشعوب“ وعدوا بكل وقار أن يسيروا في طريق الطاعة. فقالوا: ”كل ما تكلّم به الرب نفعل“. وعندما أعطيت شريعة الله من فوق جبل سيناء بعد أيام قليلة وأُعطيت لهم تعاليم إضافية على شكل فرائض وأحكام على يد موسى وعد الإسرائيليون ثانية بصوت واحد قائلين: ”كل الأقوال التي تكلّم بها الرب نفعل“. وعند تجديد العهد وتثبيته أجمع الشعب مرة أخرى على إعلان هذا القول: ”كل ما تكلّم به الرب نفعل ونسمع له“ (خروج 19 : 5، 8، 24 : 3، 7). لقد اختار الله إسرائيل شعباً له كما اختاروه ملكاً عليهم. AM 238.1

وقد أعيد تكرار شروط العهد مرة أخرى قرب انتهاء مدة تيهانهم في البرية. كما جدد الذين ظلّوا أمناء عند بعل فغور، على تخوم أرض الموعد نفسها حيث سقط كثيرون صرعى التجربة الماكرة، نذور ولائهم. كما أُنذروا على لسان موسى للحذر من التجارب التي قد تهاجم في المستقبل وأوصوا بكل غيرة ليظلّوا بمنأى عن الأمم المحيطة بهم ويعبدوا الله وحده. AM 238.2

وقد أوصاهم موسى قائلاً: ”فالآن يا إسرائيل اسمع الفرائض والأحكام التي أنا أعلمكم لتعلموها لكي تحيوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي الرب إله آبائكم يعطيكم. لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به ولا تنقصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها .. فاحفظوا واعملوا. لأن ذلك حكمتكم وفطنتكم أمام أعين الشعوب الذين يسمعون كل هذه الفرائض فيقولون هذا الشعب العظيم إنما هو شعب حكيم وفطن“ (تثنية 4 : 1 — 6). AM 239.1

وقد أوصى الله الإسرائيليين بوجه خاص بألا تغيب عن أعينهم وصاياه التي بحفظها ينالون القوة والبركة. فكان كلام الرب لهم على لسان موسى قائلاً: ”إنما احترز وتحفظ نفسك جداً لئلا تنسى الأمور التي أبصرت عيناك ولئلا تزول من قلبك كل أيام حياتك وعلّمها أولادك وأولاد أولادك“ (تثنية 4 : 9). فالمشاهد التي كانت توحي بالرهبة والخوف عند إعطاء الشريعة في سيناء كان ينبغي ألا تُنسى. وكانت التحذيرات المقدّمة للشعب حول التعلّق بالعادات الوثنية التي كانت سائدة في الأمم المجاورة واضحة وصريحة وحاسمة. فقد أوصاهم قائلاً: ”فاحتفظوا جداً لأنفسكم ... لئلا تفسدوا وتعملوا لأنفسكم تمثالاً منحوتاً صورة مثال ما“. ”ولئلا ترفع عينيك إلى السماء وتنظر الشمس والقمر والنجوم كل جند السماء التي قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء فتغتر وتسجد لها وتعبدها“، ”احترزوا من أن تنسوا عهد الرب إلهكم الذي قطعه معكم وتصنعوا لأنفسكم تمثالاً منحوتاً صورة كل من نهاك عنه الرب إلهك“ (تثنية 15 : 16، 19، 23). AM 239.2

وقد تتبع موسى الشرور التي تنجم عن الابتعاد عن فرائض الرب. وإذ أشهد السماء والأرض أعلن أنه إذا كان الشعب بعدما يسكن أمداً طويلاً في أرض الموعد يدخلون طقوس عبادة فاسدة ويسجدون أمام التماثيل المنحوتة ويرفضون الرجوع لعبادة الإله الحقيقي فإن غضب الرب سيشتعل ويسبون ويتشتتون بين الوثنيين. وقد حذرهم منذراً إياهم قائلاً: ”إنكم تبيدون سريعاً عن الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها. لا تطيلون الأيام عليها بل تهلكون لا محالة. ويبددكم الرب في الشعوب فتبقون عدداً قليلاً من بين الأمم التي يسوقكم الرب إليها. وتصنعون هناك آلهة صنعة أيدي الناس خشب وحجر مما لا يبصر ولا يسمع ولا يأكل ولا يشم“ (تثنية 4 : 26 — 28). AM 239.3

فهذه النبوة التي تمّت جزئياً في عهد القضاة، تمّت إتماماً كاملاً وحرفياً في سبي إسرائيل إلى أشور وسبي يهوذا إلى بابل. AM 240.1

لقد حدث ارتداد في الشعب بصورة تدريجية فقد بذل الشيطان من جيل إلى جيل محاولات متكررة ليُنسي الأمة المختارة: ”الوصايا والفرائض والأحكام“ التي وعدوا بحفظها إلى الأبد (تثنية 6 : 1). وقد عرف أنه لو أمكنه حمل الشعب على نسيان الله والسير وراء آلهة أخرى وعبادتها والسجود لها فإنهم لا محالة سيهلكون (تثنية 8 : 19). AM 240.2

لم يحسب عدو كنيسة الله على الأرض حساب طبيعة الرحمة والرأفة التي لله الذي وإن كان ”لن يبرئ إبراء“ إلا أن مجده يتضمن كونه ”إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى ألوف. غافر الإثم والمعصية والخطية“ (خروج 34 : 6، 7). وبالرغم من محاولات الشيطان في تعطيل قصد الله نحو شعبه فقد أعلن الله عن ذاته بكل لطف وشفقة حتى في أحلك ساعات تاريخهم، عندما بدا أن قوات الشر مزمعة أن تحرز الانتصار. وبسط أمام إسرائيل الأمور التي تؤول إلى خير الأمة. لذلك أعلن على لسان هوشع يقول: ”اكتب له كثرة شرائعي فهي تحسب أجنبية“. ”وأنا درجت أفرايم ممسكاً إياهم بأذرعهم فلم يعرفوا إني شفيتهم“ (هوشع 8 : 12، 11 : 3). فقد عاملهم الرب بكل رقة وحنان معلّماً إياهم بواسطة أنبيائه أمراً على أمر وفرضاً على فرض. AM 240.3

فلو أعار إسرائيل التفاتاً لرسائل الأنبياء لكانوا وفّروا على أنفسهم الإذلال الذي حلّ بهم. فلكونهم أصرّوا على الزيغان عن شريعة الله اضطر أن يسمح بسبيهم: ”قد هلك شعبي من عدم المعرفة“، هذه كانت الرسالة التي أرسلها إليهم على لسان هوشع ”لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا .. ولأنك نسيت شريعة إلهك“ (هوشع 4 : 6). AM 241.1

وفي كل عصر نتج عن التعدي على شريعة الله النتيجة ذاتها. ففي أيام نوح عندما انتهكت مبادئ الحق وتأصّل الإثم واستشرى بحيث لم يستطع الله احتماله بعد، خرج قضاء الله يقول: ”أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته“ (تكوين 6 : 7). وفي عهد ابراهيم تحدّى أهل سدوم الله علانية وتحدّوا شريعته وحدث أعقاب ذلك الشر والفساد والانغماس الجامح في الشهوات التي اتّصف بها العالم قبل الطوفان. لقد تجاوز سكّان سدوم حدود صبر الله وهناك اشتعلت ضدّهم نيران انتقامه. AM 241.2

كان الوقت الذي سبق سبي الأسباط العشرة شبيهاً بما كان في سدوم من الشر والعصيان. لقد حُسبت شريعة الله كأنها عبث لا طائل وراءه مما فجّر سيول الإثم ضد الشعب. وقد أعلن هوشع يقول: ”إن للرب محاكمة مع سكان الأرض لأنه لا أمانة ولا إحسان ولا معرفة الله في الأرض. لعن وكذب وسرقة وفسق. يعتنفون ودماء تلحق دماء“ (هوشع 4 : 1، 2). AM 241.3

ولكن النبوات التي أنبأت بالدينونة التي نطق بها كل من عاموس وهوشع صحبتها نبوّات عن المجد العتيد. إلا أن الأسباط العشرة الذين ظلّوا طويلاً سادرين في تمردهم وقساوة قلوبهم لم يعط لهم وعد باسترجاع قوّتهم وسلطانهم السابق كاملاً في فلسطين. وإلى انقضاء الدهر كانوا سيظلون ”تائهين بين الأمم“. ولكن توجد نبوّة نطق بها هوشع قدمت لهم امتياز اشتراكهم في ود سبيهم والرجوع الذي سيشمل شعب الله عند ختام تاريخ الأرض عندما يستعلن المسيح كملك الملوك ورب الأرباب. وقد أعلن النبي أن الأسباط العشرة كانوا: ”سيعقدون أياماً كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة وبلا تمثال وبلا أفود وترافيم“. وقد استطرد النبي وقال: ”بعد ذلك يعود بنو اسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى جوده في آخر الأيام“ (هوشع 3 : 4، 5). AM 242.1

وقد بسط النبي هوشع أمام الأسباط العشرة في لغة رمزية خطة الله في استرجاع البركات التي مُنحت لهم في أيام ولائهم له في أرض الموعد، لكل نفس تائبة تنضم إلى كنيسته على الأرض، وإذ أشار الرب إلى شعبه كمن يسر بأن يمنحهم رحمة أعلن قائلاً: ”هأنذا أتملّقها وأذهب بها إلى البرية وألاطفها وأعطيها كرومها من هناك ووادي عخور باباً للرجاء. وهي تغني هناك كأيام صباها وكيوم صعودها من أرض مصر. ويكون في ذلك اليوم يقول الرب أنك تدعينني وجلي (زوجي) ولا تدعينني بعد بعلي (ربي). وأنزع أسماء البعليم من فمها فلا تُذكر أيضاً بأسمائها“ (هوشع 2 : 14 — 17). AM 242.2

وفي أواخر أيام تاريخ هذه الأرض سيتجدد عهد الله مع شعبه حافظي وصاياه. يقول الله وأقطع لهم عهداً في ذلك اليوم مع حيوان البرية وطيور السماء ودبابات الأرض واكسر القوس والسيف والحرب من الأرض. وأجعلهم يضطجعون آمنين. واخطبك لنفسي إلى الأبد وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم. أخطبك لنفسي بالأمانة لتعرفين الرب. AM 242.3

”ويكون في ذلك اليوم إني استجيب يقول الرب. استجيب السموات وهي تستجيب الأرض. والأرض تستجيب القمح والمسطار والزيت وهي تستجيب يزرعيل. وازرعها لنفسي في الأرض وارحم لورحامة وأقول للوعمي أنت شعبي وهو يقول أنت إلهي“ (هوشع 2 : 18 — 23). AM 243.1

ويكون في ذلك اليوم إن بقية ”شعبي والناجين من بيت يعقوب .. يتوكلون على الرب بالحق“ (إشعياء 10 : 20). ومن ”كل أمة وقبيلة ولسان وشعب سيكون هنالك من يستجيبون بكل سرور للرسالة القائلة. ”خافوا الله وأعطوه مجداً لأنه قد جاءت ساعة دينونته“. وسيرجعون عن كل صنم يربطهم بالأرض. و ”يسجدون لصانع السماء والأرض والبحر وينابيع المياه“. وسيتحررون من كل ما يربكهم ويعيقهم ويقفون أمام العالم بمثابة نصب تذكارية لرحمة الله. وحيث أنهم قد أطاعوا أوامر الله فسيعترف الملائكة والناس أنهم هم الذين ”يحفظون وصايا الله وإيمان يسوع“ (رؤيا 14 : 6، 7، 12). AM 243.2

”ها أيام تأتي يقول الرب يدرك الحارث الحاصد ودائس باذر الزرع وتقطر الجبال عصيراً وتسيل جميع التلال. وأرد سبي شعبي إسرائيل فيبنون مدناً خربة ويسكنون ويغرسون كروماً ويشربون خمرها ويصنعون جنات ويأكلون أثمارها. واغرسهم في أرضهم ولن يُقلعوا بعد من أرضهم التي أعطيتهم قال الرب إلهك“ (عاموس 9 : 13 — 15). AM 243.3