مشتهى الأجيال
توما المشكك
عندما التقى يسوع بالتلاميذ في العلية أول مرة لم يكن توما معهم. لقد سمع الأخبار من الآخرين وقدم له البرهان الكافي على أن يسوع قام ، ولكن الكآبة وعدم الإيمان كانا يملآن قلبه . وعندما أخبره التلاميذ عن الظهورات العجيبة للمخلص المقام ، هذا جعله يغوص إلى عمق أعماق اليأس . فكان يفكر قائلا: إذا كان يسوع قد قام حقا من الأموات فلم يعد هنالك رجاء في إقامة ملكوت أرضي . وقد اعتبر ظهور معلمه للتلاميذ من دونه هو جارحا لغروره . فأصر على عدم الإيمان . ولمدى أسبوع كامل ظل محتضنا تعاسته التي بدت أشد حلوكة بالمقارنة مع رجاء إخوته وإيمانهم. ML 762.1
وفي غضون هذه المدة ظل يردد القول: “إن لم أبصر في يديه أثر المسامير، وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه، لا أؤمن” (يوحنا 20 : 25). لم يرد أن يبصر بعيون إخوته أو يلجأ إلى الإيمان المستند على شهادتهم . لقد أحب سيده حبا عظيما ولكنه سمح للغيرة وعدم الإيمان بأن يسيطرا على عقله وقلبه. ML 762.2
أما الآن فإن عددا من التلاميذ جعلوا العلية المألوفة بيتهم المؤقت ، وعند المساء كانوا كلهم يجتمعون فيها عدا توما . وفي ذات مساء عقد توما العزم على أن يجتمع مع التلاميذ الآخرين . وبالرغم من عدم إيمانه كان عنده أمل ضعيف في أن يكون الخبر السار الذي سمعه صحيحا . فإذ كانوا يتناولون طعام العشاء جعلوا يتحدثون عن البراهين التي قد أوردها لهم المسيح من النبوات ، “فجاء يسوع والأبواب مغلّقة، ووقف في الوسط وقال: سلام لكم! ”. ML 762.3
وإذ التفت إلى توما قال له: “ هات إصبعك إلى هنا وأبصر يدي، وهات يديك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن با مؤمناً”. هذا الكلام برهن على أن يسوع كان عالما بأفكار توما وكلامه . فذلك التلميذ المشكك علم أنه ولا واحد من زملائه رأى يسوع منذ أسبوع ، ولذلك فلا يمكن أن يكونوا قد أخبروا معلمهم بشكوك توما . ولهذا فقد عرف أن الذي أمامه هو سيده وربه. ولم تكن له رغبة وما عادت به حاجة إلى برهان جديد . وقد وثب قلبه فرحا وخر عند قدمي يسوع قائلا: “ربي وإلهي!” (يوحنا 20 : 26 — 28). ML 762.4
قبل يسوع اعترافه ولكنه وبخ عدم إيمانه بلطف قائلا له: “ لأنك رأيتني يا توما آمنت! طوبى للذين آمنوا ولم يروا” (يوحنا 20 : 29). كان يمكن أن يكون إيمان توما مرضيا للمسيح أكثر لو كان قد آمن بناء على شهادة إخوته . ولو أن العالم اليوم يتمثل بتوما فلن يكون هناك من يؤمن للخلاص ، لأن كل من يقبلون المسيح عليهم أن يفعلوا ذلك بناء على شهادة الآخرين. ML 763.1
إن كثيرين ممن يستسلمون للشك يعتذرون قائلين إنه لو كان يعطى لهم البرهان المقدم لتوما من رفقائه لكانوا يؤمنون . ولكنهم لا يدرون أن لديهم ليس ذلك البرهان وحده بل أكثر منه بكثير . إن كثيرين ممن ينتظرون إزالة كل أسباب الشكوك كتوما لن تتحقق رغباتهم . إنهم بالتدريج يمعنون في عدم إيمانهم . فأولئك الذين يعودون أنفسهم رؤية الجانب المظلم ويتذمرون ويشتكون لا يعرفون ما هم صانعون . إنهم يبذرون بذور الشك وسيحصدون حصاد الشك . ففي الوقت الذي يكون فيه الإيمان والثقة جوهريين سيجد كثيرون أنفسهم عاجزين عن أن يرجوا أو يؤمنوا. ML 763.2
إن يسوع في معاملته لتوما يقدم درسا لأتباعه. فمثاله يرينا كيف يجب علينا أن نعامل الضعفاء الإيمان والذين يسمحون للشكوك أن تتسلط عليهم . إن يسوع لم ينهل على توما بالانتهار ولا وبخه ولا اشتبك معه في جدال . ولكنه أعلن نفسه لتلميذه المتشكك . إن توما كان غير معقول البتة في إملاء شروط إيمانه ، ولكن يسوع بمحبته السخية واهتمامه وتقديره نقض كل السياجات . يندر الانتصار على عدم الإيمان بالجدال ، ولكنه على العكس يجعل صاحبه يهب للدفاع عن نفسه ويجد لنفسه سندا وعذرا للآخرين . ولكن دع يسوع فقط في محبته ورحمته يعلن كالمخلص المصلوب ، وحينئذ نسمع ونرى كثيراً من الشفاه العاصية تنطق باعتراف توما قائلة: “ربي وإلهي! ”. ML 763.3