مشتهى الأجيال
يسمر على الصليب
إذ وصل الموكب إلى مكان الإعدام أوثق الأسرى إلى آلات التعذيب. كان اللصان يتصارعان مع من وضعوهما على الصليبين ، أما يسوع فلم تبد منه أية مقاومة . وقد تبعت مريم أم يسوع ابنها إلى جلجثة مستندة على يوحنا ، التلميذ الحبيب . كانت قد رأته مغشيا عليه تحت حمل الصليب وكانت تتوق إلى أن تسند رأسه الجريح بيدها وترطب جبينه الذي طالما استند إلى حضنها . ولكن لم يسمح لها بذلك الامتياز المؤلم . كانت كالتلاميذ لم تزل ترجو أن يظهر يسوع قدرته ويخلص نفسه من أيدي أعدائه . ومرة أخرى غاص قلبها في أعماقها حين ذكرت الأقوال التي فيها أنبأ بالحوادث التي كانت تجري حينئذ . وإذ أوثق اللصان كل إلى صليبه كانت هي تنظر بقلق وعذاب . فهل ذاك الذي وهب للموتى الحياة يسمح بأن يدع نفسه يصلب ؟ وهل يموت ابن الله تلك الميتة القاسية وهل لا بد لها أن تتخلى عن إيمانها بأن يسوع هو مسيا ؟ وهل لابد لها أن تشاهد عاره وأحزانه دون أن يسمح لها حتى بأن تخدمه في ضيقه ؟ لقد رأت يديه ممدودتين على الصليب وقد أتي بالمطرقة والمسامير ، فإذ اخترقت تلك المسامير لحمه الرقيق فإن التلاميذ المحطمي القلوب حملوا أم يسوع بعيدا حتى لا تقع عيناها على ذلك المنظر المفجع القاسي. ML 706.1
لم تبد من المخلص كلمة تذمر أو شكوى ، بل ظل الهدوء والرصانة مرتسمين على وجهه. ولكن العرق كان يتصبب من جبينه . ولم تكن هناك يد مشفقة رحيمة لتمسح عن وجهه عرق الموت ، ولا كلام العطف والولاء الثابت ليثبت قلبه البشري. وإذ كان العسكر يقومون بعملهم المخيف القاسي صلى يسوع لأجل أعدائه قائلا: “يا أبتاه، أغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لوقا 23 : 3). لقد انتقل تفكيره بعيدا عن آلامه إلى خطية معذبيه والجزاء الرهيب الذي يحل بهم . لم يستمطر اللعنات على العسكر الذين عاملوه بمنتهى الخشونة والقسوة . كلا ولا استنزل النقمة على الكهنة والرؤساء الذين كانوا ينظرون ويتفرسون في يسوع المصلوب فرحين بتحقيق أغراضهم ، بل رثى المسيح لهم في جهالتهم وإثمهم ، ولكنه فقط قدم هذا الالتماس عنهم: “أنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”. ML 706.2
لو علموا أنهم إنما كانوا يعذبون ذاك الذي قد أتى لكي يخلص البشرية الساقطة من الهلاك الأبدي ، لاستولى عليهم الندم والرعب ، ولكن جهلهم لم يمح جريمتهم لأنه كان امتيازا لهم أن يعرفوا يسوع ويقبلوه مخلصا لهم . إن البعض منهم كانوا سيكتشفون خطيتهم ويتوبون ويهتدون ، بينما البعض الآخر بسبب قساوة قلوبهم جعلوا استجابة صلاة المسيح لأجلهم أمرا مستحيلا . ومع ذلك ، سواء كان هذا أو ذاك ، فإن مقاصد الله كانت في طريقها إلى الإتمام . وقد صار ليسوع الحق في أن يصير شفيعا للناس عند الآب. ML 707.1
إن صلاة المسيح لأجل أعدائه شملت العالم كله. لقد شملت كل خاطئ عاش أو قد يعيش منذ إنشاء العالم إلى انقضاء الدهر . إن خطية صلب ابن الله تستقر على رؤوس الجميع . والغفران يقدم مجانا للجميع. “من يرِدْ” يمكنه أن يحصل على السلام مع الله ويرث الحياة الأبدية. ML 707.2