مشتهى الأجيال

543/684

أرجل مغسولة

لقد اتصل يهوذا بالكهنة والكتبة مرة ثانية قبل الفصح ، وتعاقد معهم على أن يسلم يسوع إلي أيديهم . ومع ذلك فقد اندمج في وسط التلاميذ كما لو كان بريئا من كل ذنب ومهتما بإعداد كل مطاليب العيد . لم يكن التلاميذ يدرون شيئا عن نوايا يهوذا ، لكن يسوع وحده هو الذي كان مطلعا على خفايا قلبه ، ومع ذلك فلم يشهر به ، بل تاق إلي خلاص نفسه . كان قلب الفادي مثقلا بالحزن عليه ، كما أثقل على أورشليم التي بكى عليها إذ كان محكوما عليها بالهلاك . إن قلبه كان يصرخ قائلا: كيف أتخلى عنك وأقطع الأمل منك ؟ لقد أحس يهوذا بقوة تلك المحبة التي تكتنفه ، فإذ كانت يدا المخلص تغسلان قدما يهوذا المتسختين وتمسحانهما بالمنشفة اختلج قلبه في تلك اللحظة عينها بانفعالات شديدة وكاد يتحرك للاعتراف بخطيته ، لكنه لم يرد أن يتواضع ، بل قسى قلبه فلم يتب ، وعادت إليه البواعث التي كانت قد زايلته إلي حين فتحكمت فيه من جديد . حينئذ تعثر يهوذا حين رأى يسوع يقوم بغسل أرجل تلاميذه . ففكر قائلا إذا كان يسوع قد وضع نفسه إلي هذا الحد فلا يمكن أن يكون هو ملك إسرائيل ، وهكذا ضاع كل أمل في الكرامة العالمية التي يمكن الحصول عليها من مملكة أرضية ، فاقتنع يهوذا بأنه لا يمكنه أن ينال مغنما من اتباعه المسيح . فبعدما رآه يحط من مقامه ، كما ظن ، ثبت على عزمه في التبرؤ منه ، والاعتراف بأنه كان مخدوعا . لقد دخله الشيطان ، فعقد العزم على إتمام العمل الذي كان قد تعاقد مع الأعداء على القيام به وهو تسليم سيده لأيديهم. ML 614.2

إن يهوذا حين اختار مكانه على المائدة حاول أن يضع نفسه في الموضع الأول . والمسيح ، كخادم ، خدمه أول التلاميذ . أما يوحنا الذي كان يهوذا يشعر نحوه بالنفور والمرارة الشديدة فقد ترك للآخر . ولكن يوحنا لم يعتبر ذلك توبيخا أو ازدراء موجها إليه . فإذ لاحظ التلاميذ عمل المسيح تأثروا تأثرا عميقا . ولما جاء دور سمعان بطرس صاح قائلا باندهاش: “يا سيد، أنت تغسل رجليّ!” لقد انسحق قلبه أمام تنازل المسيح . وملأ الخزي وجهه وقلبه لأن أحدا من التلاميذ لم يقم بتلك الخدمة ، فقال له المسيح: “لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد” (يوحنا 13 : 6 و 7). إن بطرس لم يحتمل أن يرى سيده الذي كان يؤمن بأنه ابن الله يقوم بعمل الخدم والعبيد . فثارت نفسه وكل كيانه احتجاجا على هذا الاتضاع . إنه لم يكن يعلم أنه لأجل هذا جاء المسيح إلي العالم . فبكل تشديد قال: “لن تغسل رجليّ أبداً!” (يوحنا 13 : 8). ML 615.1

بكل وقار أجاب المسيح بطرس بقوله: “إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب” (يوحنا 13 : 8). إن هذه الخدمة التي رفض بطرس قبولها كانت رمزا لغسل أسمى وأمجد. لقد أتى المسيح ليغسل القلوب و يطهرها من لوثات الخطية . فإذ رفض بطرس السماح للمسيح بأن يغسل قدميه كان يرفض الاغتسال الأسمى المتضمن في الاغتسال الأدنى . وفي الحقيقة كان يرفض ربه وسيده . إن السماح للسيد بأن يعمل ما يؤول إلي تطهيرنا ليس إذلالا له . إن أصدق وداعة هي أن نقبل بقلوب شاكرة أي تدبير يقدم لأجلنا ، وبكل غيرة نقدم الخدمة للمسيح. ML 615.2

فعندما قال المسيح لبطرس: “إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب” أخضع بطرس كبرياءه وعناده . لم يستطع احتمال فكرة الانفصال عن المسيح ، إذ كان يعتبر ذلك كارثة له أمر من الموت ، “قال له سمعان بطرس: يا سيد، ليس رجليّ فقط بل أيضاً يديّ ورأسي. قال له يسوع: الذي قد اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه، بل هو طاهر كله. وأنتم طاهرون ولكن ليس كلكم” (يوحنا 13 : 9 و 10). ML 615.3