مشتهى الأجيال

371/684

“يكون آخر الكل”

عندما كان المسيح وتلاميذه وحدهم في البيت حين ذهب بطرس إلى البحر دعا التلاميذ الآخرين إليه وسألهم: “بماذا كنتم تتكالمون فيما بينكم في الطريق؟” (مرقس 9 : 33). إن وجود يسوع وسؤاله الذي وجهه إليهم جعل الأمر يبدو أمامهم في نور يختلف اختلافا بينا عما قد رأوه عندما كانوا يتشاورون معا في الطريق . فخجلهم وإدانتهم لأنفسهم جعلاهم يصمتون . كان يسوع قد أخبرهم بأنه سيموت لأجلهم فلذلك كان طموحهم الأناني يختلف اختلافا مؤلما عن محبته المنكرة لذاتها. ML 411.4

وعندما أخبرهم يسوع بأنه سيقتل ويقوم ثانية كان يحاول اجتذابهم إلى التحدث معه عن الامتحان الشديد الذي سيجوز فيه إيمانهم . فلو كانوا مستعدين أن يقبلوا ما أراد هو أن يكشفه لهم لكانوا قد جنبوا أنفسهم كثيرا من الحزن واليأس . وكان يمكن لكلامه أن يجيئهم بالعزاء في حزنهم وخذلانهم . ولكن مع أنه كان قد خاطبهم بكل وضوح عما كان ينتظره فإن تصريحه لهم بأنه بعد قليل سيذهب إلى أورشليم أضرم في نفوسهم الأمل بأن الملكوت مزمع أن يقام . وهذا ما دعاهم إلى التساؤل عمن منهم هو المزمع أن يشغل أعظم مركز . فلما عاد بطرس من البحر أخبره التلاميذ عن سؤال المخلص . وأخيرا تجاسر واحد منهم فوجه إلى يسوع هذا السؤال: “من هو أعظم في ملكوت السموات؟” (متى 18 : 1). ML 412.1

فجمع المخلص تلاميذه حوله وقال لهم: “إذا أراد أحد أن يكون أولاً فيكون آخر الكل وخادماً للكل” (مرقس 9 : 35). كان في هذا الكلام جلال وقوة تأثير عظيمان . ولكن التلاميذ كانوا أبعد ما يكونون عن إدراك ذلك . فهم لم يروا ما قد رآه المسيح . لم يفهموا,طبيعة ملكوت المسيح ، وهذا الجهل كان هو السبب الظاهر لمشاجرتهم . ولكن السبب الحقيقي كان أعمق من ذلك . فلو أوضح لهم طبيعة الملكوت لأمكنه أن يهدئ الخصومة والنزاع إلى حين ولكن ما كان يمكنه أن يمس العلة المتأصلة في قلوبهم . حتى بعدما أعطاهم أكمل معرفة فإن أي تساؤل عن الأفضلية كان لا يمكن أن يثير النزاع مجددا . وهكذا كانت الكوارث تصيب الكنيسة بعد انطلاق المسيح إلى السماء . إن التنازع على المكان الأرفع والأعظم كان من آثار تلك الروح التي بدأت الخصومة والصراع في العوالم العليا والتي أنزلت المسيح من السماء ليموت . لقد رأى أمامه كما في رؤيا لوسيفر “زهرة بنت الصبح” مكللاً بمجد كل الملائكة المحيطين بالعرش، وكانت له أوثق صلة بابن الله. قال لوسيفر: “أصير مثل العلي” (إشعياء 14 : 12، 14). وإن رغبته في تعظيم نفسه هي التي زجت بالخصومة والنزاع في السماء وهي التي طردت جمعا غفيرا من ملائكة الله . لو كان لوسيفر قد رغب حقا في أن يصير مثل العلي لما ترك مكانه المعين له في السماء ، لأن روح العلي تظهر في الخدمة المنكرة لنفسها . لقد كان لوسيفر يرغب في بلوغ مركز الله دون صفاته ، فطلب لنفسه أرفع مكان . وكل مخلوق يتأثر بهذه الروح ويخضع لها يعمل نفس العمل . وبهذه الكيفية لا يكون هنالك مفر من وجود النفور والنزاع والخصام . إن الملك والسلطان يعطى للأقوى . فمملكة الشيطان هي مملكة العنف والقوة ، وكل فرد يعتبر الآخر عقبة في طريق تقدمه أو حجرا يقف عليه ليرتفع إلى مكان أعلى. ML 412.2

بينما كان لوسيفر يتصور أن مساواته لله هي شيء يستحق أن يناله ويحتفظ به فإن المسيح العلي الممجد “أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (فيلبي 2 : 7 و 8). الآن كان الصليب أمامه مباشرة ، أما تلاميذه فقد كانوا مملوئين من محبة الذات وطلب ما للنفس . وهذا هو نفس مبدأ مملكة الشيطان ، وبذلك لم يمكنهم أن يوجدوا في حالة عطف أو تجاوب مع سيدهم أو حتى يفهموا كلامه عندما حدثهم عن اتضاعه لأجلهم. ML 413.1