طريق الحياة
التوبة
كيف يتبرر الإنسان عند الله؟ و كف يتزكى المذنب؟ إنما بالمسيح وحده نصير في وفاق مع الله، و اتساق مع القداسة، و لكن كيف يتسنى لنا أن نأتي إلى المسيح؟ كثيرون يسألون هذا السؤال الذي سأله الجمهور في يوم الخمسين إذ “نخسوا في قلوبهم” فصرخوا قائلين “ماذا نصنع” اعمال ٢ : ٢٧ و أول كلمة أجاب بها القديس بطرس كانت قوله “توبوا” اعمال ٢ : ٣٨، و ما لبث بعد ذلك أن قال في موضع آخر : “توبوا ... و ارجعوا لتمحى خطاياكم” اعمال ٣ : ١٩ SC 15.1
أما التوبة فهي الحزن على الخطية و الإقلاع عنها، و لا يقلع عنها المرء ما لم يتبين شرها و لا يصير تغيير في الحياة ما لم يرجع عنها رجوعًا باتًا SC 16.1
غير أن الكثيرين يخطئون فهم كنه التوبة، فمنهم من يحزن على خطيئة، بل يحاول إصلاح سيرته إصلاحًا خارجيًا، لأنه إنما يخشى أن خطيته قد تجلب عليه خسارة و ألمًا، و لكنه لم يتب توبة بمعنى الكلمة، لأنه إنما يندب الآلام لا الخطية، فشأنه شأن عيسو الذي بعد أن باع البكورية بكى على ضياع بركاتها إلى الأبد، و حاله حال بلعام الذي اقر بذنبه خوفًا على حياته حين رأى الملاك يعترض طريقه و السيف السليل بيده، و لكنه لم يتب عن الخطية و لم يبغض شرّها، لأنه لم يغير قصده و اتجاهه، و هكذا يهوذا الاسخريوطي فبعد أن اسلم سيده اعترف قائلاً “أخطأت إذ أسلمت دمًا بريئًا” فالذي اكرهه على هذا الاعتراف هو شعوره بالإدانة و انتظاره القصاص، لأن العواقب التي لا بد من أن تأتي بها الخطية ملأت نفسه رعبًا و قشعريرة، و أما الحزن العميق على إنكاره ابن الله، و الأسف الشديد على خيانته قدوس إسرائيل، فكانت نفسه بريئة منهما، و فرعون كان كلما حلت به ضربة من الضربات يصرخ قائلاً “أخطأت، حتى إذا ما استجاب الله لصراخه و دعائه عاد إلى عناده و كبريائه، فهؤلاء جميعهم كانوا يحزنون لا بسبب الخطية ذاتها بل خوفًا من عواقبها المؤلمة SC 16.2
و لكن عندما يستسلم الإنسان لتأثير الروح القدس يحيا الضمير، فيأخذ الخاطئ يدرك شيئًا من عمق الناموس و قدسية الشريعة التي هي قاعدة حكم الله في السماء و على الأرض، و يشرق في نفسه “النور الذي ينير كل إنسان” خارقًا إلى الأعماق و كاشفًا خفايا القلب فيتملك فكر الخاطئ الشعور بالتبكيت و الإدانة، ثم يرى بر الله فيعتريه الرعب من الظهور بذنبه و نجاسة قلبه أمام فاحص القلوب و مختبر الكلى، ثم يرى أيضًا محبة الله، و جمال القداسة، و بهجة الطهارة، فيتوق إلى التطهير و إلى استعادة صلته بالسماء SC 16.3
إن الصلاة التي صلاها داود اثر سقطته لتصوّر لنا الحزن الحقيقي بسبب الخطية، فقد كانت توبته خالصة و عميقة، إذ لم تبد منه أية محاولة لتلطيف جرمه أو لاستصغار ذنبه، و لم تكن الرغبة في النجاة من العقاب الذي هدده هي التي أوحت إليه بهذه الصلاة، و إنما داود كان قد أدرك فداحة تعدّيه، و تبين له ما في نفسه من دنس و نجاسة، فابغض الخطية و كرهها، حتى انه، حين صلى، يلتمس فقط الحصول على الغفران بل طلب أيضًا طهارة القلب، فقد كان مشتاقًا إلى بهجة القداسة، توَّاقًا إلى استعادة صلته بالله، كما عبر عن ذلك بقوله : “طوبي للذي غفر إثمه، و سترت خطيته. طوبي لرجل لا يحسب له الرب خطية، و لا في روحه غش” مزمور ٣٢ : ١ و ٢ SC 17.1
“ارحمني يا الله حسب رحمتك، حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ، اغسلني كثيرًا من إثمي و من خطيتي طهرني لأني عارف بمعاصيَّ و خطيتي أمامي دائمًا... طهرني بالزوفا فاطهر، اغسلني فابيض اكثر من الثلج... قلبًا نقيًا اخلق فيّ يا الله و روحًا مستقيما جدّد في داخلي، لا تطرحني من قدام وجهك و روحك القدوس لا تنزعه مني، رد لي بهجة خلاصك و بروح منتدبة اعضدني” مزمور ٥١ : ١ ـ ٣ و ٧ و ١٠ ـ ١٢ SC 17.2
“نجّني من الدماء يا الله اله خلاصي، فيسبّح لساني برّك” مزمور ٥١ : ١٤ SC 17.3
فمثل هذه التوبة ليست في مقدورنا، إنها فوق طاقتنا، و إنما نؤتاها من المسيح الذي إذ “صعد إلى العلاء أعطى الناس عطايا” من بينها عطية التوبة SC 17.4
يخطئ كثيرون فهم هذه الحقيقة فيفشلون في الحصول على المعونة التي يريدها لهم المسيح، إذ يظنون انه ليس في إمكانهم أن يأتوا إليه إلا إذا تابوا أولاً، و أن التوبة هي التي تعدّ لهم السبيل للحصول على الغفران، نعم إن التوبة تسبق الغفران، لأنه لا يشعر بحاجته إلى الغفران إلا كل ذي قلب منكسر و روح منسحق، و لكن هل معنى ذلك انه يجب على الخاطئ ألاَّ يأتي إلى المسيح حتى يتوب أولاً؟ و هل نجعل من التوبة عقبة تحول دون وصول الخاطئ إلى مخلصه؟ SC 17.5
إن الكتاب المقدس لا يعلم أن الخاطئ يجب أن يتوب قبل أن يستجيب لتلك الدعوة التي يناشدها بها المسيح قائلاً : “تعالوا إلي يا جميع المتعبين و الثقيلي الأحمال و أنا أريحكم” متى ١١ : ٢٨، إذ أن القوة التي تقودنا إلى التوبة الحقيقة إنما هي قوة من المسيح، كما أوضح ذلك القديس بطرس للإسرائيليين في قوله : “هذا رفَّعه الله بيمينه رئيسًا و مخلصًا ليعطي إسرائيل التوبة و غفران الخطايا” اعمال ٥ : ٣١، فكما أننا بدون المسيح لا نستطيع الحصول على الغفران كذلك أيضًا لا يمكن الحصول على التوبة بدونه SC 18.1
إن المسيح هو مصدر كل باعث حق، و هو وحده القادر أن يغرس في قلوبنا عداوة للخطية، فكل رغبة، تتولد فينا نحو الحق و الطهارة، و كل ما نحسه من الشعور بذنبنا و اثميتنا إنما هو دليل على أن روحه يعمل فينا SC 18.2
لقد قال المسيح : “و أنا إن ارتفعت عن الأرض اجذب إليَّ الجميع” فيجب أن يعلن المسيح للخطاة مخلصًا يموت عن خطية العالم لأننا، إذ نراه، حمل الله، مرفوعًا على صليب الجلجثة، نأخذ ندرك شيئًا من سر الفداء، فيقتادنا لطف الله إلى التوبة، فالمسيح بموته عن الخطاة أماط اللثام عن حب يفوق الوصف و الإدراك، و كلما تأمل الخاطئ في هذا الحب لان قلبه، و ذابت روحه و انسحقت نفسه فيه SC 18.3
و يحدث أن بعضًا من الناس يستهجنون شر أعمالهم، فيقلعون عنها و هم لا يدرون أن الذي يعمل فيهم و يجذبهم إلى هذا الإصلاح هو المسيح، و لكن الحقيقة هي أن كل مجهود إصلاحي يقومون به عن رغبة خالصة لعمل ما هو حق و صواب إنما هو من تأثير روح المسيح الذي يجتذبهم إليه، إذ يستحث قلوبهم، من حيث لا يشعرون، فتحيا ضمائرهم، و تتغير حياتهم، و إذ يستميلهم المسيح ليلتفتوا إلى الصليب و يروه معلقًا هناك مطعونًا بخطاياهم، تتمكن الوصية من ضمائرهم، فيتجلى لهم شر حياتهم، و تنكشف لهم الخطية المتأصلة في قلوبهم و إذ يدركون شيئًا من بر المسيح و كماله يصيحون قائلين ماهي الخطية حتى يستلزم فداء فرائسها كلّ هذا الاتضاع و كل هذه الآلام لكي لا نهلك بالخطية بل تكون لنا الحياة الأبدية؟ SC 18.4
و قد يقاوم الخاطئ هذه المحبة، و قد يرفض أن ينقاد إلى يسوع، و لكنه إذا لم يقاوم فانه لا بد من أن ينجذب إليه، إذ أن معرفة تدبير الخلاص تقوده إلى الصليب فيأتي إليه نادمًا على خطاياه التي سببت كل هذه الآلام لابن الله الحبيب SC 19.1
إن القوة الإلهية التي تعمل في إحياء الطبيعة هي عينها التي تعمل في قلوب الناس و تخلق فيهم شوقًا و هيامًا إلى ما يفتقرون إليه و ما لا يستطيع العالم أن يمدَّهم به، و روح الله هو الذي يتوسل اليهم أن يلتمسوا فقط الأشياء التي تنيلهم السلام و الراحة، أي نعمة المسيح و بهجة القداسة، فبوسائل مرموقة، و غير مرموقة يسعى مخلصنا دائمًا إلى استمالة عقول الناس من ملذات الخطية غير المشبعة إلى البركات الثمينة التي ينالونها فيه، فاني كل من يلتمس عبثًا أن يرتوي من آبار العالم المشققة يوجه الله دعوته قائلاً : “من يعطش فليأت و من يرد فليأخذ ماء حياة مجانًا” رؤيا ٢٢ : ١٧ SC 19.2
فانتم يا من تتوق قلوبكم إلى ما هو افضل و أسمى مما يعطيكم إياه العالم، اعلموا أن شوقكم هذا هو صوت الله لضمائركم، و اطلبوا إليه أن يمنحكم التوبة، و يعلن لكم المسيح في محبته الفائقة الوصف، و طهارته الكاملة، ففي حياته قد تمثلت المبادئ التي تتلخص فيها الشريعة الإلهية، اعني المحبة لله و المحبة للإنسان، فالمحبة و الرحمة كانتا جوهر حياة يسوع، حتى أننا إذ نراه نتيقن من نجاسة قلوبنا و نلتمس رحمته الغافرة SC 19.3
قد يكون أننا تملقنا انفسنا، كما راود نيقوديموس نفسه، فنظن أن حياتنا مستقيمة، و أن أخلاقنا قويمة فلا نحتاج إلى أن نتذلل أمام الله تذلل احد عامة الخطاة، و لكن متى اشرق في قلوبنا نور المسيح ظهر لنا مدى نجاستنا و اثرتنا و عداوتنا لله، و عندئذ نعرف أن كل أعمالنا ملوثة بل أن أعمال برنا كثوب عدة، و أن دم المسيح وحده كفيل بتطهيرنا من نجاسة الخطية و بتجديد قلوبنا لكي نكون مشابهين لصورته SC 19.4
فان النفس إذ يتخللها شعاع يسير من مجد الله، و قبس ضئيل من طهارة المسيح، يتضح لها في الم ما بها من لوثة و دنس، و تنكشف لها نقائص الصفات البشرية و اعوجاجها، و تتبين ماهي عليه من فساد في الميول و جحود في القلب و نجاسة الشفاه، و هكذا يعرض أمام عيني الخاطئ ما قد قام به من أعمال الخيانة، بنقضه ناموس الله، و تعطيل أحكام الشريعة، مما يجعله في حالة الم و انسحاق تحت تأثير روح الله الفاحص القلوب، و إذ تتجلى صفات المسيح الطاهرة النقية لمثل هذا الخاطئ فانه يمقت نفسه و يكرهها SC 20.1
إن دانيال حين رأى الرسول السماوي، و شهد ما حفه من المجد و البهاء، بدأ يتملكه شعور قوي و إحساس جارف بانه إنسان ناقص و مخلوق ضعيف، و قد وصف هذا المنظر العجيب فقال :“و لم تبق فيَّ قوتي، و نضارتي تحولت فيَّ إلى فساد، و لم اضبط قوة” دانيال ١٠ : ٨، فان النفس التي يمسها الروح على هذا النحو لا بد من أنها تكرو الأنانية، و تعاف محبة الذات، و تنشد، بواسطة بر المسيح، حياة الطهارة التي توائم شريعة الله، و تتفق مع أوصاف المسيح و سجاياه SC 20.2
و كذلك الرسول بولس فانه قال عن أعماله الظاهرية و سيرته الخارجية : “من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم” فيلبي ٢ : ٦، و لكنه عندما تبين طبيعة الناموس الروحية، رأى نفسه خاطئًا، فهو إذ طابق الناموس على حياته مطابقة حرفية ظاهرية، كما يفعل الناس، رأى نفسه بلا لوم، و لكنه حين تأمل في عمق الشريعة المقدسة رأى نفسه كما رآه الله، فانحنى خجلاً و اتضاعًا و اعترف بإثمه و ذنبه قائلاً : “أما أنا فكنت بدون الناموس عائشًا قبلاً، و لكن لما جاءت الوصية عاشت الخطية فمتّ انأ” رومية ٧ : ٩، و هكذا عندما عرف روحانية الناموس ظهرت له شناعة الخطية و بشاعتها، و زايله كل ما كان في نفسه من زهو و افتخار SC 20.3
فالله تعالى، وان كان يرى الذنوب تتفاوت في جسامتها، لا يستصغر خطية ما، مهما صغرت في اعين الناس، لأن حكم الإنسان حكم جزئي ناقص و أما الله فيقدر الأمور على حقيقتها، فالناس يحتقرون السكير مثلاً و ينذرونه بسوء المغبة و المصير، في حين انهم يتغاضون عن زجر أهل الكبرياء و الأنانية و الطمع، و هي الخطايا التي يمقتها الله بنوع خاص، لأنها تنافي طبيعته السمحة و تضاد المحبة الخالصة التي تكوّن جو العالم الذي لم تصل إليه الخطية، فقد يشعر مرتكب إحدى الخطايا الجسيمة بالخزي و العار، و يحس بافتقاره إلى البر و احتياجه إلى المسيح، و لكن المتكبر لا يشعر بحاجة ما، فيحول كبرياؤه دونه و دون المسيح و يحرمه من بركات الخلاص التي جاء يسوع لكي يمنحه إياها SC 21.1
فان ذلك العشار المسكين الذي صلى قائلاً : “ارحمني أنا الخاطئ” لوقا ١٨ : ١٣، اعتبر نفسه شريرًا أثيمًا، و هكذا كان يراه غيره أيضًا، و لكنه شعر بحاجته، فجاء بذنبه و عاره إلى الله، ملتمسًا رحمته تعالى، و فتح قلبه لتأثيرات روح الله القدوس كيما يجدده و يغيره، و سلم نفسه للنعمة القادرة أن تخلصه و تحرّره، و أما الفرّيسي فكانت صلاته مملوءة بروح الزهو و الافتخار، مما دلّ على أن قلبه كان مغلقًا دون تأثير الروح القدس فانه بسبب ابتعاده عن الله لم يستطع أن يشعر بنجاسته، و إذ لم يشعر بحاجته مضى دون أن ينال شيئًا SC 21.2
و إذا تبينت ما انت عليه من إثم و خطية، فلا تنتظر ريثما تصلح ذاتك، و كم من الناس يظنون انهم ليسوا أهلاً لأن يأتوا إلى المسيح. ألعلك تحاول أن تصلح نفسك باجتهادك؟ و “هل يغير الكوشي جلده و النمر رقطه، فانتم أيضًا تقدرون أن تصنعوا خيرًا أيها المتعلمون الشر” ارميا ١٣ : ٢٣، فإنما معونتنا هي من الله فقط، فيجب ألا نتطلع إلى فرص افضل، و يجب ألا ننتظر حتى نصير احسن تطبعًا و تخلقًا، أو اشدّ اقتناعًا و توثقًا، فإننا من انفسنا لا نستطيع أن نفعل شيئًا، بل يجب أن نأتي إلى المسيح كما نحن SC 21.3
فلا يخدعنَّ احد نفسه و يحسب أن الله من فرط محبته و كرم رحمته سيخلص أخيرًا حتى رافضي نعمته. إن الخطية لمرض عضال، لا يدرك SC 22.1
استحالة شفائه إلاّ من نظر إليه في نور الصليب، فعلى الذين يتكلون على رحمة المولى و يقولون انه تعالى من جوده لا يهلك الخاطئ، أن يتأملوا مليًا في الجلجثة، فلأن المسيح لم يجد سبيلاً لخلاص الإنسان من قوة الخطية و نجاستها و لم يكن في إمكانه أن يعيد له الحياة الروحية، فالشركة مع القديسين، الا بهذه التضحية العظمى، أخذ جرم الخطية على نفسه و مات عوضًا عن الخاطئ فتشهد محبة ابن الله و تخبر تضحيته العظمى بفداحة الخطية، وتعلنان أن لا أمل بالنجاة منها و من سلطانها، و لا رجاء بالحصول على حياة أبدية إلا بخضوع النفس للمخلص يسوع خضوعا كاملاً SC 22.2
و يحاول أحيانًا الذين يصرّون على خطاياهم، أن يبرّروا انفسهم بقولهم : “نحن مثل أولئك القوم الذين يدعون مسيحيين، فانهم ليسوا بأفضل منا تضحية و نكرانًا لذواتهم، و ليسوا بأكثر منا حذرًا و تعقلاً، بل هم مثلنا يحبون اللهو و التدلل” و هكذا يتعللون بأخطاء الآخرين، ممن يدعون مسيحيين، و لكن خطايا الآخرين و نقائصهم لا يمكن أن تبرّر إنسانًا، لأن الله لم يعطنا مثالاً بشريًا ناقصًا، و إنما أعطانا ابنه القدوس لكي نتمثل به، فأولئك الذين ينعون على المسيحيين سلوكهم الخاطئ، هم جديرون بان يظهروا في حياتهم سلوكا افضل، و مثلاً أسمى و أنبل، لأنه إذا كانت لديهم فكرة سامية كهذه، بشأن ما يجب أن تكون عليه حياة المسيحي، أفلا تكون خطيتهم اكبر و اعظم، بلى، لأنهم عرفوا الحق و لم يتبعوه SC 23.1
و حذار من أن تؤجل أو تسوّف الإقلاع عن خطاياك، بل عليك أن تبادر إلى طلب تطهير قلبك بواسطة يسوع، فقد اخطأ هذه الحقيقة كثيرون، فحلت بهم الخسارة الأبدية، و لست أطيل الكلام في هذا المقام عن قصر الحياة و عدم تحققنا من نهايتها، فللتأجيل خطر اشد و أدهى مما تتصوّر، لا يفطن إليه الناس كثيرًا، و هو أننا بر كوننا إلى التأجيل، نرفض توسلات روح الله القدوس، و نؤثر أن نبقى في الخطية على أن نسلم انفسنا لله، فمن هنا يتأتى الخطر، ذلك لأن التساهل مع الخطية، مهما بدت لنا صغيرة، يعرضنا لخسارة لا حد لها، فنحن إن لم نقهرها، قهرتنا و أفضت بنا إلى الهلاك SC 23.2
كان كل من آدم و حواء يقنع نفسه، بأن أمرًا يسيرًا كالأكل من الشجرة المنهى عنها لا يمكن أن تترتب عليه نتائج مروعة و عواقب وخيمة، كالتي حذّرهم منها الله، و لكن هذا الشيء اليسير إنما كان اعتداء على ناموس الله، ذلك الناموس الثابت المقدس، و قد أدّى هذا الاعتداء إلى فصل الإنسان عن الله، و تدفق عوامل الموت و الشقاء إلى هذا العالم بكيفية تفوق كل وصف، و منذ ذاك الحين أخذت صيحات الحزن و العويل، تتصاعد من جيل إلى جيل، و صارت الخليقة كلها تئن و تتمخض، نتيجة لتمرّد الإنسان و عصيانه، و لقد شعرت السماء نفسها بنتائج عصيان الإنسان، و شقه عصا الطاعة على الله تعالى، و إن الجلجثة لتذكرنا دائمًا بتلك التضحية العجيبة التي اقتضاها التكفير عن الاعتداء على ناموس الله، فلا يجب أن ننظر إلى الخطية كانها أمر تافه و هين، فان كل ما نأتيه من أعمال التعدّي، و كل ما نبديه من إهمال أو رفض لنعمة المسيح، لا بد من أن يكون له رد فعل في نفوسنا، إذ تتحجر قلوبنا، و تنحط مداركنا، فلا نصبح فقط اقل ميلاً لتلبية دعوة المسيح، بل نصير أيضًا اقلّ مقدرة على الخضوع لروح الله القدوس، و الاستجابة لتوسلاته الرقيقة SC 23.3
غير انه يوجد أناس يحاولون تهدئة ضمائرهم المضطربة بظنهم انهم قادرون على أن يغيروا مسلكهم الشرير متى شاؤوا، و انه في استطاعتهم أن يغيروا مجرى حياتهم حتى بعد استخفافهم بنداءات الرحمة، و إصرارهم على مقاومة روح الله القدوس، و حتى بعد انحيازهم إلى جانب الشيطان، و لكن هذا كله لا يمكن أن يتم بمثل هذه السهولة، إذ تكون أخلاقهم قد تكيفت تمامًا، على مرّ الزمن، بما حصلوا عليه من الاختيار و التدريب، و تشكلت بممارسة العادات و التجاريب، حتى ليتعذر على الكثيرين منهم أن يتقبلوا سمة المسيح SC 24.1
فان أية خصلة من الخصال الخاطئة، أو أية رغبة من الرغبات الآثمة، إذا تركت و شأنها، كافية لان تضعف تأثير الإنجيل، و تبطل مفعوله. و إن كل تساهل نبديه نحو الإثم، من شأنه أن يزيد النفس أعراضًا عن الله و صدودًا عن الحق. فالإنسان الذي تبدو عليه مظاهر الجحود و الكفر، و التبلد و عدم الاكتراث للحق الإلهي، إنما هو يحصد ما قد زرع، و لا يوجد بين دفّتي الكتاب المقدس تحذير يدعونا إلى الخوف من الاستخفاف بالشر مثل قوله : “الشرير تأخذه آثامه، و بحبال خطيته يمسك” امثال ٥ : ٢٢ SC 24.2
إن المسيح على أتم استعداد لتحريرنا من الخطية، و لكنه لا يفرض علينا ذلك جبرًا و قسرًا، فإذا كانت أرادتنا ـ بسبب إصرارنا على الخطية و تمادينا فيها ـ قد أصبحت تميل بكليتها إلى فعل الشرّ، و إذا كنا مصرين على عدم قبول نعمته، فماذا عساه أن يفعل بنا بعد ذلك؟ فنحن إنما نهلك انفسنا بإصرارنا على رفض محبته، “هو ذا الآن وقت مقبول، هو ذا الآن يوم خلاص. فان سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم” SC 25.1
“إن الإنسان ينظر إلى العينين و أما الرب فانه ينظر إلى القلب” ١ صموئيل ١٦ : ٧. نعم، انه ينظر إلى القلب البشري الذي تصطرع فيه شتى العواطف و الأحاسيس، القلب الجائل التائه، المملوء بكل زيف و نجاسة، فيعلم بواعثه و نياته و مقاصده. فتوجه إليه أيها الخاطئ، و اعرض أمامه نفسك بكل ما فيها من تلوث و تلطخ، و اكشف خفاياها أمام عينيه التي ترى كل شيء، و اصرخ مرددًا قول المرنم : “اختبرني يا الله و اعرف قلبي. امتحني و اعرف أفكاري. و انظر إن كان فيّ طريق باطل و اهدني طريقًا أبديا” مزمور ١٣٩ : ٢٣ و ٢٤ SC 25.2
كثيرون يقبلون الدين عقليًا، و يحملون صورة التقوى، في حين أن القلب غير متجدد، فلتكن طلبتك : “قلبًا نقيًا اخلق فيّ يا الله و روحًا مستقيما جدد في داخلي” مزمور ٥١ : ١٠. و لكن كن أمينًا لنفسك، باذلاً كل جد و اهتمام، و تشبّث و إصرار، كما لو كنت مشرفًا على الهلاك، فهذا أمر يجب تسويته، و يجب أن يحل بينك و بين الله تعالى بصفة نهائية لأن التعلق برجاء وهمي يكفي وحده لاهلاكنا SC 25.3
و ادرس كلمة الله بروح الصلاة، فان فيها شريعته، و حياة المسيح، و مبادئ “القداسة التي بدونها لن يرى احد الرب” عبرانيين ١٢ : ١٤، فضلاً عن أنها تقنعنا بالخطية و تعلن لنا طريق الخلاص بوضوح و جلاء، فانتصت لها، باعتبارها صوت الله الذي يخاطب نفسك SC 25.4
و متى أدركت جسامة خطيتك، و تجلت لك نفسك على حقيقتها، فلا تستسلم لليأس و القنوط فإنما لأجل الخطاة فقط قد جاء المسيح من السماء، فيا له من حب فائق العجب! إذ أننا لا نصالح الله، بل هو الذي “كان في المسيح، مصالحًا العالم لنفسه” ٢ كورنثوس ٥ : ١٩، فان الله بحنو و محبة هو الذي يستعطف أولاده الشاردين، ليردهم عن زيغهم و ضلالهم، و ليس من اب بشري يتسع صبره و حلمه لاحتمال غلطات أولاده و أخطاءهم، كما يفعل الله مع الذين يحاول إنقاذهم، و من مثل الله في عطفه و حنوه على الخاطئ الأثيم؟ و هل من شفاه بشرية سكبت هذه التوسلات الرقيقة التي بها يناشد الله الإنسان الضال؟ اجل، إن كل مواعيده و تحذيراته إن هي إلا تنسمات محبته التي لا ينطق بها SC 26.1
عندما يأتي الشيطان و يوسوس إليك انك خاطئ، انك خاطئ جدًا، تطلع إلى فاديك و تحدث عن استحقاقاته، فان التطلع إلى نوره مما يساعدك، ثم اعترف بخطيتك، و اجحد عدو الخير، و قل له : “إن المسيح قد جاء إلى العالم ليخلص الخطاة” ١ تيموثاوس ١ : ١٥. لما سأل المسيح سمعان سؤالاً فيما يختص بمديونين كان احدهما مدينًا بمبلغ زهيد، و الآخر كان مدينًا بمبلغ جسيم جدًا و لكن السيد سامح الاثنين، فأيهما يكون اكثر حبًا لسيده، أجاب سمعان قائلاً : “أظن الذي سامحه بالأكثر” فنحن كنا من أردإ الخطاة، و لكن المسيح مات لكي نوهب الغفران، و إن استحقاقات ذبيحته و تضحيته لتكفي للتشفع فينا أمام الآب، و الذين سامحهم الله بالأكثر سيحبونه اكثر، و سيكونون اقرب الناس إلى عرشه، ليسبحوه على محبته العظمى، و تضحيته التي لا حد لها. فإننا، كلما ازددنا إدراكا لمحبة الله، تحققنا اكثر فاكثر حقيقة الخطية و طبيعتها، و عرفنا أنها خاطئة جدًا، حتى إذا ما أدركنا عمق محبته، و اطلعنا على مدى اتضاعه و مبلغ تضحيته، انفطرت قلوبنا حزنًا و تأسفًا، و ذابت أفئدتنا حنوًا و تعطفًا SC 26.2