طريق الحياة
محبّة الله
تشهد الطبيعة شهادة الوحي بان “الله محبة” فأبونا السماوي هو مصدر الحياة و منبع الحكمة و الوفاء، تأمل مثلاً جمال الطبيعة و عجائبها، و لاحظ ملاءمتها لجميع حاجات الإنسان و الحيوان و لسعادة كل الكائنات، فالشمس و المطر اللذان ينعشان الأرض و يجددان وجهها، و الجبال و البحار، و السهول و الأنهار التي تبهج الأبصار ـ كلها تحدثنا بمحبة صانعها الذي يرزق كل حي في كل آن و مكان. و لقد انشد في ذلك المرنم قائلاً: SC 1.1
عيون الكل لا ترجو سواك
لتمنحهم طعامًا من نداكا
تمدّ يديك نحو الخلق طرًا فتشبع كل حي من رضاكا
SC 2.1
خلق الله الإنسان بارًا سعيدًا، و صنع له الأرض الجميلة خلوًا من كل لعنة، بريئة من كل فساد، أما اللعنة فجلبها التعدي و الموت، فقد ملك بمخالفة أمر الله، ناموس المحبة. غير أن الآلام التي أثمرتها الخطية لم تحل دون إظهار محبة الله، بل ، كما هو مكتوب، “ملعونة الأرض بسببك” أي لأجلك. فما الحسك و الأشواك، متاعب الحياة و صعابها، سوى درجات سلم القداسة و الكمال يستخدمها الله وسائط لرفع الإنسان من وهدة الخطية و إنقاذه من نتائجها الأليمة. فلئن كان العالم قد أضحى خاطئًا أثيما، ليس المعنى أن كل ما فيه محض شقاء و عناء. فالطبيعة لم تزل تحمل رسائل الرجاء و العزاء، إذ أن حسكها تعلوه الأزهار، و أشواكها تكسوها الورود SC 2.2
إن آيات هذه المحبة لمسطورة على كل كم من أكمام الأزهار و على كل ورقة من أوراق الأشجار، معلنة لنا في كل قطرة ماء، و في كل ذرة هباء، و في كل نجم لامع وفي كل كوكب ساطع، و في أناشيد البلابل و أغاريد العصافير ـ كلها تشهد لعناية الله بنا و تعلن رغبته الأبوية في إسعادنا طرًا SC 2.3
غير أن إعلان الطبيعة مع ما فيها من آيات بينات لم يكن كافيا للإنسان لذلك أعطانا الله كلمته التي اعلن فيها صفاته و كمالاته، فحين طلب موسى أن يرى مجد الله، خروج ٣٣ : ١٨ و ١٩، اعلن الله صفاته لموسى بقوله تعالى “الرب الرب اله رحيم و رؤوف، بطيء الغضب و كثير الإحسان و الوفاء، حافظ الإحسان إلى الوف، غافر الإثم و المعصية و الخطية” خروج ٣٤ : ٦ و ٧ ثم بقوله للنبي يونان “لأنه بطيء الغضب و كثير الرحمة” يونان ٤ : ٣، و أيضًا للنبي ميخا “فانه يسر بالرأفة” ميخا ٧ : ١٨. إن هذا هو مجده تعالى SC 2.4
و هكذا عمل الله على اجتذاب قلوبنا إليه بآيات لا تحصى مما في السماء و ما على الأرض، فقد جرّب أن يعلن ذاته لنا في الطبيعة و بانتسابه إلينا بأعزّ روابط القربى و أوثقها، و إن كانت هذه تمثل محبته تمثيلاً مبتورًا، و على رغم ذلك استطاع الشيطان أن يعمي البصائر و الأذهان و أن يجعل الناس ينظرون إلى الله نظرة تخوّف و تهيب، و ييأسون من عفوه و رحمته، و يرون فيه إلهًا قاسيًا لا يرحم و لا يشفق، يحصي على الناس زلاتهم، و يرقب عوراتهم و سيئاتهم و يتربص بهم الدوائر لكي يوقع بهم و ينتقم منهم، فلأجل إزالة هذه النظرة المظلمة، و لكي يعلن لنا محبة الله الفائقة الوصف، جاء يسوع من السماء و حل بين الناس SC 2.5
اجل، من السماء جاء ابن الله ليعلن لنا الآب، لان “الله لم يره احد قط الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبر”، يوحنا ١ : ١٨، و “ليس احد يعرف الآب إلا الابن، و من أراد الابن أن يعلن له” متى ١١ : ٢٧، و حين سأله احد تلاميذه، قائلا، أرنا الآب أجابه “أنا معكم زمانًا هذه مدته و لم تعرفني يا فيليبس، الذي رآني فقد رأى الآب، فكيف تقول انت أرنا الآب” يوحنا ١٤ : ٩ SC 3.1
لقد وصف يوسع رسالته و مهمته على هذه الأرض فقال، “روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق و للعمي بالبصر، و ارسل المنسحقين في الحرية” لوقا ٤ : ١٨، هذا كان عمله، “فجال يصنع خيرًا و يشفي جميع المتسلط عليهم ابليس”، فكم من قرى عمها البر و البرء، و كم من ضياع نالت الشفاء و العافية لأن يسوع كان قد اجتاز في وسطها، فعاد مرضاها و تجنن على صرعاها، و حيثما سار يسوع ابن الإنسان، سارت في ركابه المحبة و الرحمة و الحنان، و كفى شاهدًا على حبه و عطفه انه قد اتخذ طبيعتنا و صار مثلنا في كل شيء ما عدا الخطية، مما شجع الخطاة المنبوذين على الدنو منه و التحدث إليه، و جعل الصغار يلتفون حوله، و يأنسون به و يتفرسون في ما يبدو على محياه من علامات الجد و الاهتمام، و دلائل الحب و الأنغام SC 3.2
لقد حرص يسوع دائمًا على أن يعلن الحق كله، دون أن يكتم منه شيئًا، أو يخشى فيه لومة لائم، و لكنه فعل ذلك بروح المحبة، و كان في مخالطته الناس يوليهم اكبر جانب من عنايته و اهتمامه و يراعي معهم كل ما تقتضيه واجبات اللياقة و اللباقة، فما عامل أحدًا بالغلظة قط، و لا تفوّه بكلمة موجعة، و لا عمل على إيلام مخلوق بدون داع أو موجب، و لا راقب زلات العباد و سقطاتهم، و مع ذلك فانه لم يتردد قط في مكاشفة الناس بالحقيقة في صراحة و شجاعة منذرًا إياهم في ترفق و وداعة SC 3.3
فقد نعى على آلناس نفاقهم، و دان نكرهم و كفراتهم، و لكنه كان دائمًا يمزج تحذيراته و توبيخاته بدموعه و عباراته. و من ذلك انه بكى على أورشليم المدينة التي احبها، مع أنها لم تقبله، و هو الطريق و الحق و الحياة، و للقد عامل قومه بكل رفق و حنان مع انهم رفضوه، فرفضوا بذلك عونهم و خلاصهم، و كان، مع ماله من العزة الربانية و الكرامة الإلهية، ينظر إلى كل مخلوق ينتمي إلى يسرة الله بعين الإكبار و الاعتبار، لأن كل نفس من نفوس العباد كانت حبيبة إليه عزيزة عليه، بل هو كان يتطلع إلى كل إنسان فيرى فيه نفسًا ثمينة قد وكل إليه من السماء أمر تخليصها و إنقاذها SC 4.1
تلك هي صفات المسيح كما تجلت في حياته، وهي بعينها صفات الآب تعالى، فانه منن قلب الله تدفقت المراحم الإلهية لبني البشر بواسطة المسيح، فيوسع الرؤوف العطوف، إنما هو الله قد ظهر في الجسد. ١ تيموثاوس ٣ : ١٦ SC 4.2
و لئن كان يسوع قد عاش و تألم و مات، و صار رجل أوجاع و مختبر الحزن فما ذلك كله إلا لكي يجعلنا شركاءه في الأفراح الأبدية. و هكذا سمح الله تعالى بان ينزل ابنه الحبيب، مملوءًا نعمة و حقًا، من عالم المجد الفائق إلى عالم ملوث بالإثم، و موبوء بالخطية، و إلى ارض قد جللها سواد الموت، و غشتها أشواك اللعنة، بل هكذا سمح الله لابنه الوحيد بان يترك أحضان المحبة الأبوية، و ما يحف به من العبادات الملائكية، لكي يأتي إلى بني البشر حيث هم، محتملاً منهم العار و الهوان، و الكراهية و النكران. و في النهاية مات ميتة المذنبين المجرمين، لأن “تأديب سلامنا عليه و بحبره شفينا” اشعياء ٥٣ :٥ SC 4.3
تطلع إليه و هو في جثسيماني و هو على الصليب فهذا ابن الله القدوس، الذي لم يعمل ظلمًا، و لم يكن في فمه غش، قد ناءت كاهلاه تحت أعباء اللعنة و اثقال الخطية، ثم انظر إليه ثانية، فترى ابن الله الذي كان في اتحاد تام مع الآب، قد اصبح يشعر بتلك العزلة الرهيبة، و الهوة السحيقة التي تفصل الإنسان الخاطئ عن الله، مما جعله يصرخ صرخة متألم متوجع بقوله “الهي الهي لماذا تركتني” ، متى ٢٧ : ٤٦، فان شعوره بفداحة عبء الخطية، و إدراكه لهول جرمها، و إحساسه بانفصام عرى الشركة بين النفس و بين الله كانت الأمور التي عملت على سحق قلب ابن الله الحبيب SC 5.1
على أن هذه التضحية العظمى لم يأتها الابن ليخلق في قلب الآب محبة للإنسان، و لم يقصد بها أن يجعل عند الآب الرغبة في العمل على خلاص الإنسان، كلا، “لأنه هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد” يوحنا ٣ : ١٦. فالكفارة، إذن، لم تكن هي علة المحبة التي احبنا بها الآب، وإنما الآب احبنا فاعدّ لنا الكفارة، و كان المسيح هو الواسطة التي بها سكب الله محبته على عالم قد ضل و هوى، إذ “كان الله في المسيح مصالحًا العالم لنفسه”، ٢ كورنثوس ٥ : ١٩. ففي بستان جثسيماني، و على صليب الجلجثة، تألم الآب مع ابنه، و دفعت المحبة ثمن فدائنا غاليًا SC 5.2
و ليس ادلّ على محبة الآب لنا مما نطق به يوسع نفسه في قوله : “لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لأخذها” يوحنا ١٠ : ١٧. فكأني به يقول : لقد زادت محبة أبي لي و زاد تقديره إياي لكوني قد بذلت حياتي لأجلكم طائعًا مختارًا، و رضيت بان اكون بديلكم و كفيلكم، حاملاً ذنوبكم و موفيًا ديونكم، لأنه بفضل ذبيحتي الفدائية، و أعمالي الكفارية، امكن الله تعالى أن “يكون بارًا و يبرر من هو من الإيمان بيسوع المسيح” رومية ٣ : ٢٦ SC 5.3
لم يستطع أن يفدينا غير ابن الله، إذ لم يقدر أن يعلن الله غير الذي كان في حضنه، الذي وحده استطاع أن يظهر محبته لأنه سبر غورها و بلغ ذراها، و لم يكن ليكفي للتعبير عن محبة الله للبشرية الهالكة تعبيرًا وافيًا إلا الذبيحة اللامتناهية التي قدمها يسوع لفدائنا SC 5.4
“لأنه هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد”، و قد بذله، لا لكي يعيش بين البشر، و يحمل خطاياهم، و يموت ذبيحة عنهم، فحسب، بل وهبه للجنس البشري هبة، فصارت شؤونهم شؤونه، و حاجاتهم حاجاته فالذي هو واحد مع الآب ارتبط بالبشرية ارتباطًا لا تنفصم عراه أبدًا، “فهو لا يستحي أن يدعوهم إخوة” عب ٢ : ١١، لأنه هو ذبيحتنا، بل شفيعنا بل أخونا، يحمل صورتنا كابن الإنسان و هو على عرش الآب، فهو إلى الأبد واحد مع الجنس الذي فداه بدمه، و قد صار ذلك كله لأجل رفع الإنسان من وهدة الخطية و خرابها إلى الاشتراك في فرح القداسة و إلى إعلان محبة الله للعالمين SC 6.1
إن ثمن فدائنا الغالي، أي تضحية أبينا السماوي في بذل ابنه الوحيد لأجلنا، ليدل على المقام الرفيع الذي قد نبلغه في المسيح، فالرسول الملهم، يوحنا الحبيب، إذا أدرك شيئًا من علو محبة الله و عمقها و عرضها، و لم يجد كلمات بها يعبر عن عظم هذه المحبة لجنس هالك، دعا الجميع للتأمل فيها قائلاً “انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله” ١ يوحنا ٣ : ١. فما اعظم مقام الإنسان نتيجة لهذا الفداء. فبنو الإنسان الذين قد صاروا بالمعصية رعايا ابليس يصيرون بالإيمان بذبيحة المسيح الكفارية أبناء الله. يتجسده رفع يسوع شأن البشرية و جعل الخطاة الهالكين في مركز يستحقون فيه اللقب السامي العظيم “أولاد الله” SC 6.2
إن هذه المحبة منقطعة النظير، أن نكون أولادًا لملك السماء. انه لوعد ثمين و عهد كريم، و موضوع يستحق التأمل العميق ـ موضوع محبة الله القدير لعالم لم يحبه. إن لهذه الفكرة، إذا استغرق المرء فيها، قوة على إخضاع النفس، و قدرة على استئسار الذهن لإرادة الله، لأن التأمل في صفات الله، في ضوء الصليب، ليعلن لنا الرحمة و الشفقة و المغفرة، متحدة بالعدالة و البر والقداسة، و ليجلي لنا أثار حب لا حد له، يفوق محبة الأم و حنانها على ولدها التائه الشريد SC 6.3
حب المخلص الورى الفادي
سام يفوق الوصف و الإدراك
فالقلب مشتاق لان يدري
مستقصيا في بحره إذ ذاك عميقه
SC 7.1
نعم سمت محبة الفادى
يا ليت كل الناس يدريها
فتقتفي أثاره طوعا
تابعة كالضأن راعيها فتهتدي
SC 7.2
حب الذي قد مات مصلوبًا
عن اثمنا أسمى من الشكر
مع ذاك قلبي دائمًا يسمو
أن يشكر الفادي مدى الدهر مرنمًا
SC 7.3
حب عظيم واسع سام
يأتي بعاص جاهل مثلي
إلى محب حبه أفضى
إلى عذاب الصلب من اجلي لغبطتي
SC 7.4