الصراع العظيم

144/424

اختيار وسيلة متواضعة

وكان فارل يشتاق من عهد بعيد الى ان يرفع العلم البروتستانتي في مدينة جنيف . فلو أمكنه أن يربح هذه المدينة فقد تصبح مركزا للاصلاح في فرنسا وسويسرا وايطالي ا. فاذ جعل هذا الهد ف نصب عينيه ظل يواصل جهوده حتى ربح كثيرا من المدن والقرى المجاورة . ثم دخل جنيف ومعه رفيق واحد . ولكن لم يُسمح له بان يعظ اكثر من مرتين . وقد حاول الكهنة عبثا أن يقنعوا السلطات المدنية بادانته، فاستدعوه للمثول أمام مجلس اكليريكي، وأتوا هم المجلس يحملون السلاح تحت طيات ثيابهم اذ كانوا ينوون اغتياله . وقد وقف خارج المجلس جمع من الدهماء الشرسين المسلحين بالهراوات والسيوف لكي يتأكدوا من موته إذا امكنه الافلات من المجلس . ومع ذلك فان وجود القضاة والقوة المسلحة أنقذه . في بكور اليوم التالي أخذ هو وزميله ليعبرا البحيرة الى مكان أمين. وهكذا انتهى أول مجهود بذله لتبشير جنيف. GC 258.1

أما المحاولة التالية فقد استخدمت فيها وسيلة متواضعة: شاب وضيع المظهر قوبل بفتور حتى من المعترفين بصداقتهم للاصلاح . ولكن أي نجاح يمكن أن يحرزه هذا الانسان في المدينة التي طُرد منها فارل ؟ وكيف يستطيع م ثل هذا الانسان الذي تعوزه الشجاعة والخبرة أن يصمد لتلك العاصفة التي قد هرب من أمامها أقوى الرجال وأشجعهم؟ ”لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب ... الجنود“ (زكريا ٤ : ٦). ”اختار الله ضعفاء العالم ليخزي الاقوياء“، ”لان جهالة الله احكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس“ (١ كورنثوس ١ : ٢٧ و ٢٥). GC 258.2

بدأ فرومنت (وهذا هو اسم ذلك الشاب) عمله كمعلم مدرسة . فالحقائق التي علمها للاولاد في المدرسة رددوها على مسامع آبائهم في بيوتهم . وسرعان ما أقبل الوالدون ليستمعوا الى شرح الكتاب المقدس حتى امتلأت حجرة الدراسة بالمستمعين المنتبهين وقد وُزعت عليهم كتب العهد الجديد وبعض النبذ مجانا فوصلت الى أيدي كثيرين ممن لم يجسروا على المجيء علانية ليسمعوا تلك التعاليم الجديدة . وبعد وقت أجبر هذا العامل أيضا على الهرب صونا لحياته، لكنّ التعاليم التي علمها للناس علقت بعقوله م. لقد زُرع الاصلاح وظل يقوى ويمتد . وقد عاد المبشرون، وبفضل جهودهم ثبتت العبادة البروتستانتية في جنيف أخيرا. GC 258.3

كانت المدينة قد أعلنت انحيازها الى جانب الاصلاح عندما دخل كلفن من أبوابها بعد جولات متعددة وتقلبات مختلفة مرت به . فاذ كان عائدا من آخر ز يارة لمسقط رأسه كان سائرا في طريقه الى بازل، فلما رأى جيوش شارل الخامس تسد عليه الطريق اضطر أن يتخذ طريقا دائريا يمر بجنيف. GC 259.1

في هذه الزيارة اعترف فارل بان يد الله تعمل . فمع أن جنيف قبلت العقيدة المصلحة الا انه كان باقيا عمل عظيم ينبغي انجازه فيه ا. فالناس لا يهتدون الى الله كجماعات بل كأفراد . وعملية التجديد ينبغي أن تتم في القلب والضمير بقوة الروح القدس لا بقرارات المجالس . وفيما طرح شعب جنيف عنهم سلطة روما لم يكونوا مستعدين تمام لان ينبذوا الرذائل التي تفشت تحت حكمها. ولم تكن مهمةً سهلة تثبيتُ مبادئ الانجيل الطاهرة في هذه المدينة واعداد شعبها ليملأ عن جدارة المركز الذي بد ا ان العناية الالهية تدعوه اليه. GC 259.2

كان فارل واثقا بانه قد وجد في كلفن الشخص الذي يمكنه أن يشركه معه في هذا العمل . وقد ناشد ذلك الواعظَ الش اب باسم الله أن يبقى ليخدم معه . لكنّ كلفن تراجع فزع ا. فاذ كان بطبعه خجولا ومحبا للسلام فقد أجفل من الاحتكاك بأهل جنيف الذين كانت روحهم جريئة ومعتزة بنفسها وعنيفة . ثم ان اعتلال صحته وولعه بالدرس والاطلاع جعلاه يميل الى العزلة وينشده ا. واذ كان يعتقد انه بكتاباته يمكنه أن يسدي أجلّ الخدمات لقضية الاصلاح كان يرغب في أن يجد لنفسه معتكفا هادئا فيه ينكّب على الدرس، وهكذا فعن طريق المطبوعات يستطيع أن يعلم الكنائس ويبنيها. لكنّ انذار فارل المهيب المقدس جاءه كأنه صوت من السم اء فلم يجرؤ على الرفض . وقد قال ”انه تراءى له وكأن يد الله قد امتدت اليه من السماء لتمسك به، وثبتته على نحو قاطع في المكان الذي كان يرغب كل الرغبة في تركه“ (٢١٢). GC 259.3